يعيد المؤرخ الفرنسي هنري لورنس جذور الهوية القومية العربية إلى المختبر الاستشراقي الفرنسي، وبالتحديد إلى حملة بونابرت على مصر التي سمحت بإطلاق المولود المختبري في البراري العثمانية.
وفقاً للورنس، إذا كانت الحملة قد عجزت عن استيلاد تلك الفكرة الاستشراقية قيصرياً من الرحم العثماني الذي سرعان ما تبيّن أنه خالٍ منها، لكنها نجحت على الأقل بتلقيحه. الأمر الذي سمح بنمو فكرة "هوية عربية" في كنفه ضمن سياقات داخلية وخارجية لاحقة.
وككل مولود ناتج عن الاغتصاب، وُلدت العروبة مضطربة. فمن جهة، تماهت مع الأم العثمانية المُغتصَبة وخالت أنها كانت هي المستهدفة في حملة بونابارت. ومن جهة أخرى، أسقطت وجه الأب المغتصب على الأم المنسيّة، وما عادت ترى في هذه الأخيرة سوى مغتصب آخر سبق الأول.
غنيّ عن القول، إن هذا المولود البائس - وإن خال نفسه واحداً - كان في الواقع توأماً سيامياً؛ رأسٌ إلى المغرب وآخر إلى المشرق. كان الانفصال، كما هو معروف، عنيفاً. خطف الأب الفرنسي العروبة المغربية، وفي الآن نفسه رفض الاعتراف بها وحفظها في حديقته الخلفية عرضة لكافة أشكال الاستغلال. أما العروبة المشرقية، فظلّت في عُهدة الأم التي تبرّجت وتترَّكت وصارت تتعامل معها كجسمٍ غريب ترى فيها بدورها وجه الأب المغتصب.
لاحقاً، وبعد مخاضات عسيرة، أنجبت الأختان أولاداً عديدين كلهم ذكورٌ يعانون من العقم. وكي تكتمل الدراما العائلية، عاد عدد من هؤلاء إلى حضن الجدّ الفرنسي مدفوعاً بعقدتي أوديب واستوكهولم (عقدة التعاطف مع العدو)، معطوفتين على الطفرة النيوليبرالية.
يعتقد الأولاد أنهم أبناء هوية واحدة، الأمر الذي يوفر عليهم مغبة الالتقاء والتعارف في العالم العربي، فلا يحصل ذلك إلا في باريس. وفي "الباغراوند" الفرنسي، يبدو العامل الطبقي هو الحاسم في تشكيل وتحديد العلاقة بين الهويتين. فأولاد العروبة المغربية، وهم سابقون في الهجرة، يشكّلون الأكثرية الكاسحة ويتحدّرون من هجرة اليد العاملة اليدوية الرخيصة والمستجلبة من الأرياف. في المقابل، يتحدّر المهاجرون المشارقة غالباً من الفئات الميسورة التي ترسل أبناءها للدراسة في فرنسا.
تكتشف الهويتان نفسيهما في هذا اللقاء ويؤدي ذلك إلى إعادة تموضع للعنصريات. القواتجي اللبناني الذي يصل إلى باريس وهو يكزّ على أسنانه تجده بعد شهور يشتم المغاربة على الطاولة نفسها مع السوري والفلسطيني (وتترسخ الصلة المشرقية أكثر إذ بوسعه أن يرى في هؤلاء امتداداً أقلوياً له)، ومحصلة موازية تجري على الطرف الآخر لدى الأخوين المغربيين اللدودين المغربي والجزائري، والتونسي المحيّر بين المشرق والمغرب.
يتهم المشارقة الأشقاء المغاربة بأنهم أساؤوا إلى سمعتهم. ويتناسون، على سبيل المثال لا الحصر، أن الأكثر تفرنساً و تغربناً بينهم، أي اللبنانيين، هم "مغاربة" أستراليا. وما يسمح بهذا الشكل من التمايز، هو تباين فعلي وسابق على الاصطدام الطبقي (التملص صعب في الولايات المتحدة مثلاً حيث يصعب على الفوارق الطبقية بين المشارقة أن تجد تبريراً قومجياً).
إن التباين يظهر أولاً على صعيد اللغة، فلو وضعنا مرجعية الفصحى جانباً، فليست اللهجات المغربية أقرب بالضرورة إلى اللهجات المشرقية مما هو عليه الحال بين الفرنسية والبرتغالية. لكن التباين الأكثر جذرية، قد يكمن في فهم كل من الطرفين للعروبة (ولا أتكلم هنا عن المثقفين، بل عن المواطن العادي).
يُفاجأ المشرقي حين يجد الفرنسيين يتكلمون عن العرب بوصفهم عرقاً، ويميزونهم عن البيض والسود كما لو أنه لم يكن هناك عرب بيض أو سود. إلا أنه سيُفاجأ أكثر حين يكتشف أن المغاربة يفهمون العروبة بوصفها هوية أنساب ويجزمون أمامه بثقة لا يداخلها أدنى شك بأنهم متحدّرون من "القبائل السعودية".
المغربي يريد بذلك أن يَطمَئنَّ المشرقي لعروبته، لكنه لا يدري أن جليسه يفهم العروبة بوصفها هوية ثقافية ترتكز أولاً على وحدة اللّغة وهو بعيد في الغالب عن أن يشتهي النسب الحجازي (إلا في حال السلالة النبوية لدى المسلمين). التباين يظهر أيضاً في العلاقة مع الأب الفرنسي، المغربي يخجل من جلده المُفَرنَس بينما يريد المشرقي أن يخرج من جلده العربي.
في الختام، كما يحصل في عدد من العائلات التي خبرت قصص الاغتصاب وسفاح القربى، صار بعض أولاد العروبة في المشرق والمغرب قتلة متسلسلين (serial killer)، وانتقلت العدوى إلى أقاربهم في الضواحي الفرنسية. كل ذلك يمنعنا من توقع نهاية مكسيكية للدراما.