منذ قابيل كان الموت يُجهّزُ نفسه لينال مني، وكان علي أن أمتلك نفسا طويلا كي أصافحه في كل مرة دون أن يلحظ سرعة تدفق الدم في عروقي، واصفرار الخوف من خريف مترقب، والتماع التوجس من حصاد المنجل الصدئ، حين رأيت الغراب تعلمت كيف أخفي دلائل الجريمة وبصمات روحي المرتجفة عن مقبض الباب الكبير الذي فتحته، الباب الذي دخلت منه كل حيوانات الغابة إلى النص الكبير/ الحياة.
كان نَفَسي طويلا حين طغى الماء وتسابق الناجون إلى السفينة، فيما سقطت في الماء وأنا أحاول الإمساك بسمكة تجيد الغرق ولا تفعله، فلا رغبة لديها بتغيير نوتة اللحن الذي اعتادت غناءه، كانت تلك أولى تجاربي مع الماء، وفيها تمالكت نفسي وتمسكت بالشهيق الذي سرقته من الحياة في انتظار أن يمد لي نوحٌ ما يده الطويلة حبل نجاة يوازي يد الموت الكبيرة، كان ابن عمتي آنذاك نوح اللحظة وقارب النجاة، وكان نفسي طويلا بما يكفي لأكسر حاجز الرهبة وأنا أشاهد النار الكبيرة تنهش الأرض، وقلت أدخلها بمحض إرادتي ما دامت قد أضرمت لأجلي، يحدث أن تتملكك الفراشات فلا ترى من النار سوى الضوء، يأخذك العشق لأن تمشي على شفيرها واثقا بقلبك وانتصارها لعطشك الواسع، تمتزج فيك كربلاء بما يعتريها من عطش بنار إبراهيم، يغيّر الموت تكتيكه ويمد لك الماء في الحالتين غير أنك تكسر ماءه بما تماهى فيك ومعك من العشق فتخرج صلبا وتنتصر بك رغبة الحياة مجددا.
يدس قناص ذئبه في منظار قناصته فينكشف قلبك/ الغزالة عليه، ويثبتك الثعلب/ العدو المتخفي بلباس صديق على خشب الصليب فيسيل الدم على المسامير وعلى حديد السكاكين في مجزرة مكتملة الفصول، بدا الموت أكثر تمرساً هذه المرة وهاهو ثانية يضغط على الزناد ويرفع الصليب ويشحذ همم السكاكين، وتكون الشجرة منقذك حين تلقت عنك مخالب الرصاصة، وحين حنّ قلب غصنها الذي رفعوا صلصالك عليه وحين التجأت إليها فأخفت عن عيون نصالهم خوفك المتسارع ونبضك المرتفع، إذاً أخفق الموت ثانية ولم يحصل عليك، غير أنه استطاع جرك نحو ساحته ولم يمنحك رباطة جأشه لتكون حليفه على الأرض بل جردك من الصبر وفتح مسارب روحك على البكاء وها أنت ذا تحيا لتشاهد أقرانك يذوون في مهب الرحيل يسيرون أمام عينيك في شريط الخبر العاجل كأنه صراطهم الدقيق، وإمعانا في تخريش بصرك وبصيرتك سلخ الموت عنهم أسماءهم ومنحهم أرقاما، ومجزرة تلو مجزرة بات يهزأ بك وأنت أنت لا تملك سوى العويل سراً والمكابرة على الألم جهراً، حين تصير رقما صعبا على الموت وتتعلم الطيران فوق جراحك يبدأ هو باستئصال الشجر ليصبح هبوطك سالما حلما، تلمّس جراحك الآن وعاين ما أصاب روحك من التلف، استعن بثقب الباب حيث يبدو العالم ضيقاً، مما يجعل المشهد مكثفا جدا يحتاج بعد تخزينه ليلا بكامل نجومه حتى هزيعه الأخير، لفكفكة الصورة والوصول إلى أجزائها البسيطة.
هذه ليست حكمة هندية ولا عبارة مقتبسة من فيلم فرنسي عن الحياة الأخرى، بل هي رؤية رجل جاوز السبعين وتجاوز حرائق البلاد وجلس وحيدا على مقعد خشبي في حديقة دار العجزة، متأملا المارة من أمام السور الذي يتخيله والباب الذي اعتاد أن يضع عينه محل مفتاحه حين كان طفلا صارخا من أعماقه في وجه العالم: أيها القفل الكبير ها قد وجدت مفتاحك. ولم يكن كبيرا، يتابع قائلا: عرفت الآن بأنّه الخيمة التي نصبها بدوي يطلق هال قهوته ونار سهراته رسائل ترشد الغرباء والمستطرقين إلى مكامن الوطن المترحل وهوية الإنسان، الهوية الأولى حيث تتمرد الروح على الموت معلنة: كل الأرض مسرحي فلماذا تود إسدال الستارة قبل انتهاء المشهد الأخير.
أيها الموت ستنتصر الحياة حتى ولو صار ألبوم الصور مقبرة جماعية.
(سورية)
كان نَفَسي طويلا حين طغى الماء وتسابق الناجون إلى السفينة، فيما سقطت في الماء وأنا أحاول الإمساك بسمكة تجيد الغرق ولا تفعله، فلا رغبة لديها بتغيير نوتة اللحن الذي اعتادت غناءه، كانت تلك أولى تجاربي مع الماء، وفيها تمالكت نفسي وتمسكت بالشهيق الذي سرقته من الحياة في انتظار أن يمد لي نوحٌ ما يده الطويلة حبل نجاة يوازي يد الموت الكبيرة، كان ابن عمتي آنذاك نوح اللحظة وقارب النجاة، وكان نفسي طويلا بما يكفي لأكسر حاجز الرهبة وأنا أشاهد النار الكبيرة تنهش الأرض، وقلت أدخلها بمحض إرادتي ما دامت قد أضرمت لأجلي، يحدث أن تتملكك الفراشات فلا ترى من النار سوى الضوء، يأخذك العشق لأن تمشي على شفيرها واثقا بقلبك وانتصارها لعطشك الواسع، تمتزج فيك كربلاء بما يعتريها من عطش بنار إبراهيم، يغيّر الموت تكتيكه ويمد لك الماء في الحالتين غير أنك تكسر ماءه بما تماهى فيك ومعك من العشق فتخرج صلبا وتنتصر بك رغبة الحياة مجددا.
يدس قناص ذئبه في منظار قناصته فينكشف قلبك/ الغزالة عليه، ويثبتك الثعلب/ العدو المتخفي بلباس صديق على خشب الصليب فيسيل الدم على المسامير وعلى حديد السكاكين في مجزرة مكتملة الفصول، بدا الموت أكثر تمرساً هذه المرة وهاهو ثانية يضغط على الزناد ويرفع الصليب ويشحذ همم السكاكين، وتكون الشجرة منقذك حين تلقت عنك مخالب الرصاصة، وحين حنّ قلب غصنها الذي رفعوا صلصالك عليه وحين التجأت إليها فأخفت عن عيون نصالهم خوفك المتسارع ونبضك المرتفع، إذاً أخفق الموت ثانية ولم يحصل عليك، غير أنه استطاع جرك نحو ساحته ولم يمنحك رباطة جأشه لتكون حليفه على الأرض بل جردك من الصبر وفتح مسارب روحك على البكاء وها أنت ذا تحيا لتشاهد أقرانك يذوون في مهب الرحيل يسيرون أمام عينيك في شريط الخبر العاجل كأنه صراطهم الدقيق، وإمعانا في تخريش بصرك وبصيرتك سلخ الموت عنهم أسماءهم ومنحهم أرقاما، ومجزرة تلو مجزرة بات يهزأ بك وأنت أنت لا تملك سوى العويل سراً والمكابرة على الألم جهراً، حين تصير رقما صعبا على الموت وتتعلم الطيران فوق جراحك يبدأ هو باستئصال الشجر ليصبح هبوطك سالما حلما، تلمّس جراحك الآن وعاين ما أصاب روحك من التلف، استعن بثقب الباب حيث يبدو العالم ضيقاً، مما يجعل المشهد مكثفا جدا يحتاج بعد تخزينه ليلا بكامل نجومه حتى هزيعه الأخير، لفكفكة الصورة والوصول إلى أجزائها البسيطة.
هذه ليست حكمة هندية ولا عبارة مقتبسة من فيلم فرنسي عن الحياة الأخرى، بل هي رؤية رجل جاوز السبعين وتجاوز حرائق البلاد وجلس وحيدا على مقعد خشبي في حديقة دار العجزة، متأملا المارة من أمام السور الذي يتخيله والباب الذي اعتاد أن يضع عينه محل مفتاحه حين كان طفلا صارخا من أعماقه في وجه العالم: أيها القفل الكبير ها قد وجدت مفتاحك. ولم يكن كبيرا، يتابع قائلا: عرفت الآن بأنّه الخيمة التي نصبها بدوي يطلق هال قهوته ونار سهراته رسائل ترشد الغرباء والمستطرقين إلى مكامن الوطن المترحل وهوية الإنسان، الهوية الأولى حيث تتمرد الروح على الموت معلنة: كل الأرض مسرحي فلماذا تود إسدال الستارة قبل انتهاء المشهد الأخير.
أيها الموت ستنتصر الحياة حتى ولو صار ألبوم الصور مقبرة جماعية.
(سورية)