على حدود شرق مخيم البريج، في قطاع غزة الفلسطيني المحاصر، يغني أيمن الرواغ مع أخيه مصعب أغاني الدحية البدوية القديمة مستخدماً آلة الأرغول النفخية، ويردد البقية وراءه الكلمات ويحركون أيديهم. يرقص الشبان بالقرب من خيام العودة كما كان يرقص أجدادهم إلى جانب خيام الشعر البدوية في بئر السبع جنوب فلسطين التاريخية.
يحيي الشقيقان الرواغ كثيراً من الحفلات الفلسطينية على الطريقة البدوية، ويفضلان السهر والجلوس بالقرب من نيران الحطب وشرب الشاي والقهوة من الأباريق النحاسية الكبيرة عادة. هذه المرة يقصدان في كلّ ليلة إحدى خيام العودة التي يجتمع فيها أصدقاؤهم من البدو.
تمتلئ سهرتهم بالنكت القديمة والضحك، فيتحدثون عن نوادر جحا وشخصية البدوي الفلسطيني، بالإضافة إلى كلّ المواضيع الرياضية والاجتماعية. أما على الصعيد السياسي فيجمعهم رأي واحد أنّ وجودهم على الحدود وبقاء خيمتهم أساسي حتى لو قرر آباؤهم إلغاء الخيمة، لأنّ الظروف الاجتماعية والسياسية في قطاع غزة حرمتهم من هذه الجلسة منذ سنوات.
يعتبر أيمن الرواغ (32 عاماً) أنّ خيام العودة زادت من لحمة المجتمع من جديد وقرّبت عشيرتهم البدوية من بقية الفلسطينيين هنا، فبالقرب منهم مثلاً خيمة لعائلتين لاجئتين من بلدة بيت دراس قضاء مدينة اللد الفلسطينية، من أصول فلاحية. يقول الرواغ لـ"العربي الجديد": "منذ منتصف الأسبوع الماضي، أي قبل مسيرات العودة ونحن نجتمع على الحدود، قررنا أن يكون الغناء ورقص الدحية جزءاً من صمود الفلسطيني للمطالبة في حقه، ولا فارق بين أحد، فكلّ الفلاحين والبدو وحتى أهل المدن والمخيمات يجمعهم الغناء والرقص التراثي كلّ يوم".
متطوعاً، يحضر عمار الدش فرقته المتخصصة في رقص الدبكة التراثية الفلسطينية، ومعها شبابته، وهي آلة موسيقية نفخية شعبية فلسطينية، لأداء عروض مجانية لإحياء التراث الفلسطيني داخل مناطق الخيام على الحدود. يشعر بالسعادة في تلك الأمسيات التي يسميها "حفلات العودة" ويطمح في يوم أن يؤديها داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة.
صادف الدش قبل يومين أحد المسنين المقيمين في خيام العودة يطلب منه الشبابة ليعزف عليها، وعندما بدأ المسن بالعزف كان عزفه غريباً وجميلاً. أخبره المسن أنّ الفلسطيني قديماً كان يعزف مع مواويل فيها كثير من الحكمة والعزم على الصمود في وجه الاستعمار البريطاني والجماعات الصهيونية. يقول الدش لـ"العربي الجديد": "هنا، بالقرب من الخيام، صادفت سعادة كبيرة لم أشعر بها من قبل، فالسهرات التي كانت في طفولتي عادت. همومنا اليومية والظروف النفسية والحصار الإسرائيلي أبعدتنا كثيراً عن التراث الفلسطيني وسهرات النار واللمّة حولها. أنا مستمر كلّ ليلة بالعزف مع فرقتي بعد إنهاء عملنا، لكي نساهم في إشعال الأمل من خلال ألحاننا ورقصنا".
لا تخلو سهرات الليل في خيام العودة من قصص وحكايات الكبار، فبعض الصغار يتجمعون أمام المسنة لطيفة أبو وردة (80 عاماً) في الخيام، شرقي بلدة جباليا، شمال القطاع، فتعلمهم بعض الأمثال الشعبية الفلسطينية، وتغني لهم الأغاني التي كانت الأمهات الفلسطينية يغنينها لأطفالهن قبل النوم.
أمّا أحمد الفلاح (35 عاماً) فقد ورث عن والده خليل الفلاح إعداد القهوة العربية بالطريقة القديمة، فيوزعها على الزائرين والمقيمين في الخيام. أصبحت قهوته المشروب المفضل للجميع في شرق بلدة عبسان، جنوب شرق قطاع غزة. يقول الفلاح لـ"العربي الجديد": "عند الحدود نتمكن من استعادة الحياة الفلسطينية القديمة. صدمت عندما صادفت الكثير من المسنين هنا معنا، ليخبروني أنّ الفلسطينيين كانوا يقضون كثيراً من السهرات المليئة بالمرح والودّ حول النار".
يا يمّا عشاق الحرية
أحد المشاهد الليلية في خيام العودة، غناء لطيفة أبو وردة (80 عاماً) للأطفال: "يا يمّا في دقة ع بابنا، يا يمّا هاي دقة أحبابنا، يا يمّا هاي دقة قوية، يا يمّا دقة فدائية، يا يمّا عشاق الحرية، يا يمّا دقوا على بوابنا". هذه الأغنية كانت تغنيها الأمهات الفلسطينيات وهن ينتظرن عودة أبنائهن الفدائيين من عمليات صدّ العصابات الصهيونية بين الثلاثينيات والنكبة.