قبل سنوات، أغلقت مكتبة "لو ديفان" Le Divan، أبوابها في منطقة "سان جيرمان دي بري" Saint Germain des Près في باريس، رغم احتجاجات ووقفات مثقفين وفنانين رأوا في الأمر "موت الثقافة وإفراغ الحي من روحه". وكانت الفنانة الكبيرة جولييت غريكو في مقدّم المحتجين وقتذاك، فهي من أهم زبائن المكتبة أصلًا. انتقلت المكتبة إلى الدائرة الخامسة عشر. وعدّ بعضهم الأمر بمثابة إنذار عن تحوّل عميق في المنطقة التي كانت في الماضي بؤرة للثقافة ومركزًا للسجال الفكري الفرنسي والعالمي، إذ إن المكتبة كانت قريبة من الحي اللاتيني الشهير والجامعات العريقة. إلا أن غلاء الإيجار في تلك المنطقة الراقية في عاصمة الأنوار، أدّى دورًا كبيرًا في انتقالها، فضلًا عن أن وجود مكتبتين أخريين منافستين، كان على ما يبدو العامل الحاسم الذي دفع دار غاليمار، مالكة المكتبة، إلى نقلها صوب حي أكثر شعبية.
لا تمثّل مكتبة "لو ديفان" استثناءً على ما يبدو، إذ كانت هذه أيضًا حال المكتبة الأنغلوفونية الأسطورية "Village Voice" في جادة "سان ميشيل"، التي أقفلت أبوابها نهائيًا، سنة 2012. وقد أرجع القائمون عليها سبب ذلك إلى تأثير بيع الكتب عبر الإنترنت: "الإنترنت قتلها". ثم جاء دور المكتبة الألمانية قرب مكتبة مركز جورج بوميبدو، وبعدها المكتبة الأمازيغية في الدائرة الرابعة عشر، وكذلك مكتبة ابن رشد ومكتبة ألف باء ومكتبة ابن سينا للكتاب العربي، وغيرها. ولعلّه من الصعب جدّاً ذكر كلّ المكتبات الفرنسية التي أغلقت أبوابها فهي كثيرة.
مع ذلك، ثمّة مكتبات بقيت صامدة، واستطاعت بفضل تحقيق الأرباح، مقاومة التحدّيات الجديدة التي تفرضها "العولمة الناعمة"، إذ غير بعيد من "سان جيرمان دي بري"، وتحديدًا في جادة "سان ميشيل"، تبدو مكتبتا "جيبرت جون" و"جيبرت جوزيف" "صامدتين" بسبب أرقام أعمالهما وسياستهما في بيع الكتب الجديدة والمستعملة، فضلًا عن بيع الكتب المدرسية التي تدرّ أرباحًا لا يستهان بها.
بيد أن الجديد اليوم، هو مصير مكتبة "La Hune"، الواقعة في شارع متفرّع من جادة "سان جيرمان"، وتحديدًا قرب كنيسة "سان جيرمان دي بري" في شارع l'Abbaye. فقد عرفت هذه المكتبة بدورها انتقالًا من مقرّها التاريخي منذ ثلاث سنوات صوب الشارع المذكور، وكان ذاك الانتقال "إشارة" غير مستحبة أنبأت عن خطر إغلاقها، وهو الأمر الذي حصل منتصف شهر يونيو/ حزيران الجاري، وخاصّة أن مقرّها التاريخي أضحى متجرًا لأشهر الماركات الراقية: لوي فيتون.
اقرأ أيضاً: برايتون برس
تأسسّت مكتبة "La Hune" عام 1944، على يد برنارد غيربرانت Bernard Gheerbrant، وتميّزت بمفهومها الخاص عن الكتاب، إذ عدّته "تحفّة فنية". وينظر إليها بعض المؤرّخين باعتبارها علامة من علامات ما بعد الحرب العالمية الثانية. وممّا لا شك فيه أن موقع المكتبة بين المقهيين الشهيرين "Les Deux Magots" و"de Flore"، كان في صالحها، إذ إن الزبائن كانوا وقتها طليعة المثقفين الفرنسيين وأكثرهم شهرة: جان بول سارتر، وسيمون دو بوفوار، وفرانسواز ساغان، وألبير كامو، وهنري ميشو وغيرهم. وللمرء أن يتخيّل صدى النقاشات الثقافية بين المكتبة والمقهيين. عرفت المكتبة بالطبع تحديّات تتعلّق بطبيعة عملها خلال السنوات الماضية ما قبل التكنولوجيا: فقد واجهتها مشكلة "سرقة الكتب"، التي دافعت عنها الحركات الطلابية الشهيرة لسنة 1968، ودفعت مؤسسها لابتكار طرق تقنية لمواجهة تلك السرقات. وأيضًا واجهتها مشكلة هيمنة النوادي والبيع عن طريق البريد العادي. بعد ذاك، انتقل التحدي إلى "موضة" نشر الكتب الفنية وكتب الجيب. إلا أن التحدي الأكبر كان في افتتاح الـ(Fnac) سنة 1974، الذي يمكن عدّه بمثابة "سوبر ماركت" للكتب. ولم يكن مقرّه بعيدًا من المكتبة، إلا أن المشكلة كانت في "مفهومه" القائم على البيع بحسم 20 بالمائة، الأمر الذي أثّر في مبيعات "La Hune". وإذ لم يكن الضرّر واقعًا عليها وحدها، بدأ العمل من أجل إصدار قانون "السعر الموحد للكتاب"، وكان الوزير الفرنسي الأسبق والمدير الحالي لمعهد العالم العربي، جاك لانغ، وراءه عام 1981.
تقاعد مؤسّسها برنارد غيربرانت عام 1976، ودخلت المكتبة في دوامة عالم "البيع والشراء والاستحواذ"، وأصبحت مذذاك تابعة لدار نشر فلاماريون. بيد أن "سيطرة" دار النشر الشهيرة غاليمار على فلاماريون نفسها عام 2012، أو التقارب بينهما، جعل المكتبة جزءًا من مجموعة مادريغال المنبثقة عن سيطرة غاليمار على فلاماريون، وتعدّ ثالث مجموعة نشر فرنسية.
تخلي المكتبة مقرّها على ما يبدو لشركة تُعنى بالصورة Yellow Corner، التي يقال إنها قادرة على إقامة نشاط يجمع بين المكتبة والغاليري.
ربّما يرى الملاحظ المحايد في أمر الإغلاق هذا انتصارًا لـ"العقلانية الاقتصادية" على "الرمز الثقافي"، وخاصّة أن رقم أعمال المكتبة انخفض بما يقارب الخمسة وثلاثين بالمائة منذ عام 2009. إلا أن ما لا يمكن إنكاره أيضًا التأثير الرهيب لشركة الأمازون التي احتالت على قانون صدر ضدّها، يقول بمنع شحن الكتب مجانًا للمشتري، من خلال عرضها للشحن مقابل سنتيم واحد وإيصال الكتاب / البضاعة في غضون ساعة. فضلًا عن عرضها لاشتراك شهري بقيمة "عشرة يوروات"، تتيح للقارئ الفرنسي التجوّل بين 700 ألف كتاب "افتراضي" مناسب للحواسيب اللوحية أيّاً كانت: "سمارت فونز" أو "كينديل" أو "أجهزة آبل". هكذا دخلت أمازون على الخط، فتحوّل على ما يبدو روّاد المكتبات من أصحاب المهن الفكرية والثقافية صوبها، فالزمن تغيّر فعلًا على ما يبدو.
مع ذلك، ثمّة أسئلة كثيرة يُمكن أن تثار حول تخلّي مجموعة مادريغال عن هذه المكتبة الشهيرة، وقد حاول "ملحق الثقافة" التعرّف إلى آراء وقراءات أصحاب مكتبات ودور نشر أخرى. وقد فسّر مدير مكتبة ودار النشر (ليديليتانت) Le Dilettante، في ساحة الأوديون، دومينيك غولتيي Dominique Gaultier، عند اللقاء الأمر قائلًا: "أظنّ أن دار النشر فلاماريون، قامت بعملية عقارية عبر التخلي عن مقرّ المكتبة الواقع قرب جادة السان جيرمان. وهو أمرٌ يعدّ خطأً استراتيجيًا، بيد أنّه من الناحية المالية أمرٌ حسن. فقد استطاعوا سابقًا تحقيق مبلغ مالي ضخم جرّاء الصفقة مع لويس فيتون. وبالتالي، يجب عدم التباكي على مصير الثقافة، لعلّ جوابي يبدو غير لائق، لكن هذا ما أظنّه".
بيد أننا أردنا سبر في ما إن كان لشركة أمازون يد في ذلك، فأجاب غولتيي: "لا، لا أتصوّر ذلك. ما يجب علينا الاعتراف به، هو أن الحيّ تغيّر. فقد كان حي سان جيرمان سابقًا حيًا للفكر والثقافة. بينما اليوم فليست النخبة الثقافية التي تقطن فيه، بل الأجانب الباحثين عن موطئ قدم، كما يقال، وهم ليسوا بطبيعة الحال من هواة الأدب والثقافة. ولكن، من جهة ثانية، ثمّة مكتبة أخرى ممتازة، مكتبة "Ecume des pages"، وهي تواصل عملها في ظروف جيدة. وحتى في الوقت الذي كانت فيه "La Hune" موجودة في جادة السان جيرمان، فقد كان القرّاء الحقيقيون يفضّلون المكتبة الأخرى... لقد انسحبت مكتبة "لو ديفان" من الحي، حين أدركت أن من الصعب أن تعرض الكتب نفسها التي كانت تعرضها مكتبة "La Hune" ومكتبة "Ecume des pages" كذلك.
وإذ بدا جوابه مطمئِنًا وبعيدًا من السؤال عن أمازون، استدرك قائلًا: "لا، لن أحزن على مصير مكتبة "La Hune"، لأن المكتبة تعني فضاءً واسعًا نسبيًا، وكما تعلم فإن تكاليف الإيجار غالية جدًا في باريس. هذه هي المشكلة الكبيرة. فضلًا عن ان أرباحها كانت زهيدة، زد على هذا شركة أمازون التي يبدو تأثيرها على المكتبات الباريسية أقلّ وطأة من تأثيرها على مكتبات محافظات فرنسا الأخرى، فالذين يقطنون بعيدًا من المدن يضطرون لاستعمال سياراتهم مع ما يستدعي الأمر من احتمال حدوث مخالفات سير، لذا يلجأون إلى أمازون. فالإنترنت يناسبهم للعثور على الكتب التي يريدون، الأمر يختلف عن المكتبة حيث توجد كلّ الكتب التي يكتشفها المرء ما أن يدخل إلى المكتبة".
وقرب حديقة اللوكسمبورغ الشهيرة، التقينا بأحد مسؤولي دار ومكتبة جوزي كورتي، برتراند فيّودو Bertrand Fillaudeau الذي رأى في إغلاق المكتبة "أمرًا منطقيًا في العصر الذي نعيشه، أي العصر الذي تتخلّى فيه فرنسا عن الثقافة. الأمر خطير على الجميع، ويتعلّق بمرض يلوث كلّ فرنسا. إذ إننا نصرف أموالًا كثيرة على الثقافة المشهدية وليس على واقع الثقافة".
وتحدّث كذلك عن انتقال مكتبة "لوديفان": "لقد غيّرت مكانها وانتقلت إلى الدائرة الخامسة عشر، لأن مكانها كان مهدِدًا بالنسبة للحي اللاتيني، الذي لا يحمل من اللاتينية سوى الاسم. حيّ أصبح حيًا للسياح لا القرّاء". ولم يمهلنا للسؤال عن أمازون، بل تسرّبت إلى حديثه بعفوية: "إنها إحدى الأسباب التي تُسمّم الثقافة، وتتصرّف مثل أي رأسمالي جدير بحمل هذا الاسم، من خلال خفض الأسعار والاستيلاء على مجموع سلسلة الكتاب".
وعند ذاك بادره "ملحق الثقافة" بسؤال: هل الوضع كارثي في فرنسا إذن؟ فأجاب: "لا نزال في فرنسا نقاوم بفضل المكتبات المستقلّة. ولكن من المؤكد أنه حال غدت كل السلطات بيد أمازون، فلن يعود هناك أي وجود لثقافة فردية. وستصبح الثقافة معولمة كما أصبح العالم معولمًا. سنفقد كلّ ما يمثّل خصوصية أي بلد. وعلى الأرجح، فإن مجموع دور النشر الصغرى ستختفي من المشهد الثقافي، ما خلا الدور العملاقة التي سيلتهم بعضها بعضًا".
لا تمثّل مكتبة "لو ديفان" استثناءً على ما يبدو، إذ كانت هذه أيضًا حال المكتبة الأنغلوفونية الأسطورية "Village Voice" في جادة "سان ميشيل"، التي أقفلت أبوابها نهائيًا، سنة 2012. وقد أرجع القائمون عليها سبب ذلك إلى تأثير بيع الكتب عبر الإنترنت: "الإنترنت قتلها". ثم جاء دور المكتبة الألمانية قرب مكتبة مركز جورج بوميبدو، وبعدها المكتبة الأمازيغية في الدائرة الرابعة عشر، وكذلك مكتبة ابن رشد ومكتبة ألف باء ومكتبة ابن سينا للكتاب العربي، وغيرها. ولعلّه من الصعب جدّاً ذكر كلّ المكتبات الفرنسية التي أغلقت أبوابها فهي كثيرة.
مع ذلك، ثمّة مكتبات بقيت صامدة، واستطاعت بفضل تحقيق الأرباح، مقاومة التحدّيات الجديدة التي تفرضها "العولمة الناعمة"، إذ غير بعيد من "سان جيرمان دي بري"، وتحديدًا في جادة "سان ميشيل"، تبدو مكتبتا "جيبرت جون" و"جيبرت جوزيف" "صامدتين" بسبب أرقام أعمالهما وسياستهما في بيع الكتب الجديدة والمستعملة، فضلًا عن بيع الكتب المدرسية التي تدرّ أرباحًا لا يستهان بها.
بيد أن الجديد اليوم، هو مصير مكتبة "La Hune"، الواقعة في شارع متفرّع من جادة "سان جيرمان"، وتحديدًا قرب كنيسة "سان جيرمان دي بري" في شارع l'Abbaye. فقد عرفت هذه المكتبة بدورها انتقالًا من مقرّها التاريخي منذ ثلاث سنوات صوب الشارع المذكور، وكان ذاك الانتقال "إشارة" غير مستحبة أنبأت عن خطر إغلاقها، وهو الأمر الذي حصل منتصف شهر يونيو/ حزيران الجاري، وخاصّة أن مقرّها التاريخي أضحى متجرًا لأشهر الماركات الراقية: لوي فيتون.
اقرأ أيضاً: برايتون برس
تأسسّت مكتبة "La Hune" عام 1944، على يد برنارد غيربرانت Bernard Gheerbrant، وتميّزت بمفهومها الخاص عن الكتاب، إذ عدّته "تحفّة فنية". وينظر إليها بعض المؤرّخين باعتبارها علامة من علامات ما بعد الحرب العالمية الثانية. وممّا لا شك فيه أن موقع المكتبة بين المقهيين الشهيرين "Les Deux Magots" و"de Flore"، كان في صالحها، إذ إن الزبائن كانوا وقتها طليعة المثقفين الفرنسيين وأكثرهم شهرة: جان بول سارتر، وسيمون دو بوفوار، وفرانسواز ساغان، وألبير كامو، وهنري ميشو وغيرهم. وللمرء أن يتخيّل صدى النقاشات الثقافية بين المكتبة والمقهيين. عرفت المكتبة بالطبع تحديّات تتعلّق بطبيعة عملها خلال السنوات الماضية ما قبل التكنولوجيا: فقد واجهتها مشكلة "سرقة الكتب"، التي دافعت عنها الحركات الطلابية الشهيرة لسنة 1968، ودفعت مؤسسها لابتكار طرق تقنية لمواجهة تلك السرقات. وأيضًا واجهتها مشكلة هيمنة النوادي والبيع عن طريق البريد العادي. بعد ذاك، انتقل التحدي إلى "موضة" نشر الكتب الفنية وكتب الجيب. إلا أن التحدي الأكبر كان في افتتاح الـ(Fnac) سنة 1974، الذي يمكن عدّه بمثابة "سوبر ماركت" للكتب. ولم يكن مقرّه بعيدًا من المكتبة، إلا أن المشكلة كانت في "مفهومه" القائم على البيع بحسم 20 بالمائة، الأمر الذي أثّر في مبيعات "La Hune". وإذ لم يكن الضرّر واقعًا عليها وحدها، بدأ العمل من أجل إصدار قانون "السعر الموحد للكتاب"، وكان الوزير الفرنسي الأسبق والمدير الحالي لمعهد العالم العربي، جاك لانغ، وراءه عام 1981.
تقاعد مؤسّسها برنارد غيربرانت عام 1976، ودخلت المكتبة في دوامة عالم "البيع والشراء والاستحواذ"، وأصبحت مذذاك تابعة لدار نشر فلاماريون. بيد أن "سيطرة" دار النشر الشهيرة غاليمار على فلاماريون نفسها عام 2012، أو التقارب بينهما، جعل المكتبة جزءًا من مجموعة مادريغال المنبثقة عن سيطرة غاليمار على فلاماريون، وتعدّ ثالث مجموعة نشر فرنسية.
تخلي المكتبة مقرّها على ما يبدو لشركة تُعنى بالصورة Yellow Corner، التي يقال إنها قادرة على إقامة نشاط يجمع بين المكتبة والغاليري.
ربّما يرى الملاحظ المحايد في أمر الإغلاق هذا انتصارًا لـ"العقلانية الاقتصادية" على "الرمز الثقافي"، وخاصّة أن رقم أعمال المكتبة انخفض بما يقارب الخمسة وثلاثين بالمائة منذ عام 2009. إلا أن ما لا يمكن إنكاره أيضًا التأثير الرهيب لشركة الأمازون التي احتالت على قانون صدر ضدّها، يقول بمنع شحن الكتب مجانًا للمشتري، من خلال عرضها للشحن مقابل سنتيم واحد وإيصال الكتاب / البضاعة في غضون ساعة. فضلًا عن عرضها لاشتراك شهري بقيمة "عشرة يوروات"، تتيح للقارئ الفرنسي التجوّل بين 700 ألف كتاب "افتراضي" مناسب للحواسيب اللوحية أيّاً كانت: "سمارت فونز" أو "كينديل" أو "أجهزة آبل". هكذا دخلت أمازون على الخط، فتحوّل على ما يبدو روّاد المكتبات من أصحاب المهن الفكرية والثقافية صوبها، فالزمن تغيّر فعلًا على ما يبدو.
مع ذلك، ثمّة أسئلة كثيرة يُمكن أن تثار حول تخلّي مجموعة مادريغال عن هذه المكتبة الشهيرة، وقد حاول "ملحق الثقافة" التعرّف إلى آراء وقراءات أصحاب مكتبات ودور نشر أخرى. وقد فسّر مدير مكتبة ودار النشر (ليديليتانت) Le Dilettante، في ساحة الأوديون، دومينيك غولتيي Dominique Gaultier، عند اللقاء الأمر قائلًا: "أظنّ أن دار النشر فلاماريون، قامت بعملية عقارية عبر التخلي عن مقرّ المكتبة الواقع قرب جادة السان جيرمان. وهو أمرٌ يعدّ خطأً استراتيجيًا، بيد أنّه من الناحية المالية أمرٌ حسن. فقد استطاعوا سابقًا تحقيق مبلغ مالي ضخم جرّاء الصفقة مع لويس فيتون. وبالتالي، يجب عدم التباكي على مصير الثقافة، لعلّ جوابي يبدو غير لائق، لكن هذا ما أظنّه".
بيد أننا أردنا سبر في ما إن كان لشركة أمازون يد في ذلك، فأجاب غولتيي: "لا، لا أتصوّر ذلك. ما يجب علينا الاعتراف به، هو أن الحيّ تغيّر. فقد كان حي سان جيرمان سابقًا حيًا للفكر والثقافة. بينما اليوم فليست النخبة الثقافية التي تقطن فيه، بل الأجانب الباحثين عن موطئ قدم، كما يقال، وهم ليسوا بطبيعة الحال من هواة الأدب والثقافة. ولكن، من جهة ثانية، ثمّة مكتبة أخرى ممتازة، مكتبة "Ecume des pages"، وهي تواصل عملها في ظروف جيدة. وحتى في الوقت الذي كانت فيه "La Hune" موجودة في جادة السان جيرمان، فقد كان القرّاء الحقيقيون يفضّلون المكتبة الأخرى... لقد انسحبت مكتبة "لو ديفان" من الحي، حين أدركت أن من الصعب أن تعرض الكتب نفسها التي كانت تعرضها مكتبة "La Hune" ومكتبة "Ecume des pages" كذلك.
وإذ بدا جوابه مطمئِنًا وبعيدًا من السؤال عن أمازون، استدرك قائلًا: "لا، لن أحزن على مصير مكتبة "La Hune"، لأن المكتبة تعني فضاءً واسعًا نسبيًا، وكما تعلم فإن تكاليف الإيجار غالية جدًا في باريس. هذه هي المشكلة الكبيرة. فضلًا عن ان أرباحها كانت زهيدة، زد على هذا شركة أمازون التي يبدو تأثيرها على المكتبات الباريسية أقلّ وطأة من تأثيرها على مكتبات محافظات فرنسا الأخرى، فالذين يقطنون بعيدًا من المدن يضطرون لاستعمال سياراتهم مع ما يستدعي الأمر من احتمال حدوث مخالفات سير، لذا يلجأون إلى أمازون. فالإنترنت يناسبهم للعثور على الكتب التي يريدون، الأمر يختلف عن المكتبة حيث توجد كلّ الكتب التي يكتشفها المرء ما أن يدخل إلى المكتبة".
وقرب حديقة اللوكسمبورغ الشهيرة، التقينا بأحد مسؤولي دار ومكتبة جوزي كورتي، برتراند فيّودو Bertrand Fillaudeau الذي رأى في إغلاق المكتبة "أمرًا منطقيًا في العصر الذي نعيشه، أي العصر الذي تتخلّى فيه فرنسا عن الثقافة. الأمر خطير على الجميع، ويتعلّق بمرض يلوث كلّ فرنسا. إذ إننا نصرف أموالًا كثيرة على الثقافة المشهدية وليس على واقع الثقافة".
وتحدّث كذلك عن انتقال مكتبة "لوديفان": "لقد غيّرت مكانها وانتقلت إلى الدائرة الخامسة عشر، لأن مكانها كان مهدِدًا بالنسبة للحي اللاتيني، الذي لا يحمل من اللاتينية سوى الاسم. حيّ أصبح حيًا للسياح لا القرّاء". ولم يمهلنا للسؤال عن أمازون، بل تسرّبت إلى حديثه بعفوية: "إنها إحدى الأسباب التي تُسمّم الثقافة، وتتصرّف مثل أي رأسمالي جدير بحمل هذا الاسم، من خلال خفض الأسعار والاستيلاء على مجموع سلسلة الكتاب".
وعند ذاك بادره "ملحق الثقافة" بسؤال: هل الوضع كارثي في فرنسا إذن؟ فأجاب: "لا نزال في فرنسا نقاوم بفضل المكتبات المستقلّة. ولكن من المؤكد أنه حال غدت كل السلطات بيد أمازون، فلن يعود هناك أي وجود لثقافة فردية. وستصبح الثقافة معولمة كما أصبح العالم معولمًا. سنفقد كلّ ما يمثّل خصوصية أي بلد. وعلى الأرجح، فإن مجموع دور النشر الصغرى ستختفي من المشهد الثقافي، ما خلا الدور العملاقة التي سيلتهم بعضها بعضًا".