تُواجه مدينة منبج السورية مصيراً مجهولاً في ظلّ صراعٍ يتنامى، وأخطارٍ تتهددها من كل حدب وصوب. يخرجُ أصحاب الرايات السود منها، ويدخلها أصحاب الرايات الصفر، لتصبح مدينة أبي فراس الحمداني والبحتري وعمر أبو ريشة في عين عاصفة، ربما تذهب بما تبقّى منها.
تعد مدينة منبج من أعرق المدن السورية، ولها مكانة خاصة في وجدان السوريين، لكونها مدينة أنجبت أشهر الشعراء العرب، وباتت محل تنافس في زمن الخرائط. تقع منبج إلى الشمال الشرقي من مدينة حلب بنحو 80 كيلومتراً على أرض فسيحة، غير بعيدة عن نهر الفرات، الواقع إلى الشرق منها بنحو 25 كيلومتراً، ولا تبعد عن الخط الحدودي بين سورية وتركيا سوى 30 كيلومتراً. وتتمتع المدينة بموقع جغرافي فريد، فهي واسطة العقد بين آلاف القرى والبلدات والمدن في شمال وشرقي حلب، وغربي الرقة.
تتبع لمنبج ما يقرب من ألف قرية وبلدة، تقطنها أشهر القبائل العربية، لامتداد البادية جنوباً إلى جزيرة العرب. وتضرب المدينة جذوراً راسخة في التاريخ الإنساني، مع تأكيد مراجع تاريخية معتمدة أنّ المدينة تعود إلى الألف الثاني قبل الميلاد. تسكن آثار أغلب الحضارات الإنسانية حنايا منبج، منذ ما قبل الميلاد، منذ أيام العهد الحثي، وزمن الآراميين، إثر تحوّلها إلى عاصمتهم الدينية المقدسة، وحضرت بقوة أيام الدولة السلوقية.
دخلتها المسيحية في القرن الثالث، قبل أن يفتحها العرب المسلمون في السنة الخامسة عشرة من الهجرة. في العهد الأموي كانت ثغراً للمسلمين ضد الروم، إلا أن العهد الذهبي الحقيقي للمدينة كان أيام دولة بني حمدان في حلب، التي ظهرت في بدايات القرن الثالث الهجري، وازدهرت إبان سنوات حكم سيف الدولة الحمداني. لا تذكر منبج إلا ويذكر معها فارس بني حمدان وشاعرهم أبو فراس الحمداني، الذي ارتبط بالمدينة ارتباط عاشق تقتله اللوعة "ولكن مثلي لا يُذاع له سرّ"، وتولّاها أميراً وكان عمره آنذاك 16 عاماً، وكانت له صولات وجولات مع الروم.
وقع أبو فراس في الأسر مرتين، وفي سجنه كتب لأمه: "لولا العجوز بمنبجٍ ما خفت أسباب المنية. أمست بمنبج، حرة بالحزن، من بعدي، حريّة". وعندما تأخر ابن عمه في فدائه، أرسل إليه معاتباً: "أمـن بعـد بذل النفس فيما تريده أثاب بمر العتب حين أثاب. فليتك تحلو والحياة مريرة وليتك ترضى والأنام غضاب". يشبه حال منبج اليوم، حال أبي فراس، الذي تغنّى أيام الأسر: "أقول وقد ناحت بقربي حمامة، أيا جارتا هل تشعرين بحالي؟ لقد كنت أولى منك بالدمع مقلة، ولكن دمعي في الحوادث غال". وتشبه حاله وهو يواجه الموت مخاطباً ابنة أخيه: "أبنيتي لا تحزني كل الأنام إلى ذهاب. أبنيتـي صبراً جميلاً للجليل مـن المصاب. نوحي عليّ بحسرةٍ من خلف سترك والحجاب. قولي إذا ناديتني وعييت عـن ردِّ الجواب. زين الشباب أبو فراسٍ لم يمتَّع بالشباب".
تفتخر مدينة منبج بكونها أيضاً مسقط رأس الشاعر العربي الكبير البحتري، الذي استقى شاعريته الفذة، وسعة خياله، من مدينته التي قال عنها إنها "طيبة الهواء قليلة الأدواء، وليلها سحر كله. هي برة حمراء، وسنبلة صفراء، وشجرة خضراء في فياف فيح بين قيصوم، وشيح". تلك المدينة وقعت بين أيدي الغازي تيمورلنك الذي هدمها وفتك بأهلها في عام 1401، كما فتك بأغلب مدن الشام آنذاك.
أصبحت تابعة لدولة العثمانيين في عام 1516، واستقبلت بعد ذلك مهاجرين من قوميات أخرى كالشركس، وسواهم. لم تنته أمجاد منبج عند هذا الحد، اذ سرعان ما برز أحد أبنائها شاعراً وهو عمر أبو ريشة الذي ولد فيها في عام 1910، وترعرع فيها معيداً سيرة البحتري.
كان أبو ريشة من أشهر رجالات سورية الوطنيين، وقد ترك وراءه إرثاً شعرياً موغلاً في الرقة والجمال، والحسرة على حال أمته العربية، فهو القائل: "أمتي هل لك بين الأمم منبر للسيف أو للقلم. أتلقاك وطرفي مطرق خجلاً من أمسك المنصرم".
في مارس/آذار 2011، كانت مدينة منبج سبّاقة في إعلان الثورة على نظام الاستبداد، وسرعان ما خرجت عن سيطرته، ليعلن أبناؤها حريتها، ولكن حرية مدينة أبي فراس لم تطل، بعد استيلاء تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) في أوائل عام 2014، لتتحول إلى أهم معاقله في شمال شرقي حلب.
فرض التنظيم نظمه، وقوانينه الصارمة على أبناء المدينة المعروفين بثقافتهم، وحبهم للشعر والحياة، فبدأت تنزف دماء أبناء منبج الذين باتوا موزّعين في مختلف جهات الأرض باحثين عن أمان. وفي العام الماضي استولت مليشيا الوحدات الكردية على المدينة إثر حملة عسكرية واسعة النطاق بقيادة التحالف الدولي، الذي قتل طيرانه المئات من أبناء المدينة ومن النازحين عليها، ودمّر جانباً كبيراً من مبانيها ومرافقها.
خرجت المدينة عن سيطرة أصحاب الرايات السوداء، لتقع تحت سيطرة أصحاب الرايات الصفراء، ولكن الجيش السوري الحر مصمّمٌ على استرداد المدينة في الوقت الذي لا يخفي النظام نيّته العودة إليها مجدداً، فيما تصر الوحدات الكردية على بقاء المدينة تحت سيطرتها، راغبة في تغيير هويتها العربية.