04 نوفمبر 2024
مفاجآت المصريين
من قلب السواد الحالك الذي تمر به مصر منذ سنوات، بدا فجأة أن خيط نور يلوح من بعيد، كما لو كان يحاول التسلل من "خرم إبرة"، ليكسر ظلمة المشهد. فكل الحسابات التقليدية تقف عاجزة عن تفسير مشهد يضم مسارات متوازية ومتكاملة، بشكل غريب مثير للدهشة.
ليس جديداً أن المصريين يملكون قدرة غريبة على مفاجأة العالم. تارة بخضوعٍ شبه مطلق، وانصياع لكل ذي قوة أو صاحب سلطة، كما لو كانوا موتى إلى يوم يُبعثون. وتارةً بالانتفاض والانفجار من دون قيود أو محاذير، كما لو تلبستهم روح غيفارا. وما تشهده مصر في الأيام القليلة الماضية يؤكد أن الشعب المصري غير قابل للتنبؤ.
عندما خرج المصريون في يناير/كانون الثاني 2011، لم تكن الأوضاع وقتئذ بالسوء والتردّي الحاصل حالياً في كل المجالات. وعلى الرغم من ذلك كله، كانت لهبتهم تحضيرات وإشارات، ودروس من تونس. وبعد ثماني سنوات، تنطق أحوال مصر والمصريين بأن دواعي النزول والاحتجاج أقوى عشرات المرات. وعلى الرغم من ذلك، لم يتوقع أحد في مصر ولا خارجها أن يجرؤ مصري واحد على الاحتجاج العلني، بل والنزول إلى الشارع. ولم تقتصر المفاجأة على التحدّي، أو بالأحرى الفدائية الكامنة في إعلان الغضب من حيث المبدأ، لكن المفاجأة شملت أيضاً النطاق الجغرافي للاحتجاجات، فقد امتدت التظاهرات إلى أكثر من محافظة خارج القاهرة. أما المذهل بحق فهو كسر تابوهاتٍ كانت مقدّسة، طوال السنوات الست الماضية، فقد وصلت الهتافات في الشوارع إلى حد المطالبة بسقوط عبد الفتاح السيسي. بل مزّق متظاهرون لافتة كبيرة تحمل صورته، وهي المرة الأولى التي يتعرض فيها السيسي إلى هذا المستوى من النقد والإهانة. هذه هي مصر، شديدة التحمّل والصبر إلى أجل غير معلوم، ثم منفلتة وثورية من دون سابق إنذار أو تصاعد تدريجي للغضب والتململ.
ولا يتعارض هذا التفسير القدري، مع أهمية الدور الذي لعبه الممثل المصري، محمد علي، بمعلوماته الخطيرة وفيديوهاته البسيطة المؤثرة، وأسلوبه الشعبوي القريب من عوام المصريين. فقد كان ظهوره بمثابة الشرارة التي فجرت الغضب المكتوم داخل المصريين. تماماً كما كان خالد سعيد الشرارة التي فجرت ثورة يناير، وقبلها محمد بوعزيزي شرارة الثورة التونسية.
وثمة إشارات قوية إلى وجود جهة، أو مجموعة، ما داخل مؤسسات الدولة، بدأت سريعاً في تحريك مسارات موازية لمسار محمد علي وتنشيطها. منها ظهور الناشط السيناوي مسعد أبو فجر بمعلومات شديدة الخطورة عما يجري في سيناء. ومنها أيضاً تغريدات وبيانات منسوبة لرئيس الأركان الأسبق، سامي عنان، الخاضع لإقامة جبرية.
لولا محمد علي ما تشجع مسعد أبو فجر، ولما تشجع عنان. ولربما ظل المصريون سنواتٍ على حالهم، صابرين محتسبين. ولكن المؤكد أن لا تفسير منطقياً لظهور محمد علي في هذا التوقيت تحديداً، وليس قبل عام، أو بعد عام. ويزيد الأمر إثارة وغموضاً الموقف الهادئ لقوات الشرطة وعقلانية تعاملها مع التظاهرات، فمن غير المتوقع بحال أن تكون الشرطة ضمن الجهات أو المجموعات التي ربما تؤيد التظاهر، وتشجع احتجاج المصريين على حكم السيسي. والثابت دائماً أن أي محاولة للتظاهر أو الاحتجاج تُقابَل بقسوة وعنف كفيليْن بإجهاضها خلال دقائق. وهناك سببان محتملان لهذا التحول في أسلوب الشرطة المصرية. الأول تجربة يناير المريرة، بما فيها من إهانة وانكسار ومواقف مؤلمة لم تنمح بعد من ذاكرة جنود الشرطة وضباطها. والثاني هو الخشية من تحميل الشرطة بمفردها مسؤولية ما قد تؤول إليه الأحداث، وتصديرها منفردة في مواجهة الشعب، وربما التضحية بها لاحقاً، خصوصاً في ظل تغير التوازنات بين الأجهزة الأمنية بشكل كبير لمصلحة الأجهزة العسكرية والتكوينات التابعة للرئاسة، على حساب الشرطة.
في المحصلة، ثمّة خيوط كثيرة تقاطعت واجتمعت، ولم تتكشف كلها بعد. لكنها تؤكد، أن لدى مصر والمصريين مزيداً من المفاجآت للعالم.
عندما خرج المصريون في يناير/كانون الثاني 2011، لم تكن الأوضاع وقتئذ بالسوء والتردّي الحاصل حالياً في كل المجالات. وعلى الرغم من ذلك كله، كانت لهبتهم تحضيرات وإشارات، ودروس من تونس. وبعد ثماني سنوات، تنطق أحوال مصر والمصريين بأن دواعي النزول والاحتجاج أقوى عشرات المرات. وعلى الرغم من ذلك، لم يتوقع أحد في مصر ولا خارجها أن يجرؤ مصري واحد على الاحتجاج العلني، بل والنزول إلى الشارع. ولم تقتصر المفاجأة على التحدّي، أو بالأحرى الفدائية الكامنة في إعلان الغضب من حيث المبدأ، لكن المفاجأة شملت أيضاً النطاق الجغرافي للاحتجاجات، فقد امتدت التظاهرات إلى أكثر من محافظة خارج القاهرة. أما المذهل بحق فهو كسر تابوهاتٍ كانت مقدّسة، طوال السنوات الست الماضية، فقد وصلت الهتافات في الشوارع إلى حد المطالبة بسقوط عبد الفتاح السيسي. بل مزّق متظاهرون لافتة كبيرة تحمل صورته، وهي المرة الأولى التي يتعرض فيها السيسي إلى هذا المستوى من النقد والإهانة. هذه هي مصر، شديدة التحمّل والصبر إلى أجل غير معلوم، ثم منفلتة وثورية من دون سابق إنذار أو تصاعد تدريجي للغضب والتململ.
ولا يتعارض هذا التفسير القدري، مع أهمية الدور الذي لعبه الممثل المصري، محمد علي، بمعلوماته الخطيرة وفيديوهاته البسيطة المؤثرة، وأسلوبه الشعبوي القريب من عوام المصريين. فقد كان ظهوره بمثابة الشرارة التي فجرت الغضب المكتوم داخل المصريين. تماماً كما كان خالد سعيد الشرارة التي فجرت ثورة يناير، وقبلها محمد بوعزيزي شرارة الثورة التونسية.
وثمة إشارات قوية إلى وجود جهة، أو مجموعة، ما داخل مؤسسات الدولة، بدأت سريعاً في تحريك مسارات موازية لمسار محمد علي وتنشيطها. منها ظهور الناشط السيناوي مسعد أبو فجر بمعلومات شديدة الخطورة عما يجري في سيناء. ومنها أيضاً تغريدات وبيانات منسوبة لرئيس الأركان الأسبق، سامي عنان، الخاضع لإقامة جبرية.
لولا محمد علي ما تشجع مسعد أبو فجر، ولما تشجع عنان. ولربما ظل المصريون سنواتٍ على حالهم، صابرين محتسبين. ولكن المؤكد أن لا تفسير منطقياً لظهور محمد علي في هذا التوقيت تحديداً، وليس قبل عام، أو بعد عام. ويزيد الأمر إثارة وغموضاً الموقف الهادئ لقوات الشرطة وعقلانية تعاملها مع التظاهرات، فمن غير المتوقع بحال أن تكون الشرطة ضمن الجهات أو المجموعات التي ربما تؤيد التظاهر، وتشجع احتجاج المصريين على حكم السيسي. والثابت دائماً أن أي محاولة للتظاهر أو الاحتجاج تُقابَل بقسوة وعنف كفيليْن بإجهاضها خلال دقائق. وهناك سببان محتملان لهذا التحول في أسلوب الشرطة المصرية. الأول تجربة يناير المريرة، بما فيها من إهانة وانكسار ومواقف مؤلمة لم تنمح بعد من ذاكرة جنود الشرطة وضباطها. والثاني هو الخشية من تحميل الشرطة بمفردها مسؤولية ما قد تؤول إليه الأحداث، وتصديرها منفردة في مواجهة الشعب، وربما التضحية بها لاحقاً، خصوصاً في ظل تغير التوازنات بين الأجهزة الأمنية بشكل كبير لمصلحة الأجهزة العسكرية والتكوينات التابعة للرئاسة، على حساب الشرطة.
في المحصلة، ثمّة خيوط كثيرة تقاطعت واجتمعت، ولم تتكشف كلها بعد. لكنها تؤكد، أن لدى مصر والمصريين مزيداً من المفاجآت للعالم.