27 يوليو 2020
مكعبات الليجو... صندوق سعادة الجد
أصبحت أتعثر في مكعبات الليجو في طرقات البيت مجدداً. أغضب لوهلة من أثرها في باطن قدمي أو خربشتها لأصابعي، ثم أتذكر أنها كانت اللعبة المفضلة لوليد، فتحضر صورته أمام عيني وهو كبير الآن، فيرف قلبي بفرحة وغصة مفاجئة في آن، وأتذكر سفره وابتعاده وأتمنى لو أراه.
أنحني لألتقط ما صادف قدمي من القطع المبعثرة، وأنادي على أبي بضيق مصطنع بأن عليه أن يقنع آدم بمشاركته في ترتيب المكان قبل مغادرته، وإلا سأقوم بإخفاء الصندوق كله، وأتركهم لملل حلقات الكرتون المعادة بلا ألعاب. يتمتم بما لا أسمعه، فأتوجه إلى غرفته لمواصلة تهديداتي الفارغة، فأراه يجلس على طرف سريره ويحاول اصطياد طاقيته الشتوية المعلقة بعيدا قرب الباب بعصاه، فأهِم بالتقاطها لمناولته إياها، فإذا بالعصا تلكزني في ذراعي وتزيحها عن الطاقية، فألتفت لأنظر له بلوم، فأجده يضحك بلؤم ثم يقطب في تمثيل للجدية، ويتابع محاولة اصطياد الطاقية بلا كلام.
"يا بابا.. لا وقت عندي للترتيب والتنظيف هذه الأيام. مهمات المنصب الجديد كثيرة وصعبة، وحالة ظهري لا تسمح بالمجهود، وأم جمعة غارقة في ولادة ابنتها لتوأم ولن تأتي قبل أسبوع آخر، وعليك أن تدرب الولد الصغير على النظام والترتيب.. سيدخل الحضانة هذا الشهر وأمه تشتكي من فوضويته ومن معاونتك له عليها!".
يسمع ولا يرد! أصبح يضيق بكلامي ويحاربني بالتجاهل! سبحان الله! مع أن آدم لا يكف عن الكلام!.
يمد لي ذراعه لأساعده في القيام، فأفعل، وأصحبه إلى غرفة الجلوس حيث ينتظر حضور الصغير رافضا الإفطار إلا معه. وأسمعه يحدث نفسه وهو يتأبط ذراعي: "آدم لا يريد الذهاب للحضانة أصلا. هو أخبرني بذلك".
أبتسم في عجب وأرد: "وهل الموضوع اختياري؟! سيذهب طبعا!"، فيسحب كفه الكبيرة من ذراعي بغيظ، ويواصل الخطوات المتبقية لمقعده وحده بمساعدة العصا، ويقول بضيق: "ألم تتأخري عن عملك بعد؟!"، فأنحني لأقبل رأسه، وأخبره بأن الولد وأمه على وشك الوصول، وبأن صينية الإفطار أمامه، وبأنني سأتصل في وسط النهار وعليه أن يرد حتى لا يقلقني ويجد الجيران يقتحمون عليه الشقة كما حدث الأسبوع الماضي.
عانينا معا في الأعوام الخمسة الماضية. تدهورت صحته كثيرا بعد موت أمي. كان قبلها يعتبر شيخاً ثمانينياً بصحة استثنائية. أما بعدها فقد تدهور سمعه وذاكرته القريبة، وتدهورت حالته النفسية وعزف عن الخروج وعن الكلام، وأصبحت مهمة إطعامه أشبه بإطعام الرضيع لأول مرة، فانتقل للعيش معي بلا مقاومة كبيرة. لم تكن حالته أيامها تتحمّل المقاومة والجدل.
البيت هنا كبير ووحدتي كأرملة منذ سنوات طويلة لن تضيق عن الصحبة حتى ولو بحمل مسؤولية رعايته. بالطبع لا أزهد صحبته ورعايته.. فلطالما كان هو مسؤولا عن رعايتي أنا ووحيدي وليد قبل وبعد ترملي.
لا أدري حقا متى وكيف تحولت لأصبح أمه لا ابنته؟ ولا أدري هل يضيق بذلك، أم يروقه، أم يقبله كأمر واقع لا حيلة في تغييره؟ عن نفسي ما زال هذا الوضع الجديد يربكني بالرغم من مرور السنين.
يحيرني الجمع بين السيطرة والقيادة واتخاذ القرار، وبين الخضوع والرفق والطاعة الواجبة له. وكثيرا ما يقلقني استرجاع كلماتي له ونظرات ضيقه أو تجاهله، فأحاسب نفسي وأفكر هل راضٍ هو أم ساخط؟.. وأرتجف لاحتمال السخط بعد كل ما له عليّ من فضل! ثم أهون على نفسي وأفكر لو أنني أُمّ له حقا لشب في حالٍ مريع! فهذا القلق المستمر من لياقة سلوكي معه يجعلني لا أثبت على كلمة أقولها! مترددة على الدوام بين الشد والإرخاء، وأظنه والله يدرك ذلك تماما ويستغله كأي طفل صغير يقيس مساحات ضعف أمه ويملأها كما يريد!
أعتقد أن ظهور آدم في حياته مؤخرا كان هدية السماء له بحق. عجوز يقترب من التسعين ويقضي حياةً صاخبةً طويلة لا تهدأ إلا بالمرض وفقد الشريكة وابتعاد الأبناء، فترسل له ينابيع الرحمة في هذا الكون فجأة حفيد جارتي ذا الثلاث سنوات ونصف السنة لينتشله من عجز الشيخوخة وكآبتها. تتركه أمه الموظفة مع جدته كالعادة، وتأتي الجدة لزيارتي صدفة، ويحدث السحر!
ينسجم الصغير مع أبي وكأنه صاحبه وفي مثل سنه. وأسمع صوت العجوز المنزوي يجلجل في غرفته بعد انقطاع سنين! بل وأسمعه يحكي ويضحك.. ويناديني بحماس سائلاً عن ألعاب وليد!
"ألعاب وليد يا بابا؟! وليد في الثانية والثلاثين يا عم الحاج ومسافر وأظنني تخلصت من ألعابه منذ دهور!"، فيصر على أنه رأى صندوق مكعبات الليجو الكبير الذي أهداه لوليد منذ زمن أثناء تنظيف أم جمعة في مكان ما من البيت.. ويلح ويلح فأضطر للبحث عن الصندوق حتى أجده وأعطيه لهما.. ومن يومها والصغير آدم جزء من حياتنا. هل أبالغ لو قلت إن وجوده أصبح يعني لأبي الحياة نفسها؟ هذا ما يبدو عليه الأمر فعلاً، حتى ليثير كل شجوني ومشاعري.
كثيرا ما أتلصص عليهما لأرى عيني أبي الخاملتين المترغرغتين بماء الوهن والسن وقد استحالتا جوهرتين لامعتين! فقط لأن آدم يلتقط بفمه حبة عنب من يده وهو مشغول بمتابعة الكرتون على التلفاز، أو لأنهما نجحا في إتمام السقف القرميدي للمنزل الذي يشيدانه بقطع الليجو منذ أيام، أو لأن أم الصغير ستبيت عند أمها وستطول فترة بقائه عندنا لساعتين مثلا!
أصبح أبي ينام أفضل حتى يستعد للقاء الصغير في الصباح. وأصبح يأكل أفضل لأنه يشاركه الطعام. ولا أظنه كان سعيدا أبدا ومتحررا من الهموم كما هو الآن. بل أصبح يطلب مني شراء حلوى الصغار لـ"يتقاسماها" معا! فأسمعهما على البعد يتشاكسان وأحدهما يضن بنصيبه عن الآخر، أو يقايضه بما لا يفضل من أصناف!
أنظر وأجدني أتعجب من نفسي ومن الناس! لا نصِف الحياة إلا بالصعوبة والمشقة والابتلاء. ولا نأتي على ذكر تصاريفها إلا بالتصعب ومصمصة الشفاه، فيما نتعامى عن لطائفها وجميل أقدارها. فها هي تهادي البائس المتعب حتى ولو أوشك قطار عمره على الوصول. وها هي تهبه جوهرتها العزيزة التي عاش باحثا عنها تسعين عاما على هيئة حبٍ صافٍ من طفل صغير. حب لا تعكره أوصاف ولا حسابات. ولا تحده أطرٌ ولا أدوار. حب بلا أسباب وبلا أهداف.. هذا الذي يستحضر السعادة العميقة ويفرش بها جنبات الروح للأبد ويهادينا بها في الدنيا كقطعة من الجنة..
وأفكر هل لو كان الغيب قد أسرّ لأبي بأنه يدخر له كل هذه الفرحة على هذا الكبر.. هل تراه كان سيشقى أو يقلق أو يحزن في عمره الفائت أبدا؟! وأجدني آسى على كل تعاسة تضيق بها الدنيا على رحابتها، وأتمنى لو أن الأقدار تُسِر لنا بمفاجآتها السعيدة وبحلواها الآتية، فنصبر على ما كان وما يكون من مرارات!
يدق الباب فأفتح لينطلق الصغير كالصاروخ من تحت ذراعي فيستقر بلمح البصر بين ذراعي بابا. ولا ألبث أن أبدأ حديثا سريعا مع أمه، حتى يأتينا متقافزا عند الباب ومعلنا أنه اتفق مع أبي على أنه لن يذهب إلى الحضانة.. وسيدخل حضانة "جدو" هنا عندنا في البيت! تتفهم الشابة تحرّجي، فتضحك وتخبره بأن يعرض على جدو أن يذهب إلى حضانة المدرسة يوما، ويحضر لحضانتنا يوما حتى يعتاد مخالطة الصغار.. فيركض حاملا العرض الجديد لصديقه العجوز المنتظِر!
كم أشفقت على نفسي وأنا زوجة.. ثم وأنا أرملة.. ثم وأنا وحدي وولدي بعيد لا أراه إلا كل عامين وأكثر! كم أرعبتني هواجس المرض والعجز والوحدة والشيخوخة! وكم حزنت على عمر انقضى في تربية الفرخ الصغير حتى كبر وطار وتركني! وكثيرا ما كنت أندم بيني وبين نفسي وأفكر أنني أعطيت بلا مقابل! وكم لمت الدنيا على كل همومي وتعاستي! وكم أجد كل ذلك الآن هراء لا معنى له! أنظر لنفسي ولأبي ولآدم وأبتهج وأقترب من الرضا كما لم أقترب قط.
أنادي بأنني ذاهبة للعمل.. وأعيد التوصية بالرد على الهاتف.. فلا يردان وهما في صخبهما العجيب ذاك!.
ثم أهبط الدرج وألتقط هاتفي بسرعة لأكلم وليد، فيأتيني صوته الحبيب فتتسارع دقات قلبي، وأنتبه إلى كوني أيقظته من النوم في مثل هذا الوقت المبكر من اليوم عندهم.. فأتلعثم وأنهي المكالمة بسرعة بعد أن أخبره بأننا وجدنا صندوق مكعباته القديم.. وبأنه أسعدنا أكثر حتى مما كان يسعده.
أنحني لألتقط ما صادف قدمي من القطع المبعثرة، وأنادي على أبي بضيق مصطنع بأن عليه أن يقنع آدم بمشاركته في ترتيب المكان قبل مغادرته، وإلا سأقوم بإخفاء الصندوق كله، وأتركهم لملل حلقات الكرتون المعادة بلا ألعاب. يتمتم بما لا أسمعه، فأتوجه إلى غرفته لمواصلة تهديداتي الفارغة، فأراه يجلس على طرف سريره ويحاول اصطياد طاقيته الشتوية المعلقة بعيدا قرب الباب بعصاه، فأهِم بالتقاطها لمناولته إياها، فإذا بالعصا تلكزني في ذراعي وتزيحها عن الطاقية، فألتفت لأنظر له بلوم، فأجده يضحك بلؤم ثم يقطب في تمثيل للجدية، ويتابع محاولة اصطياد الطاقية بلا كلام.
"يا بابا.. لا وقت عندي للترتيب والتنظيف هذه الأيام. مهمات المنصب الجديد كثيرة وصعبة، وحالة ظهري لا تسمح بالمجهود، وأم جمعة غارقة في ولادة ابنتها لتوأم ولن تأتي قبل أسبوع آخر، وعليك أن تدرب الولد الصغير على النظام والترتيب.. سيدخل الحضانة هذا الشهر وأمه تشتكي من فوضويته ومن معاونتك له عليها!".
يسمع ولا يرد! أصبح يضيق بكلامي ويحاربني بالتجاهل! سبحان الله! مع أن آدم لا يكف عن الكلام!.
يمد لي ذراعه لأساعده في القيام، فأفعل، وأصحبه إلى غرفة الجلوس حيث ينتظر حضور الصغير رافضا الإفطار إلا معه. وأسمعه يحدث نفسه وهو يتأبط ذراعي: "آدم لا يريد الذهاب للحضانة أصلا. هو أخبرني بذلك".
أبتسم في عجب وأرد: "وهل الموضوع اختياري؟! سيذهب طبعا!"، فيسحب كفه الكبيرة من ذراعي بغيظ، ويواصل الخطوات المتبقية لمقعده وحده بمساعدة العصا، ويقول بضيق: "ألم تتأخري عن عملك بعد؟!"، فأنحني لأقبل رأسه، وأخبره بأن الولد وأمه على وشك الوصول، وبأن صينية الإفطار أمامه، وبأنني سأتصل في وسط النهار وعليه أن يرد حتى لا يقلقني ويجد الجيران يقتحمون عليه الشقة كما حدث الأسبوع الماضي.
عانينا معا في الأعوام الخمسة الماضية. تدهورت صحته كثيرا بعد موت أمي. كان قبلها يعتبر شيخاً ثمانينياً بصحة استثنائية. أما بعدها فقد تدهور سمعه وذاكرته القريبة، وتدهورت حالته النفسية وعزف عن الخروج وعن الكلام، وأصبحت مهمة إطعامه أشبه بإطعام الرضيع لأول مرة، فانتقل للعيش معي بلا مقاومة كبيرة. لم تكن حالته أيامها تتحمّل المقاومة والجدل.
البيت هنا كبير ووحدتي كأرملة منذ سنوات طويلة لن تضيق عن الصحبة حتى ولو بحمل مسؤولية رعايته. بالطبع لا أزهد صحبته ورعايته.. فلطالما كان هو مسؤولا عن رعايتي أنا ووحيدي وليد قبل وبعد ترملي.
لا أدري حقا متى وكيف تحولت لأصبح أمه لا ابنته؟ ولا أدري هل يضيق بذلك، أم يروقه، أم يقبله كأمر واقع لا حيلة في تغييره؟ عن نفسي ما زال هذا الوضع الجديد يربكني بالرغم من مرور السنين.
يحيرني الجمع بين السيطرة والقيادة واتخاذ القرار، وبين الخضوع والرفق والطاعة الواجبة له. وكثيرا ما يقلقني استرجاع كلماتي له ونظرات ضيقه أو تجاهله، فأحاسب نفسي وأفكر هل راضٍ هو أم ساخط؟.. وأرتجف لاحتمال السخط بعد كل ما له عليّ من فضل! ثم أهون على نفسي وأفكر لو أنني أُمّ له حقا لشب في حالٍ مريع! فهذا القلق المستمر من لياقة سلوكي معه يجعلني لا أثبت على كلمة أقولها! مترددة على الدوام بين الشد والإرخاء، وأظنه والله يدرك ذلك تماما ويستغله كأي طفل صغير يقيس مساحات ضعف أمه ويملأها كما يريد!
أعتقد أن ظهور آدم في حياته مؤخرا كان هدية السماء له بحق. عجوز يقترب من التسعين ويقضي حياةً صاخبةً طويلة لا تهدأ إلا بالمرض وفقد الشريكة وابتعاد الأبناء، فترسل له ينابيع الرحمة في هذا الكون فجأة حفيد جارتي ذا الثلاث سنوات ونصف السنة لينتشله من عجز الشيخوخة وكآبتها. تتركه أمه الموظفة مع جدته كالعادة، وتأتي الجدة لزيارتي صدفة، ويحدث السحر!
ينسجم الصغير مع أبي وكأنه صاحبه وفي مثل سنه. وأسمع صوت العجوز المنزوي يجلجل في غرفته بعد انقطاع سنين! بل وأسمعه يحكي ويضحك.. ويناديني بحماس سائلاً عن ألعاب وليد!
"ألعاب وليد يا بابا؟! وليد في الثانية والثلاثين يا عم الحاج ومسافر وأظنني تخلصت من ألعابه منذ دهور!"، فيصر على أنه رأى صندوق مكعبات الليجو الكبير الذي أهداه لوليد منذ زمن أثناء تنظيف أم جمعة في مكان ما من البيت.. ويلح ويلح فأضطر للبحث عن الصندوق حتى أجده وأعطيه لهما.. ومن يومها والصغير آدم جزء من حياتنا. هل أبالغ لو قلت إن وجوده أصبح يعني لأبي الحياة نفسها؟ هذا ما يبدو عليه الأمر فعلاً، حتى ليثير كل شجوني ومشاعري.
كثيرا ما أتلصص عليهما لأرى عيني أبي الخاملتين المترغرغتين بماء الوهن والسن وقد استحالتا جوهرتين لامعتين! فقط لأن آدم يلتقط بفمه حبة عنب من يده وهو مشغول بمتابعة الكرتون على التلفاز، أو لأنهما نجحا في إتمام السقف القرميدي للمنزل الذي يشيدانه بقطع الليجو منذ أيام، أو لأن أم الصغير ستبيت عند أمها وستطول فترة بقائه عندنا لساعتين مثلا!
أصبح أبي ينام أفضل حتى يستعد للقاء الصغير في الصباح. وأصبح يأكل أفضل لأنه يشاركه الطعام. ولا أظنه كان سعيدا أبدا ومتحررا من الهموم كما هو الآن. بل أصبح يطلب مني شراء حلوى الصغار لـ"يتقاسماها" معا! فأسمعهما على البعد يتشاكسان وأحدهما يضن بنصيبه عن الآخر، أو يقايضه بما لا يفضل من أصناف!
أنظر وأجدني أتعجب من نفسي ومن الناس! لا نصِف الحياة إلا بالصعوبة والمشقة والابتلاء. ولا نأتي على ذكر تصاريفها إلا بالتصعب ومصمصة الشفاه، فيما نتعامى عن لطائفها وجميل أقدارها. فها هي تهادي البائس المتعب حتى ولو أوشك قطار عمره على الوصول. وها هي تهبه جوهرتها العزيزة التي عاش باحثا عنها تسعين عاما على هيئة حبٍ صافٍ من طفل صغير. حب لا تعكره أوصاف ولا حسابات. ولا تحده أطرٌ ولا أدوار. حب بلا أسباب وبلا أهداف.. هذا الذي يستحضر السعادة العميقة ويفرش بها جنبات الروح للأبد ويهادينا بها في الدنيا كقطعة من الجنة..
وأفكر هل لو كان الغيب قد أسرّ لأبي بأنه يدخر له كل هذه الفرحة على هذا الكبر.. هل تراه كان سيشقى أو يقلق أو يحزن في عمره الفائت أبدا؟! وأجدني آسى على كل تعاسة تضيق بها الدنيا على رحابتها، وأتمنى لو أن الأقدار تُسِر لنا بمفاجآتها السعيدة وبحلواها الآتية، فنصبر على ما كان وما يكون من مرارات!
يدق الباب فأفتح لينطلق الصغير كالصاروخ من تحت ذراعي فيستقر بلمح البصر بين ذراعي بابا. ولا ألبث أن أبدأ حديثا سريعا مع أمه، حتى يأتينا متقافزا عند الباب ومعلنا أنه اتفق مع أبي على أنه لن يذهب إلى الحضانة.. وسيدخل حضانة "جدو" هنا عندنا في البيت! تتفهم الشابة تحرّجي، فتضحك وتخبره بأن يعرض على جدو أن يذهب إلى حضانة المدرسة يوما، ويحضر لحضانتنا يوما حتى يعتاد مخالطة الصغار.. فيركض حاملا العرض الجديد لصديقه العجوز المنتظِر!
كم أشفقت على نفسي وأنا زوجة.. ثم وأنا أرملة.. ثم وأنا وحدي وولدي بعيد لا أراه إلا كل عامين وأكثر! كم أرعبتني هواجس المرض والعجز والوحدة والشيخوخة! وكم حزنت على عمر انقضى في تربية الفرخ الصغير حتى كبر وطار وتركني! وكثيرا ما كنت أندم بيني وبين نفسي وأفكر أنني أعطيت بلا مقابل! وكم لمت الدنيا على كل همومي وتعاستي! وكم أجد كل ذلك الآن هراء لا معنى له! أنظر لنفسي ولأبي ولآدم وأبتهج وأقترب من الرضا كما لم أقترب قط.
أنادي بأنني ذاهبة للعمل.. وأعيد التوصية بالرد على الهاتف.. فلا يردان وهما في صخبهما العجيب ذاك!.
ثم أهبط الدرج وألتقط هاتفي بسرعة لأكلم وليد، فيأتيني صوته الحبيب فتتسارع دقات قلبي، وأنتبه إلى كوني أيقظته من النوم في مثل هذا الوقت المبكر من اليوم عندهم.. فأتلعثم وأنهي المكالمة بسرعة بعد أن أخبره بأننا وجدنا صندوق مكعباته القديم.. وبأنه أسعدنا أكثر حتى مما كان يسعده.