فقبل ثلاثة أيام، تداولت صفحات ناشطين ليبيين على مواقع التواصل الاجتماعي صوراً لهيثم التاجوري، قائد كتائب "ثوار طرابلس"، أبرز مليشيات طرابلس، وهو يشرف شخصياً على تنظيم طوابير المواطنين أمام البنوك حتى ساعات متأخرة من الليل، بعد أن أجبر موظفي المصارف على العمل خارج ساعات الدوام الرسمي. وأتى ذلك مع ظهور قائد مليشياوي آخر هو الرائد عماد الطرابلسي، قائد مليشيات تعمل تحت اسم "قوة الأمن العام"، وهو يشرف على حواجز أمنية غرب العاصمة، ويسيّر بشكل شخصي حركة المرور. ويبدو ذلك أنه مسعى من الاثنين لإعطاء صورة إيجابية عن المليشيات وتغيير الصورة النمطية عنها، وإقناع الرأي العام المحلي والخارجي بقدرتها على فرض الأمن والاستقرار. وهي صور توازي اختفاء قادة مليشيات كانوا حتى وقت قريب ملء السمع والبصر، من بينهم غنيوة الككلي، قائد مليشيات تعمل تحت اسم "قوة الردع والتدخّل السريع"، ومصطفى قدور، قائد مليشيات "النواصي"، وعبد الرؤوف كاره، قائد مليشيا "الردع الخاصة"، وهم قادة الحرب على مليشيات اللواء السابع التي هاجمت طرابلس في أكتوبر/ تشرين الأوّل الماضي، ويشاع أنهم سلّموا مقارهم أو أجزاء كبيرة منها لوزارة الداخلية، من دون معرفة مصير قواتهم حتى الآن.
ويبدو أنّ المليشيات المسلحة استوعبت بشكل كبير أنّ هناك تغييرات عميقة في بنية الأجهزة الأمنية والعسكرية، مدركةً أنّ داعمي حكومة الوفاق الدوليين يحضّرون لمرحلة مقبلة تكون فيها السيطرة للحكومة، من خلال مؤتمر باليرمو المقبل التي دعت إليه إيطاليا، أبرز حلفاء الحكومة. وبالتالي يتوجّب على تلك المليشيات البحث عن صيغ جديدة للحفاظ على نفسها وعلى مكاسبها والمزايا المادية التي حصدتها. كما أنّ تشكلها في أطر جديدة، يتوجّب ضمان عدم محاسبة قادتها وربما أيضاً المشاركة في السلطة المقبلة.
بدورها، جاهرت البعثة الأممية لدى ليبيا، للمرّة الأولى، بتحميل ثلاثة قادة للمليشيات هم عز الدين ومحمد الضو وعبد الكريم الرماح، في بيان لها مساء أمس الاثنين، المسؤولية عن هجوم مسلّح على مقرّ أحد البنوك في طرابلس، وهي المرة الأولى التي تتهم فيها وبالأسماء تلك المليشيات بالفساد ومحاولة تقويض مساعي الاستقرار، بل إنّ البعثة الأممية وصفتهم بـ"العصابة".
ويأتي ذلك، بالتوازي مع قرارات صدرت عن وزير الداخلية الجديد، فتحي باشاغا، هي بمثابة عمليات جراحية تستهدف استئصال بعض أذرع هذه المليشيات في مؤسسات الدولة، من خلال تعيين قادة أمنيين جدد في طرابلس، وعلى رأس تلك القرارات تعيين رئيس جديد لمديرية أمن طرابلس وإقالة العميد صلاح السموعي المعروف بقربه من التشكيلات المسلحة، بالإضافة إلى تعيين ستة ضباط جدد لشغل مناصب أجهزة أمنية وشرطية.
ومنذ توليه منصبه، وصف باشاغا بالرجل الأقدر على تقويض سلطة المليشيات وتحجيم أدوارها، فهو من الوسط، وسابقاً كان من أبرز قادة عملية "فجر ليبيا"، ولديه معرفة كبيرة بطرق التعامل مع التشكيلات المسلحة. فقد تمكّن في وقت قصير منذ توليه منصبه، من فكّ مؤسسات مهمة بالعاصمة، مثل المطار وسجن معيتيقة ومقار وزارية ومقار بنوك، بل وبعض المعسكرات أيضاً، من قبضة المليشيات التي اضطرت بإرغام أممي على تسليمها طوعاً.
ولا يبدو أنّ الرسالة التي تلقتها المليشيات في طرابلس متوقفة على الإصرار الأممي والحكومي بضرورة الحدّ من سلطتها تمهيداً لتفكيكها فقط، فمؤتمر باليرمو المرتقب وإمكانية أن تخرج نتائجه لصالح حكومة الوفاق وتزايد الدعم الدولي لها، شكّلت عاملاً ضاغطاً على هذه المليشيات. كما أنّ شبح التوافق المفاجئ بين مجلسي الدولة والنواب على تغيير السلطة التنفيذية التي لا يعرف شكلها وموقفها من المليشيات، شكّل تهديداً إضافيا للأخيرة.
لكن في المقابل، يبدو أنّ الحديث عن نهاية هذه المليشيات لم يحن حتى الآن، فنجاح رئيس حكومة الوفاق الليبية فايز السراج أو من يليه في رئاسة الحكومة التي قد تنبثق عن التوافق بين مجلسي الدولة والنواب، لا يزال قائماً على شكل القوة التي ستحلّ محل المليشيات. ورغم تأكيد السراج بأنها قوة نظامية، إلا أنّ شكوكاً تحوم حول هذه التصريحات، فشخصيات مثل هيثم التاجوري، المتورّط في أعمال مليشياوية، ظهر إلى جانب مسؤولي وزارة الداخلية، بل إلى جانب الوزير نفسه في أكثر من مناسبة بدون أي صفة رسمية، للإشراف على برنامج الترتيبات الأمنية. وهو ما جعل العديد من المراقبين يعتبرون الترتيبات ليست سوى تلاعب بالألفاظ والمسميات تعود من خلالها المليشيات مجدداً، أو على الأقل قادتها، تحت أي مسمى رسمي جديد.