يبدو أن أنقرة قد اتخذت قرارها النهائي بمنع قوات النظام وحلفائه من التقدم أكثر في "منطقة خفض التصعيد" (إدلب وما حولها)، بإيصالها رسائل مباشرة للمدنيين في إدلب، تطمئنهم إلى هذا الجانب، فيما لا تزال قوات النظام تحشد المقاتلين على جبهات إدلب، وتحاول باستمرار التقدم من خلال عمليات اختراق محدودة على أكثر من محور، ولا سيما عند الريف الجنوبي من إدلب في جبل الزاوية، في مسعى لإنهاء الهدنة المبرمة بين روسيا وتركيا في الخامس من مارس/ آذار الماضي.
ووزع عناصر من الجيش التركي منشورات على المدنيين في مدينة أريحا جنوب غربي مركز المحافظة، تطمئنهم إلى أن هدف الجيش التركي منع أي اجتياح أو عمل عسكري باتجاه إدلب، بالإضافة إلى إعادة المدنيين الذين اضطروا إلى النزوح، إلى منازلهم، والعمل على إحياء الحياة الاقتصادية في المنطقة، من خلال فتح الطريقين الدوليين حلب – دمشق "أم 5" وحلب – اللاذقية "أم 4" المارّين من إدلب. وطلب الجيش التركي من المدنيين في إدلب المساعدة، وعدم "تصديق أكاذيب أولئك المنزعجين من بيئة الهدوء والسلام" التي يوفرها في إدلب، بحسب المنشورات، التي لمّحت إلى وجود من يخادع المدنيين عبر "بث الفتن" والإيقاع بين الناس.
طلبت تركيا عدم تصديق أكاذيب المنزعجين من الهدوء
وتحمل منشورات الجيش التركي رسالة من شقين: الأول يخصّ حسم قرار الإدارة التركية بمنع أي هجوم لقوات النظام وحلفائها نحو إدلب، ولا سيما منعها من الوصول إلى مدينة أريحا، وهو هدف لطالما لوّح النظام بالوصول إليه انطلاقاً من جبل الزاوية جنوب إدلب، حيث يحشد قواته مع عناصر من مليشيات محسوبة على إيران وروسيا عند خطوط التماس هناك. وأخيراً باتت التعزيزات تصل أيضاً إلى مدينة سراقب، التي سيطر النظام عليها قبل توقيع الاتفاق الروسي التركي، ما يشير إلى أن هجوم قواته، إذا قرر استئناف العمليات، سيكون على محورين: جبل الزاوية من الجنوب، وسراقب وسط إدلب.
لكن الجيش التركي استبق هذا الأمر، عبر تكثيف إرسال التعزيزات التي تحمل الجنود ومعدات نوعية إلى نقاطه في إدلب بشكل يومي، وبات تعداد جنوده في إدلب يقدَّر بـ20 ألفاً، فيما بلغ عدد الآليات نحو 8 آلاف، بحسب إحصاءات غير رسمية. ومعظم تلك الآليات عبارة عن دبابات متطورة ومدافع ميدان، تعتبر من الأحدث لدى الجيش التركي، بالإضافة إلى متاريس الحراسة المصفحة.
ونشر الجيش التركي ثلاث منظومات للدفاع الجوي، اثنتان منها محليتا الصنع، وثالثة أميركية الصنع، نُصبَت في تلة النبي أيوب في جبل الزاوية، وهي أعلى قمة في إدلب (950 متراً عن سطح البحر). وعمد أيضاً إلى إحداث نقاط جديدة في إدلب، توزعت على المرتفعات وقرب خطوط التماس، ولا سيما في جبل الزاوية جنوبي إدلب. وأخيراً عُزِّزَت تلك النقاط بالأسلحة الثقيلة والمتطورة، ولا سيما مدافع الميدان، التي من مهمتها استهداف مواقع خلف خطوط العدو. ولمّح الأتراك كثيراً خلال الفترة الماضية، للزج بجيل جديد ومتطور من الطائرات المسيَّرة، القادرة على المناورة والهجوم، بالإضافة إلى رصد الأهداف واستهدافها. وكانت الطائرات المسيَّرة التركية قد أثبتت كفاءتها خلال المعارك، بضرب تحصينات قوات النظام والمليشيات الإيرانية وطرق إمدادها، حتى أحدثت لديها مشاكل في الطرق اللوجستية وإمداد الجبهات.
عموماً، تشير لغة المنطق العسكري والإحصائيات إلى تفوق تركي على قوات النظام والمليشيات التي تساندها في إدلب، في حال اقتصار التدخل الروسي إلى جانبهما على عمليات الرصد والإسناد الجوي المحدود. وبالتالي فإن الجيش التركي، بالإضافة إلى قوات المعارضة السورية، التي عززت وجودها في إدلب أخيراً، بتعزيزات قادمة من ريف حلب، قادر على صد أي هجوم نحو إدلب، وربما المبادرة باسترداد المناطق التي خسرتها المعارضة في "منطقة خفض التصعيد" التي تقدم إليها النظام في معارك بدأت منذ إبريل/ نيسان 2019، وتوقفت في الخامس من مارس/ آذار الماضي.
الإحصائيات تشير إلى تفوق تركي على قوات النظام والمليشيات
أما الشق الثاني من الرسالة التركية في إدلب، فالواضح أنها موجهة إلى التنظيمات الراديكالية التي ترفض الاتفاق بين موسكو وأنقرة، وتعمل على إنهائه من خلال استهداف الدوريات التركية ــ الروسية على طريق حلب ــ اللاذقية "أم 4" بشكل مستمر، ما يخلق مبررات للروس والنظام لاستئناف الهجمات نحو إدلب. وتعرضت أخيراً نقطة تركية للاستهداف على الطريق المذكور، أعلن تنظيم غير معروف الوقوف وراء الهجوم عليها. ويبدو أن أنقرة باتت تخشى استخدام المدنيين من قبل تلك التنظيمات لتسهيل استهداف قواتها في إدلب، ما دعاها للتنبيه إلى ذلك من خلال المنشورات.
وأجرى الجيش التركي أخيراً مناورات عسكرية مشتركة مع الجيش الروسي في بلدة الترنبة بريف إدلب، بهدف الاستعداد لمواجهة الهجمات التي تتعرض لها الدوريات العسكرية المشتركة على طريق "أم 4". وأشار محللون عسكريون إلى أن التدريبات المشتركة بين القوات الروسية والتركية في إدلب، قد يكون من بين أهدافها الاستعداد لتنفيذ حملة ضد التنظيمات الراديكالية الرافضة للاتفاق بينهما.
وكان مدنيون في إدلب قد حمّلوا الجيش التركي وفصائل المعارضة مسؤولية خسارة مساحات واسعة، تضم العديد من المدن والبلدات، التي تقدمت إليها قوات النظام ومليشيات إيرانية، وأخرى مدعومة من موسكو بغطاء كثيف من سلاح الجو الروسي، ما أدى إلى نزوح نحو 1.7 مليون مدني من مناطق في أرياف حماة الشمالي والغربي، وإدلب الشرقي والجنوبي، وحلب الغربي والجنوبي، وكلها تتبع لـ"منطقة خفض التصعيد"، التي وضعتها نتائج مباحثات أستانة واتفاق سوتشي تحت نفوذ أنقرة، مع نشر نقاط مراقبة للجيش التركي، إلا أن قوات النظام تقدمت إليها وحاصرت تلك النقاط.
ويبدو أن الأتراك باتوا أخيراً يستشعرون خداعاً روسياً لهم في إدلب، من خلال مساندة قوات النظام في تقدمها، لذلك عمدوا إلى تدعيم وجودهم في المنطقة أكثر من المتوقع، استعداداً للقادم. ويطالب المدنيون في إدلب، ولا سيما النازحون، الجيش التركي وفصائل المعارضة بحماية ما بقي من المحافظة، واسترداد مدنهم وقراهم التي سقطت بيد قوات النظام وحلفائها، بهدف العودة إليها وإنهاء معاناة النزوح، وتطبيق اتفاق سوتشي وخريطته الجغرافية، بإعادة قوات النظام إلى ما وراء النقاط التركية في "منطقة خفض التصعيد"، وهو مطلب كانت تركيا قد نفذت عمليتها العسكرية "درع الربيع" في إدلب ضد قوات النظام لتحقيقه، قبل توقف المعركة باتفاق وقف إطلاق النار.