لم يُظهر وزير الخارجية الفرنسي، لوران فابيوس، الحد الأدنى من الحماس الذي ظهر على وجوه نظرائه الغربيين وهم يثمّنون اتفاق لوزان، في أول تصريح له بعد التوقيع على الاتفاق الإطاري في لوزان بين إيران ودول مجموعة "الخمسة + واحد".
فقد حرص الوزير الفرنسي، في حديث لإذاعة "أوروبا واحد"، على التقليل من أهمية الإنجاز الذي جرى التوصل إليه في لوزان بعد ثمانية أيام من المفاوضات الماراتونية، وعاد إلى نبرته المتصلبة تجاه إيران، قائلاً: "لا شيء محسوم حتى الساعة، ولا يزال الاتفاق النهائي بحاجة إلى ضمانات قوية من طرف إيران بخصوص تخليها النهائي عن طموحاتها النووية". غير أن فابيوس عاد ليؤكد أيضاً أن هذا الاتفاق يمثّل أرضية متينة وقابلة للتحقق، خصوصاً لجهة مراقبة تخفيض الإنتاج الإيراني لليورانيوم المخصّب وربطه بآلية رفع العقوبات الدولية، مؤكداً أن هذا الاتفاق الإطاري يمهّد الطريق بشكل جدي لصياغة اتفاق نهائي وحاسم قبل تاريخ 30 يونيو/ حزيران المقبل.
وكشف فابيوس عن وجود خلافات بينه وبين نظيره الأميركي جون كيري في الساعات الأخيرة من مفاوضات لوزان، قائلاً: "الأميركيون والإيرانيون اقترحوا نصاً، لكننا رفضناه، لأننا اعتبرناه، أنا والرئيس فرانسوا هولاند، غير كافٍ ولا يقدّم ضمانات متينة. المفاوض الإيراني هدد بالعودة إلى بلاده وتقديم استقالته، لكنه في النهاية لم يغادر القاعة. هكذا نظر الجميع إلى فرنسا نظرة خاصة وفهموا أن فرنسا ترغب في الوصول إلى اتفاق شرط أن يكون اتفاقاً متيناً".
والواقع أن المفاوض الفرنسي، حسب عدة مصادر متطابقة، كان في غاية التصلّب ولعب أحياناً دور المعرقل لتقدّم المفاوضات في اتجاه صيغة مقبولة، خصوصاً في مسألة الرفع التدريجي وليس الفوري للعقوبات الاقتصادية وآليات المراقبة الدولية لتخفيض إيران لإنتاج اليورانيوم المخصب.
اقرأ أيضاً: النووي الإيراني: مفاوضات شاقة مهّدت للاتفاق
وأكدت مصادر دبلوماسية، لـ"العربي الجديد"، أن مغادرة فابيوس المفاجئة لمفاوضات لوزان، الأربعاء الماضي، مرتبطة بالتشدد الفرنسي حول طاولة المفاوضات، وأن فابيوس عاد للقاء هولاند ليخبره بتفاصيل التفاهم الأميركي الإيراني، قبل أن يعود الخميس إلى لوزان للتوقيع على الاتفاق الإطاري.
ويرى محللون أن فرنسا وقّعت الاتفاق على مضض ونزولاً عند الإصرار الأميركي، ومن هنا الحذر الفرنسي المبالغ فيه في ما يخص التوصل إلى اتفاق نهائي قبل 30 يونيو المقبل. ويرى السفير السابق لفرنسا في طهران، فرانسوا نيكولو، أن التصلّب الفرنسي لم يلقَ تجاوباً من المفاوضين الآخرين الذين جاروا كيري في سعيه الحثيث للتوصل إلى صيغة اتفاق تنال رضا الجميع، وخصوصاً أن كيري لم يتردد في انتقاد أولئك الذين "يصرون على استسلام تام لإيران"، معتبراً أن التجاوب الايراني مع المطالب الغربية كان إيجابياً في ما يخص النقاط الخلافية الكبرى: مدة الاتفاق التي تصل إلى 15 عاماً في بعض الملفات التقنية، والتقليص الصارم لكميات اليورانيوم المخصب، والرفع التدريجي وليس الفوري للعقوبات، والمراقبة الدولية اللصيقة للمنشآت النووية الإيرانية.
وبرر فابيوس إصرار فرنسا على اتفاق إطاري صارم ومتين بين الدول الست الكبرى وإيران، برغبة بلاده في منح ضمانات قوية لحلفائها في المنطقة، خصوصاً الدول الخليجية وإسرائيل بخصوص مطامح إيران النووية.
يُذكر أن التشدد الفرنسي حيال المفاوضين الإيرانيين تصاعد خلال الأشهر الأخيرة، وكان منسجماً بالأحرى مع إسرائيل التي ضغطت بشدة لعرقلة أي اتفاق من أي نوع في لوزان، إلى حد أن نائباً اشتراكياً من الحزب الحاكم انتقد وراء الستار أداء فابيوس، معتبراً أنه "تحوّل إلى وزير خارجية بلد آخر وليس فرنسا!".
لكن تصلّب فابيوس في المفاوضات حول الملف النووي الإيراني له أيضاً دوافع شخصية وذكريات مزعجة. فالرجل له تجربة مريرة مع إيران بدأت عام 1984 حين عيّنه الرئيس الاشتراكي الراحل، فرانسوا ميتران، رئيساً للوزراء. آنذاك، وجد فابيوس ملفاً ساخناً ينتظره وتعرّض لضغوطات إيرانية قوية من أجل تطبيق معاهدة "أوروديف" النووية التي جمّدتها فرنسا بعد اندلاع الثورة الإيرانية. وكانت فرنسا وقّعت هذه الاتفاقية مع شاه إيران عام 1974 لبناء مؤسسة نووية فرنسية إيرانية لتخصيب اليورانيوم مقابل مليار دولار واحتفاظ إيران بعشرة في المئة من اليورانيوم المخصب.
على أن الأسابيع المقبلة ستشهد عودة المفاوضين للعمل على مسودة اتفاق نهائي، وسيظهر جلياً مدى التحوّل في الموقف الفرنسي في الملف النووي الإيراني، فهل سيبقى مغرداً خارج السرب الغربي أم أنه سيدفع في اتجاه اتفاق تاريخي ينهي الأزمة الدولية مع إيران ويفتح الباب أيضاً لعودة العلاقات الطبيعية بين باريس وطهران، وخصوصاً أن فابيوس أعلن أن عودة طبيعية للعلاقات السياسية والاقتصادية بين فرنسا وإيران واردة في حال التوصل إلى اتفاق نهائي مع إيران بحلول 30 يونيو المقبل، كما لم يستبعد أن يزور طهران لتدشين صفحة جديدة من العلاقات مع إيران بعد التوصل إلى اتفاق نهائي.