تاريخ الفلسطينيين في سورية يعود إلى عام النكبة. هناك احتفظ اللاجئون بمفاتيح بيوتهم في فلسطين المحتلة بأمل العودة إليها. لكنّ حرب سورية هجّرتهم مجدداً من مخيماتهم، وأضافت إلى مفتاح عودتهم الأصلي مفتاحاً آخر
في تاريخٍ توسَّط النكبة والنكسة في خمسينيات القرن الماضي، وعلى بعدِ ثمانية كيلومتراتٍ من قلب العاصمة السورية دمشق، دُقّ أوّل أوتاد خيام اللاجئين الفلسطينيين في مساحة كيلومترين مربعين من أرضٍ سيطلق عليها بعد حين، اسم مخيم اليرموك.
حمل النازحون إلى المخيم في حقائبهم الصغيرة قليلاً من المتاع وكثيراً من أملٍ بعودةٍ قريبةٍ إلى أرضٍ اقتلعوا منها ظلماً وعدواناً على مرأى من العالم بل بمشاركته.
لم يمضِ عقدٌ من الزمن على خيمة اليرموك الأولى، حتى جاءت هزيمة العرب عام 1967، التي كانت إشارةً واضحةً لكلّ فلسطيني أنّه سيحتفظ بمفتاح داره، الذي لا يفارقه، طويلاً، في منفى لم يختره هو، بل أُجبر عليه.
300 ألف نسمة أو أكثر، وصل عدد سكان مخيم اليرموك قبل اندلاع الثورة السورية في مارس/ آذار 2011، أي نحو نصف الفلسطينيين اللاجئين على الأراضي السورية ممن يحملون صفة "فلسطيني سوري". فلسطيني سوري... تجسدت كحقيقة اجتماعية قبل أن تكون توصيفاً قانونياً، أو جملة على وثيقة شخصية رسمية، فقد شكل فلسطينيو سورية جزءاً أساسياً من نسيج البلاد الاجتماعي والاقتصادي، خصوصاً في عاصمة شتاتهم كما يسمونها؛ مخيم اليرموك، الذي جعل منه اللاجئون هناك حيّاً جديداً من أحياء دمشق، لا يقل أحياناً عن أرقى أحيائها في الحركة التجارية والتنوع السكاني.
لكن، مع بداية الربيع العربي، كان مخيم اليرموك على موعد مع أحداث ستغير وجهه ربما للأبد. وبالرغم من جهود حثيثة بذلت لتجنيب المخيم الانزلاق في كرة النار السورية الملتهبة، وإبقائه ملاذاً آمناً للنازحين إليه من المناطق الثائرة المجاورة، فإنّ عوامل عدة تضافرت لتجعل اليرموك في أتون الصراع، في مقدمتها مسعى النظام للعب بالورقة الفلسطينية، ودفع سكان المخيم إلى مغادرته، ثم تجويع من بقي منهم، وصولاً الى تدميره كما يحصل اليوم بحجة محاربة تنظيم "داعش" الذي استقدمه النظام إلى تلك المنطقة من عدم.
اقــرأ أيضاً
أبو أحمد أو الحاج هاشم عثمان غزاوي، فلسطيني يعيش الآن غربته الثانية في ألمانيا. استقبل عامه الستين قبل أشهر. حطّ رحاله في مخيم اليرموك وهو ابن 12 عاماً عام 1970 بعد مغادرتهم قطاع غزة حتى خرج منه عام 2015. يتحدث بحرقة عن نصف قرن من الذكريات: "المخيم كان موطناً بعد موطن... كنا نرى فيه فلسطين مصغرة... وكان الفلسطينيون فيه من كلّ قرية ومدينة تقريباً". يضيف لـ"العربي الجديد" بصوت مخنوق عبر "سكايب": "45 عاماً أمضيتها في المخيم، عشنا في البداية كتجمع للفلسطينيين فقط، بعدها أصبح المخيم محجاً حتى للسوريين. كانت بيوتنا وبيوتهم واحدة وصارت علاقتنا معهم أقوى ما تكون فيه العلاقة بين شعب لاجئ وشعب مستضيف".
أما عن العادات والمناسبات، يقول الحاج أبو أحمد: "كانت عاداتنا لا تختلف عما كنا نفعله في غزة، فأعراسنا لم تخلُ من الأهازيج والأغاني الفلسطينية، ولا الحدا الفلسطيني المعروف". يتابع: "كانت كلّ الأمور على ما يرام، ولمّا بدأت الثورة قررنا التزام الحياد، لأنّ تجربتنا مع النظام السوري مريرة ومعروفة في تل الزعتر، لكن، هناك شيء ما حدث، وقلب الأمور رأساً على عقب". أما في ما أعقاب تلك المرحلة، فيقول أبو أحمد: "في أواخر عام 2012، بدأنا نواجه قصفاً للنظام بالقذائف والطائرات للمخيم... قصف لا يميز صغيراً من كبير، مدنياً من مسلح. غرق اليرموك بالدم الذي ربما قدر علينا كفلسطينيين ملازمته للأبد. استمرت الأوضاع بالتدهور، خصوصاً في منتصف 2013، عندما بدأ النظام في مرحلة الحصار الشديد للمخيم، المرحلة التي لن تُنسى من ذهن كلّ من عاشها حينها".
عن هذا الحصار، يقول عهد فوراني، وهو خمسيني من قضاء صفد كان يعمل بائعاً للخضار في مخيم اليرموك، وأمضى أربعين عاماً من عمره بين حاراته، ويستقر الآن وعائلته في شمال حلب: "كان دكاني في حارة فرعية قريبة من شارع شهير يسمى شارع الجاعونة. قبل بدء الحصار الجائر لمخيمنا كنت ككلّ صباح أستيقظ باكراً لأتوجه إلى سوق الهال لشراء البضائع. أعود لأفردها في جوانب الدكان وأرشها بالمياه، مستمتعاً بالكمية الكبيرة من البضائع التي تزين دكاني". يكمل فوراني: "كان الجيران، وهم الزبائن نفسهم، إما أقارب لي وإما أصدقاء، وكان الدكان مكان اجتماع بعضنا الصباحي، نشرب الشاي، نتحدث عن كلّ شيء، عن فلسطين، وسورية، والخضار، والفواكه، والأولاد، وعن جمال النساء أحياناً، لكن بعد عام 2013 تغير كلّ شيء تماماً، فالحي محاصر، والدخول والخروج منه ممنوع، رفوف دكاني، كما رفوف كلّ محلات الحي، باتت فارغة، ولم يعد لذهابي إلى الدكان من سبب".
يصف الحال الصعب بقوله: "يصعب عليّ أن أتذكر تلك الأيام، ويصعب عليّ وصفها، أتدرك ماذا يعني لك أن تسمع صوت بكاء ابنك ذي الثلاثة أعوام وهو جائع من دون أن تستطيع أن تفعل شيئاً، أتدرك ما معنى أن يمرّ عليك 15 يوماً من دون أن ترى خبز الشعير حتى، إن كنت تدرك فهذا بعض مما جرى لنا، أكلنا بقايا كسرات الخبز وبحثنا عن الأعشاب، ربما المتسلقة على جدران البنايات الرطبة، وبعض الناس هناك رأيتهم يطاردون القطط علّهم يحصّلون من لحمها قوتاً لبطون أطفالهم".
اقــرأ أيضاً
يتابع لـ"العربي الجديد" عن وضع المخيم اليوم: "المخيم؟ وهل بقي مخيم؟ من يهتم أصلاً لأمر المخيم، الذي بات دماراً فوق دمار ومجرد شوارع فارغة من أهله الذين لطالما مشوا في زواريبه وعاشوا فيه لحظات الفرح والألم. أظن أنّ عودتنا إلى المخيم باتت مستحيلة وهذا أمر ممنهج ومتفق عليه بين أطراف عدة لإبعاد الفلسطينيين عن العاصمة دمشق. نتمنى العودة يوماً لزيارته على الأقل. نحتفظ بمفتاح آخر لبيت ثانٍ بعد بيتنا الأول في فلسطين".
في تاريخٍ توسَّط النكبة والنكسة في خمسينيات القرن الماضي، وعلى بعدِ ثمانية كيلومتراتٍ من قلب العاصمة السورية دمشق، دُقّ أوّل أوتاد خيام اللاجئين الفلسطينيين في مساحة كيلومترين مربعين من أرضٍ سيطلق عليها بعد حين، اسم مخيم اليرموك.
حمل النازحون إلى المخيم في حقائبهم الصغيرة قليلاً من المتاع وكثيراً من أملٍ بعودةٍ قريبةٍ إلى أرضٍ اقتلعوا منها ظلماً وعدواناً على مرأى من العالم بل بمشاركته.
لم يمضِ عقدٌ من الزمن على خيمة اليرموك الأولى، حتى جاءت هزيمة العرب عام 1967، التي كانت إشارةً واضحةً لكلّ فلسطيني أنّه سيحتفظ بمفتاح داره، الذي لا يفارقه، طويلاً، في منفى لم يختره هو، بل أُجبر عليه.
300 ألف نسمة أو أكثر، وصل عدد سكان مخيم اليرموك قبل اندلاع الثورة السورية في مارس/ آذار 2011، أي نحو نصف الفلسطينيين اللاجئين على الأراضي السورية ممن يحملون صفة "فلسطيني سوري". فلسطيني سوري... تجسدت كحقيقة اجتماعية قبل أن تكون توصيفاً قانونياً، أو جملة على وثيقة شخصية رسمية، فقد شكل فلسطينيو سورية جزءاً أساسياً من نسيج البلاد الاجتماعي والاقتصادي، خصوصاً في عاصمة شتاتهم كما يسمونها؛ مخيم اليرموك، الذي جعل منه اللاجئون هناك حيّاً جديداً من أحياء دمشق، لا يقل أحياناً عن أرقى أحيائها في الحركة التجارية والتنوع السكاني.
لكن، مع بداية الربيع العربي، كان مخيم اليرموك على موعد مع أحداث ستغير وجهه ربما للأبد. وبالرغم من جهود حثيثة بذلت لتجنيب المخيم الانزلاق في كرة النار السورية الملتهبة، وإبقائه ملاذاً آمناً للنازحين إليه من المناطق الثائرة المجاورة، فإنّ عوامل عدة تضافرت لتجعل اليرموك في أتون الصراع، في مقدمتها مسعى النظام للعب بالورقة الفلسطينية، ودفع سكان المخيم إلى مغادرته، ثم تجويع من بقي منهم، وصولاً الى تدميره كما يحصل اليوم بحجة محاربة تنظيم "داعش" الذي استقدمه النظام إلى تلك المنطقة من عدم.
أبو أحمد أو الحاج هاشم عثمان غزاوي، فلسطيني يعيش الآن غربته الثانية في ألمانيا. استقبل عامه الستين قبل أشهر. حطّ رحاله في مخيم اليرموك وهو ابن 12 عاماً عام 1970 بعد مغادرتهم قطاع غزة حتى خرج منه عام 2015. يتحدث بحرقة عن نصف قرن من الذكريات: "المخيم كان موطناً بعد موطن... كنا نرى فيه فلسطين مصغرة... وكان الفلسطينيون فيه من كلّ قرية ومدينة تقريباً". يضيف لـ"العربي الجديد" بصوت مخنوق عبر "سكايب": "45 عاماً أمضيتها في المخيم، عشنا في البداية كتجمع للفلسطينيين فقط، بعدها أصبح المخيم محجاً حتى للسوريين. كانت بيوتنا وبيوتهم واحدة وصارت علاقتنا معهم أقوى ما تكون فيه العلاقة بين شعب لاجئ وشعب مستضيف".
أما عن العادات والمناسبات، يقول الحاج أبو أحمد: "كانت عاداتنا لا تختلف عما كنا نفعله في غزة، فأعراسنا لم تخلُ من الأهازيج والأغاني الفلسطينية، ولا الحدا الفلسطيني المعروف". يتابع: "كانت كلّ الأمور على ما يرام، ولمّا بدأت الثورة قررنا التزام الحياد، لأنّ تجربتنا مع النظام السوري مريرة ومعروفة في تل الزعتر، لكن، هناك شيء ما حدث، وقلب الأمور رأساً على عقب". أما في ما أعقاب تلك المرحلة، فيقول أبو أحمد: "في أواخر عام 2012، بدأنا نواجه قصفاً للنظام بالقذائف والطائرات للمخيم... قصف لا يميز صغيراً من كبير، مدنياً من مسلح. غرق اليرموك بالدم الذي ربما قدر علينا كفلسطينيين ملازمته للأبد. استمرت الأوضاع بالتدهور، خصوصاً في منتصف 2013، عندما بدأ النظام في مرحلة الحصار الشديد للمخيم، المرحلة التي لن تُنسى من ذهن كلّ من عاشها حينها".
عن هذا الحصار، يقول عهد فوراني، وهو خمسيني من قضاء صفد كان يعمل بائعاً للخضار في مخيم اليرموك، وأمضى أربعين عاماً من عمره بين حاراته، ويستقر الآن وعائلته في شمال حلب: "كان دكاني في حارة فرعية قريبة من شارع شهير يسمى شارع الجاعونة. قبل بدء الحصار الجائر لمخيمنا كنت ككلّ صباح أستيقظ باكراً لأتوجه إلى سوق الهال لشراء البضائع. أعود لأفردها في جوانب الدكان وأرشها بالمياه، مستمتعاً بالكمية الكبيرة من البضائع التي تزين دكاني". يكمل فوراني: "كان الجيران، وهم الزبائن نفسهم، إما أقارب لي وإما أصدقاء، وكان الدكان مكان اجتماع بعضنا الصباحي، نشرب الشاي، نتحدث عن كلّ شيء، عن فلسطين، وسورية، والخضار، والفواكه، والأولاد، وعن جمال النساء أحياناً، لكن بعد عام 2013 تغير كلّ شيء تماماً، فالحي محاصر، والدخول والخروج منه ممنوع، رفوف دكاني، كما رفوف كلّ محلات الحي، باتت فارغة، ولم يعد لذهابي إلى الدكان من سبب".
يصف الحال الصعب بقوله: "يصعب عليّ أن أتذكر تلك الأيام، ويصعب عليّ وصفها، أتدرك ماذا يعني لك أن تسمع صوت بكاء ابنك ذي الثلاثة أعوام وهو جائع من دون أن تستطيع أن تفعل شيئاً، أتدرك ما معنى أن يمرّ عليك 15 يوماً من دون أن ترى خبز الشعير حتى، إن كنت تدرك فهذا بعض مما جرى لنا، أكلنا بقايا كسرات الخبز وبحثنا عن الأعشاب، ربما المتسلقة على جدران البنايات الرطبة، وبعض الناس هناك رأيتهم يطاردون القطط علّهم يحصّلون من لحمها قوتاً لبطون أطفالهم".
يتابع لـ"العربي الجديد" عن وضع المخيم اليوم: "المخيم؟ وهل بقي مخيم؟ من يهتم أصلاً لأمر المخيم، الذي بات دماراً فوق دمار ومجرد شوارع فارغة من أهله الذين لطالما مشوا في زواريبه وعاشوا فيه لحظات الفرح والألم. أظن أنّ عودتنا إلى المخيم باتت مستحيلة وهذا أمر ممنهج ومتفق عليه بين أطراف عدة لإبعاد الفلسطينيين عن العاصمة دمشق. نتمنى العودة يوماً لزيارته على الأقل. نحتفظ بمفتاح آخر لبيت ثانٍ بعد بيتنا الأول في فلسطين".