جدّد اعتقال رجل الأعمال المصري صلاح دياب، يوم الإثنين الماضي، رسائل التهديد والقمع التي يتعمد الرئيس عبد الفتاح السيسي وأجهزته الأمنية والسيادية توجيهها على فترات إلى رجال الأعمال والسياسيين الرافضين الانخراط في منظومة التأييد المطلق لسياسات هذا النظام، والمصنفين منذ سنوات معارضين أو شخصيات استعراضية أو غير مأموني الجانب. فمنذ عام 2015، لا يمر عام واحد من دون اتخاذ خطوات تصعيدية جديدة ضد دياب، صاحب صحيفة "المصري اليوم"، إحدى وسائل الإعلام النادرة التي لم يضع النظام يده عليها بعد بشكلٍ كامل، على الرغم من امتلاكه حصّة كبيرة من أسهمها بغير رضا دياب نفسه. ويأتي ذلك فضلاً عن كون دياب، أحد رجال الأعمال القلائل الذين ما زالوا يحافظون على مصالحهم الاقتصادية في مجالات يتوسع فيها الجيش وأجهزة النظام، كمحطات الوقود "موبيل"، والمحاصيل الزراعية "بيكو"، إلى جانب امتلاكه سلسلة محال حلويات شهيرة؛ "لابوار"، ومتاجر "أون ذا رن".
وتتمثل وقائع الاحتكاك المتواصل بين النظام ودياب في سلسلةٍ متوالية من التضييق والمطالبة بدفع مبالغ مالية طائلة لتسوية قضايا، ثم دفع تلك المبالغ أو أجزاء منها، ثم تهدئة الأمور. ففي نوفمبر/ تشرين الثاني 2015، أمرت النيابة العامة المصرية بضبط وإحضار دياب على ذمّة قضية المنتجع السكني "نيو جيزة"، بعد التحفظ على أمواله ومنعه من السفر، على عكس المعتاد في القضايا المالية. فالأصل أن هذين التصرفين كافيان للاحتراز من إهداره مال الدولة أو تصرفه فيه أو هروبه من التحقيق، خصوصاً أن دياب مثل بنفسه خمس مرّات أمام النيابة قبل الأمر بضبطه وإحضاره، وانتهت الأزمة بسداده نحو 300 مليون جنيه لحفظ التحقيقات المتهم فيها بالفساد في مجال تسقيع وبيع أراضي الدولة المخصصة للاستصلاح الزراعي، على الرغم من أن النيابة العامة كانت قد طلبت منه سداد 800 مليون جنيه.
وفي مارس/ آذار 2016، عاد النظام للتحرش بدياب عبر أحد أذرعه المعتادة، وهو رئيس نادي الزمالك مرتضى منصور، الذي ادعى عليه بالسب والقذف والإزعاج، وهي قضية انتهت بعد شهر بالبراءة لتصالح الرجلين. واستمرت في المحاكم دعاوى أخرى ضد دياب بتهم التجمهر وحيازة الأسلحة بمناسبة واقعة قديمة تعود لعام 2011 في منطقة معيشته بمنيل شيحة بالجيزة، عندما وقع اشتباك بين بعض الأهالي ورجاله بسبب نزاعٍ على قطعة أرض، ثم حصل فيها على البراءة أيضاً، تزامناً مع تراجع ملحوظ في سياسة "المصري اليوم"، ووقف استضافتها بعض الكتاب والمعالجات المعارضة لسياسات السيسي. كذلك قبل دياب التبرّع لصندوق "تحيا مصر" التابع للسيسي والجيش مباشرةً، على الرغم من بقائه كأحد أقل رجال الأعمال تبرعاً للصندوق.
وقائع احتكاك متواصل بين النظام ودياب، بسلسلةٍ متوالية من التضييق والمطالبة بدفع مبالغ مالية طائلة لتسوية قضايا
وفي عام 2019، صدرت قرارات بمنع دياب من السفر والتحفّظ على أمواله في قضية جديدة تتعلق بمنتجع "صن ست هيلز"، وحصوله على أراضٍ بقيمة أقل من قيمتها الحقيقية والاتجار فيها بأسعار أعلى، وبمخالفة اشتراطات بنائها. وفي نهاية العام الماضي، اضطر دياب مرة أخرى لدفع 270 مليون جنيه لتسوية القضية والتصالح.
وخلال السنوات الست الماضية، تم تحريك عشرات القضايا الصغيرة ضد دياب، لأسباب مصطنعة وأقل أهمية بكثير من الفساد المالي، مثل بيع سلع غذائية مجهولة المصدر وغير صالحة للاستخدام الآدمي، وزيوت سيارات غير مطابقة للمواصفات. وتنتمي لهذه النوعية القضية الأخيرة المُحرّكة ضده، والتي تم اعتقاله خلال الأسبوع الحالي للتحقيق فيها "ظاهرياً"، وهي مخالفة اشتراطات البناء في مجمع مصانع "لابوار" بمنطقة البساتين. هذا المصنع هو نفسه الذي انطلقت منه سابقاً قضايا أخرى لا تزال مفتوحة، وتثير الضجة فقط حول الرجل، بتفاصيل مثيرة للدهشة والسخرية، مثل ضبط مواد غذائية "من دون بيانات" وضبط "11 عاملاً لا يحملون شهادات صحية" و"74 زجاجة مياه غير صالحة للاستهلاك الآدمي"، و"4 كيلوغرامات من الحلويات الشرقية الفاسدة".
مصادر مقربة من دياب وأخرى سياسية مطلعة، اتفقت في حديثها لـ"العربي الجديد" على أن الأسباب الرئيسية للحملة الجديدة على دياب تتعلّق بمفاوضات اقتصادية كانت تجريها معه على مدى شهري يوليو/ تموز وأغسطس/ آب الماضيين بعض الأجهزة للاستحواذ على "المصري اليوم"، والدخول معه كشريكٍ أساسي في بعض مشروعاته الاقتصادية الرابحة، في مجالات يرغب النظام في السيطرة عليها بالكامل عبر أجهزته والشركات التابعة لها. وبحسب المصادر، فقد تمّ تخيير دياب بين ذلك، ودفع المزيد من مئات الملايين من الجنيهات لتسوية المخالفات والقضايا التي يمكن في أي وقت تحريكها، إلا أن دياب جدّد رفضه التنازل عن حصته في أي مشروع، كما أكد لمفاوضيه أنه "لا يملك المال السائل الكافي لدفعه في الفترة الراهنة".
وذكرت المصادر أن دياب سبق أن رفض أكثر من خمسة عروض لاستحواذ شركة إعلام المصريين التابعة لـ"الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية"، المملوكة بشكل أساسي للاستخبارات العامة، والمالكة لمعظم الصحف والمواقع الإخبارية حالياً، فضلاً عن شركات الدعاية والإعلان الكبرى، على "المصري اليوم"، وهو ما اضطر الاستخبارات للتدخل بشكل آخر بشراء حصص كاملة من بعض شركاء دياب، لتصل حصتها حالياً إلى نحو 40 في المائة من قيمة الأسهم الإجمالية.
يصنف دياب من قبل المقربين من السيسي كشخصٍ متلوّن تجاه النظام وغير مأمون الجانب
وسبق أن أكد دياب لوسطاء عديدين استحالة تخليه عن "المصري اليوم"، واصفاً الصحيفة بأنها "مشروع عمره في مجال الإعلام، وأنه يُعد نجله لإدارتها بشكل كامل من بعده، وليست لديه أيّ نية للتخلي عنها". وأكد دياب في المقابل للوسطاء التزامه بالحدود المتفق عليها مع الأجهزة الأمنية والاستخبارية التي باتت تراقب وسائل الإعلام المطبوعة بشكل رسمي.
لكن مسألة رفض دخول الدولة شريكاً معه، ليست الوحيدة التي أغضبت الأجهزة. ففي الوقت الذي تعذّر فيه رجل الأعمال بعدم قدرته المالية في الوقت الحالي، خصوصاً في ظل آثار جائحة كورونا، رصدت الأجهزة سعيه لشراء بعض الحصص المملوكة لعرب وأجانب في مشروعات عدة يساهم فيها، منها "نيو جيزة"، ما أثار من جديد - من وجهة نظر الأجهزة - مسألة عدم صدق دياب معها، ليضاف ذلك إلى كونه مصنفاً من قبل المقربين من السيسي كشخصٍ متلون تجاه النظام وغير مأمون الجانب، وأنه سبق أن فتح صحيفته لمقالات تهاجم السيسي شخصياً، وليس سياساته.
وزادت الطين بلّة معلوماتٌ بلغت الأمن الوطني عن انتقادات وجّهها دياب للنظام، وهو يروي بعض تفاصيل مفاوضات الأجهزة الأخيرة معه، خلال جلسة جمعته بالمرشح الرئاسي الأسبق أحمد شفيق، في قرية بالساحل الشمالي منذ أسبوعين. كذلك تهكّم الرجلان في حديثهما على إدارة الأمن الوطني لانتخابات مجلس الشيوخ الأخيرة، وبعض القضايا الأخرى. وربطت بعض المصادر بين هذه الجلسة، وما حدث لدياب، وبين إحياء قضية فساد وزارة الطيران التي حصل فيها شفيق على حكم براءة غيابي منذ إبريل/ نيسان 2013، وتحديد جلسة لطعن النيابة على الحكم بعد سبع سنوات ونصف تقريباً، لتعقد في الخامس من الشهر الحالي.
وكان دياب قد عاد لإثارة غضب الأجهزة الأمنية والسيادية في إبريل/ نيسان الماضي، عندما نشر سلسلة من المقالات تطرح أفكاراً لتطوير وتنمية سيناء في عموده الخاص "نيوتن"، ما أدى إلى إحالة صحيفة "المصري اليوم" إلى التحقيق في المجلس الأعلى للإعلام، وتمّ تغريمها ربع مليون جنيه مع منع دياب من كتابة عموده لمدة ثلاثة أشهر. وترافق ذلك مع حملات من صحف حكومية وموالية للسلطة، ضد الصحف القليلة التي لا تزال مملوكة لرجال الأعمال، بحجة ترويجها شائعات وادعاءات تناقض اتجاهات الدولة. وفي ذلك الوقت، أراد السيسي تسجيل نقطة لصالحه على حساب المتحدثين بلسان نظامه وأجهزته في وسائل الإعلام، فأوقف الهجوم الذي شنّه عدد من الإعلاميين والمسؤولين على الصحيفة ودياب. وفاجأ السيسي الرأي العام آنذاك، خلال حضوره افتتاح بعض مشروعاته في نطاق محافظة الإسماعيلية، بنفي تهمة "عدم الوطنية" و"العمالة" التي وُجهت إلى دياب، معتبراً أن الأخير وجه انتقادات من أرضية وطنية تستهدف الصالح العام، وأطلق السيسي تصريحات تزعم ترحيبه بمساهمة رأس المال الوطني في مشروعات سيناء وجميع المشروعات الكبرى التي ينفذها ويديرها الجيش.
يذكر أن لدياب صلة قرابة وثيقة بالسفير الإماراتي في واشنطن يوسف العتيبة، عبر والدة الأخير وزوجة الوزير والشاعر مانع سعيد العتيبة، سامية محمود دياب، وسبق أن أنقذته هذه القرابة من بعض المشاكل مع السلطات المتعاقبة في مصر.