مستبقاً إمكانية اعتقاله، ذهب رفاعية محمد إلى المسجد الأقصى يوم الاثنين، ودخله من أكثر من باب ليعلم ما إذا كان من بين قائمة المطلوبين لشرطة الاحتلال، وهي قائمة تضم، بحسب سلطات الاحتلال، أسماء وصوراً لمن شاركوا في احتجاجات الأقصى. رفاعية هو في الواقع اسم مستعار، إذ إن العدد الأكبر من الذين واجهوا الاحتلال في الهبّة الأخيرة معرضون للاعتقال في أي لحظة. ولذلك هم يفضلون عدم ذكر أسمائهم في أحاديثهم الإعلامية.
وكانت مشاركة مقدسيين ينتمون للديانة المسيحية، في تلك المواجهة، لافتة، بحسب ما يؤكد نضال عبود، الذي انضم إلى صلاة جمعة لجموع غفيرة من المسلمين، وأدى بينهم صلاته الخاصة. واتسم المشهد بحضورهم اليومي والرباط في بابي المجلس والأسباط، من أبواب الأقصى، كما هو الحال بالنسبة لوالد الأسير جون قاقيش المحكوم بالسجن لمدة أحد عشر عاماً. ويرى قاقيش أن الدفاع عن الأقصى واجبه كمسيحي أيضاً، لأن استهداف المسجد سيعقبه غداً استهداف كنيسة القيامة، كما يؤكد لـ"العربي الجديد". ويقول "نحن أحق بالدفاع عن الأقصى إلى جانب إخواننا المسلمين. وهذه رسالة ولدي جون، التي أبلغنا بها عشية العدوان على الأقصى".
ومن بين المنتفضين خصوصاً، عدد كبير من المهمشين اجتماعياً ممن تملأهم الوطنية الفلسطينية ويظلمهم مجتمعهم نتيجة معاييره "الأخلاقية"، وقد أدوا دوراً ربما يكون الأكبر في مواجهة الاحتلال خلال الهبة الأخيرة، وفي الانتفاضات السابقة. بين صفوف الفتيات والنساء، كان حضور الناشطة المقدسية ريتا النتشة، بارزاً ومميزاً، سواء في الرباط والاعتصامات أو في المسيرات التي كانت تتقدمها حتى قبل المرجعيات الدينية. ريتا، ناشطة من حزب "فدا" اليساري. وعلى الرغم من ذلك، كانت أول من نزل إلى الشارع وانضمت إلى آلاف الشبان، كثير منهم ينتمي إلى فصائل يسارية وقوى وأحزاب دينية. لكن ما جمعهم كلهم هو إحساسهم الداهم بأن الخطر هذه المرة وجودي يتهدد حاضرهم ومستقبلهم، وأن الأقصى، حتى وإنْ كانوا لا يصلون، هو عنوان ورمز لوجودهم كمقدسيين، تقول ريتا التي شاركت في التحركات للدفاع عن الأقصى، ولتدافع عن حق أبنائها غداً في الصلاة فيه.
لم تخل معركة الدفاع عن الأقصى من مشاركة الجميع فيها. وكان للتجار دور فاعل، وللعائلات أيضاً داخل القدس العتيقة، بمسلميها ومسيحييها. شارك في الدفاع كذلك أصحاب المطاعم والمخابز، كما يقول الناشط الشبابي المدافع عن حقوق الإنسان، أحد كوادر "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين"، سليمان قوس. يقطن قوس في حي الجالية الأفريقية حيث باب المجلس، أحد الأبواب الرئيسية للمسجد الأقصى. وهو شقيق مدير "نادي الأسير" في القدس، ناصر قوس. وتعود الأصول القديمة لأسرتهما إلى دولة تشاد، قبل أن يستقر الأجداد قبل مئات السنين قرب الأقصى. تحدث قوس بفخر عن حالة التكافل في صفوف المقدسيين، بين من رابط واعتصم وأدى صلواته الخمس في الساحات والشوارع، وبين من انخرط في الدفاع عنه وتصدى للاحتلال حين اعتدى على المصلين وهاجمهم بقنابل الغاز والصوت والرصاص المطاطي.
أبناء الجالية الأفريقية في القدس العتيقة، كما يقول قوس، كانوا على الدوام رأس الحربة في مواجهة المحتلين. وفي هبة الأقصى الأخيرة، انخرطوا في تقديم الضيافة للمرابطين وفي استقبال تبرعات المدافعين عن الأقصى بطريقتهم الخاصة من التجار والعائلات، وحتى من أبناء مدينتهم من المسيحيين الذين شاركوا في خدمة المرابطين وتوزيع وجبات الطعام والماء عليهم وتقديم الإسعاف لمن لزمه ذلك، وفق روايته. ويضيف أن "هذا المشهد لم يحدث في السابق، ومثل ذلك كنا نشهد مثيله في الانتفاضة الأولى عام 1987، لكن هذه المرة على نحو أعظم وأكبر ودون تردد"، بحسب تعبيره.
ويروي ناشط مقدسي آخر، من المدافعين عن الأقصى، ويدعى محمد فراوي، أنه "ذات يوم، تقدم أحد التجار بجميع ما لديه من مياه الشرب للمرابطين في باب بالمجلس، وكان قد مرّ أسبوع على عدم فتحه لمحله بسبب الركود التجاري الذي رافق العدوان على الأقصى". ويتابع أن "ما حدث في تلك اللحظة حين وصلت كميات المياه، هو أن أحد المواطنين وقف وأعلن تبرعه بتلك المياه من جيبه الخاص ودفع للتاجر ثمنها على الرغم من إصرار الأخير على التبرع بها وبرضى من نفسه".
كان ذلك موقفاً يحسب للتاجر والمواطن المرابط قرب الأقصى. وكثير مثل هذه المواقف من التكافل يرويها المقدسيون بفخر، ويشيدون بالعائلات التي تسابقت في إعداد المعجنات ووجبات الطعام الساخنة، وحتى في العصائر التي كانت تتبرع بها نساء محددات، ومنهن رحاب الرموني، التي تعتاش من بسطة للملابس قرب باب المجلس. وقد تبرعت هذه المواطنة بعصائر من جيبها الخاص لنحو مائتي مرابط. وتقول "هذا أقل من الواجب. الناس لم يذهبوا إلى أماكن عملهم وأتوا يدافعون عن الأقصى، واجبنا بالتالي أن نوفر الطعام والشراب لهم".
في جبهة أخرى من جبهات المدافعين عن الأقصى، كان الشهداء الذين قدموا أرواحهم دفاعاً عنه. منهم خريجو ثانوية عامة احتفلوا قبل استشهادهم بأسبوع بتخرجهم، كما هو الحال بالنسبة للشهيد محمد لافي، من العيزرية، أو طالب جامعي من طلاب جامعة بير زيت مثل الشهيد محمد حسن أبو غنام، من حي الطور، إلى الشرق من القدس القديمة. وقد استشهد أبو غنام بعد أسبوع كامل من الرباط والصلاة في الشارع قرب باب الأسباط برفقة والديه.
من الشهداء من ينتمي لفصيل بعينه، لكنه دافع عن الأقصى بعيداً عن انتمائه السياسي. وكان سلاحه سجادة الصلاة التي تحولت إلى رمز لمنتفضي الأقصى من الشبان. لقد اختفت أعلام الفصائل أيام الرباط والاعتصام، وارتفع فقط في يوم تحرير الأقصى من الاحتلال علم فلسطين على المسجد الأقصى إلى جانب راية التوحيد البيضاء، رفعها ناشطون من حزب "التحرير". ويقول أحد ناشطي هذا الحزب، من عائلة مرار المقدسية: "نرجو أن يكون دفاعنا عن الأقصى بغض النظر عن مقاصد وأهداف من رابطوا وتواجدوا معنا في ميزان حسناتنا يوم القيامة"، وفق تعبيره. ويضيف "لم نتردد في الرباط حتى بعد اعتقال الشيخ عصمت الحموري، واتهامه بأنه دعا على شرطة الاحتلال بتيتم أطفالهم ونسائهم. الأقصى هو ما يجمعنا جميعاً ونرجو الهداية لشبابنا"، على حد قوله.
هذا الموقف عبّر عنه أيضاً رئيس جمعية "اتحاد المسعفين العرب"، محمد غرابلي، بقوله إن "العديد أصيب من أفراد طواقمنا. ومنع آخرون من مزاولة عملهم والوصول للجرحى، ومن لم يكن ينصاع لتعليمات الاحتلال كان يتعرض للضرب والاعتقال". ويشار إلى أن طواقم الجمعية عملت على أكثر من جبهة في باب المجلس وباب الأسباط وحي باب حطة، وحتى في الساحات والشوارع العامة في شارع صلاح الدين وساحة المصرارة.
في جبهة الإعلام، برزت إعلاميات مقدسيات نالهن من أذى الاحتلال ما نال جميع الفئات. فقد أصيب العديد منهن نتيجة الضرب والدفع أو بشظايا قنابل الصوت، كما هو الحال بالنسبة للصحافية فاطمة البكري، المتطوعة في "قناة القدس". واعتقل وضرب المصور الصحافي فايز أبو أرميلة، ومثله أصيب لمرتين مدير مركز "إعلام القدس"، محمد صادق. وتقول الإعلامية ميسة أبو غزالة، إن "جميع الطواقم الصحافية تعرضت للأذى والاعتداء من قبل جنود الاحتلال. لم نسلم من الدفع والضرب وإطلاق الرصاص المطاطي وقنابل الصوت، ومنعنا حتى من الوصول إلى الأماكن التي كانت تشهد مواجهات وصدامات". وتضيف أنه "مع ذلك كنا نؤمن بأن هذه رسالتنا نؤديها بأمانة في قضية مقدسة من الدرجة الأولى، وهي الدفاع عن الأقصى وكشف ممارسات الاحتلال"، على حد تعبيرها.
الانتصار هذه المرة يسجل لكل هذه الفئات، كما يقول مدير "نادي الأسير" في القدس، ناصر قوس، "كل مواطن كان شريكاً في صناعة هذا الانتصار. وكان الشباب رأس الحربة. لقد فوجئنا بهذا الحضور والزخم الكبير من شبابنا. وبالتالي هم من صنعوا النصر بما قدموه من شهداء وجرحى. وخلفهم كان شعبهم كله"، بحسب قوله.