منارة حسان.. حلم الموحّدين الذي لم يكتمل

21 نوفمبر 2015
مسجد حسان، الرباط (تصوير كليمان صلو)
+ الخط -

لا تزال منارة "مسجد حسان" في الرباط، وهي إحدى الشقيقات الثلاث لمنارة "الكتبية" في مرّاكش و"الخيرالدا" في إشبيلية، تشكّل لغزاً معمارياً محيّراً، بالنظر إلى شكلها غير المكتمل.

تتفّق المراجع التاريخية في أن المسجد بُني في عهد السلطان يعقوب المنصور الموحّدي بعد عودته من الأندلس منتصراً في "معركة الأرك" ضدّ ملك قشتالة، ألفونسو الثامن، عام 1195م. أراد السلطان بناء مسجد كبير مُتقن الصنع، فسخّر لإنجازه 700 أسير من المعركة.

تختلف التفسيرات التي تناولت أسباب توقّف البناء منذ القرن الثاني عشر الميلادي. لكن أغلب المراجع تشير إلى أن أشغال الجامع، الذي كان يُعدّ من أكبر المساجد في عهده، إذ يمتدّ على مساحة تقارب 2550 متراً مربّعاً، توقّفت بوفاة السلطان المفاجئة عام 1199.

ورغم محاولات خلفَيه، أبو يعقوب وأبو يوسف المنصور، لاستئناف عمليات البناء، بما يجعل من الرباط عاصمة حضرية تخلف، من حيث أهميتها، مدينتي فاس عاصمة الأدارسة، ومراكش عاصمة المرابطين، إلا أن كل تلك المحاولات باءت بالفشل، بسبب الحذر من استنفاد الموارد المالية للدولة، والتي كان من المفترض أن تُستثمر في بقيّة المرافق الحيوية للمدينة، ما أجهض حلم إنشاء مدينة كبيرة بكل مرافقها تُخلّد اسم الدولة الموحدية.

في نهاية عهد الدولة الموحّدية، وفي ما اعتُبر إمعاناً في تعطيل استكمال البناء، لجأ السلطان السعيد الموحّدي إلى انتزاع أخشاب من بعض مرافقه للاستعانة بها في بناء أجفان انتهت محروقة في نهر أبي رقراق المجاور. هذه الواقعة، التي تُضاف إلى ضعف وانهيار السلطة الموحّدية المركزية، ساهمت في إطلاق أيدي الناس نهباً على ما تبقى من أخشاب كانت تشكّل ركائز هذا المعلم الإسلامي.

استمرّ هذا الإهمال في عهدي الدولتين المرينية والسعدية، وصولاً إلى الدولة العلوية؛ حيث تذكر بعض الكتابات أن العديد من الكوارث، سواء البشرية أو الطبيعية، ساهمت في القضاء على مرافق مهمّة في المبنى.

ومن ذلك، على سبيل المثال، إقدام قراصنة عدْوَتي الرباط وسلا، في عهد أحد أبناء السلطان المولى إسماعيل العلوي، على نهب ما تبقّى من أخشاب المسجد ليصنعوا منها سفينة "الكراكجية"، إضافةً إلى زلزال لشبونة عام 1755 والذي مسّ أيضاً مدناً مغربية مثل الرباط ومكناس، والحريق الذي شبّ في جنبات المسجد بعد وقت قصير من الزلزال، والذي أتى على ما تبقّى من أخشابه وزاد وضعه تدهوراً. كما كان للأمطار ورطوبة البحر والتقلّبات الجوية لمستها على البناء؛ إذ استحالت إحدى جنباته إلى اللون الرمادي.

رغم ذلك كلّه، بقيت ملامح أساسية من المجمّع المعماري صامدةً أمام تقلّبات الطبيعة والزمن؛ إذ تكفي الإشارة هنا إلى صومعة الجامع المربّعة. فمن جهة، جرى تصميمها لتكون مقابلة لجدار المحراب بشكل منفصل، وهو تصميم يختلف كثيراً عن بناء بقيّة مناراتٍ المساجد المغربية، التي غالباً ما تُشيّد لصيقة بأحد أركان المسجد الأساسية.

أما جدرانها الأربعة، فقد بُنيت بعرض مترين، في حين بلغ قطرها 16 متراً، ممّا يضمن توازن وقوّة سنداتها. ومن جهة أخرى، وارتباطاً بخاصية العلو الذي كان من المفترض أن يصل إلى ثمانين متراً، فقد توقّف، لأسباب بقي بعضها غير مفهوم حتى اليوم، عند 44 متراً، مجهّزة بسلّم داخلي دائري وبدرجات منبسطة كانت ترقاها الدواب حاملة أدوات البناء من حجر وطين وغيرها عبر ممرّ يؤدّي إلى جزئها العلوي، من خلال ستّ غرف تشكّل طبقات البناء المتماسكة.

واجهاتها الأربع زُيّنت بزخارف ونقوش مختلفة على الحجر المنحوت، هي عبارة عن مقرنصات يرجع بعض الدارسين المختصّين أصلها إلى عهد المرابطين، قبل أن تخضع إلى تطويرات واضحة مع تعاقب الدول حتى اتّخذت أشكالاً مختلفة.

أمّا المعينات بدورها، فتشهد على بداية دخول هذا الشكل الهندسي على مختلف العناصر الزخرفية في فن البناء منذ عصر المرينيين، وهو ما يعكس الطابع العمراني المغربي الأندلسي، الذي تعود أشكاله وموتيفاته إلى القرن الثاني عشر.

لم تتوقّف الأحداث السيئة التي عاشها الصرح المعماري عند حدود ما طاوله من تخريب وعبث في الماضي، بل تواصلت في التاريخ المعاصر. حتى وقت غير بعيد، كانت صومعة المسجد الشاهقة مزاراً يرتقيه المغاربة والسيّاح الأجانب للاستمتاع بمنظر محيطها الذي يجاوره البحر والوادي والحدائق و"قلعة الأوداية" التاريخية، لكن ذلك جعلها تشهد أحداثاً مؤلمة؛ بعد أن اتّخذها بعضهم مكاناً ليلقوا أنفسهم من فوقه.

ومع تكرّر حوادث الانتحار، سارع مسؤولو المدينة إلى منع ارتقائها، ما حوّلها إلى مجرّد صرح معماري معزول، يملّي الزائرون أعينهم بالنظر إليه وتأمّل فرادة تصميمه المعماري. هكذا ظلّت الصومعة شاهداً على تاريخ لم يكتمل وبقي معلّقاً بين السماء والأرض.


اقرأ أيضا: تمبكتو مدينة الأولياء إذ تستعيد مقاماتها

دلالات