02 نوفمبر 2024
منظمات متفسخة وأمن سائب
في سنة 2014، بادر شبان فلسطينيون في مخيمات لبنان إلى الاحتجاج على أحوالهم البائسة، ورفعوا شعارات استفزازية، تطالب بتسهيل هجرتهم إلى دول الغرب، لأن الغرب أرحم من ديار المسلمين والعرب. ومثَّل هذا الحراك تحدياً غير مسبوق للشعارات السياسية التي ما برحت المنظمات الفلسطينية ترددها، كالعودة والتحرير وتقرير المصير والاستقلال الوطني؛ وهي شعارات، على تاريخيتها ومشروعيتها، باتت مكرورة وبلا جاذبية. وها هي حملة الاحتجاجات اللبنانية تمتد، اليوم، إلى المخيمات الفلسطينية بقوة المَثَل، وبالتحديد إلى مخيم عين الحلوة الذي رفع بعض أبنائه شعار "طلعت ريحتكم"، وكتبوا على حوائط منازلهم التاعسة عبارات، مثل "حلّوا عنا" و"اتركونا بحالنا"، و"ارحلوا" و"بيكفّي". وفي سياق هذه الحركة، نفذ أهالي حي عكبرة (في عين الحلوة) اعتصاماً احتجاجياً على الموت اليومي الذي يغمرهم، بعدما عجزت المنظمات المسلحة كلها عن وضع حد للإرهابيين الذين لا يحلو عيشهم، من دون أن يَلِغوا في دماء الناس صباحاً ومساءً.
من غرائب الأحوال والأهوال في مخيم عين الحلوة، أن ثمة سواتر ترابية باتت تفصل الأزقة بعضها عن بعض، وظهرت تحصينات اسمنتية (دُشم) تقطع الطرق الداخلية الضيقة، وبُنيت بوابات مقفلة في الشوارع، وفي مساحة تزيد قليلاً على كيلومتر مربع واحد. وهكذا، صار المخيم مجرد مربع أمني، لا سلطة أمنية فيه، بل سلطات متحاربة، فيما البلادة السياسية للمنظمات المتفسخة هي الطاغية والسائدة، وأمست الانتهازية في ذروة تجسدّها: منظمات "تقبض" من حركة فتح، وتقف إلى جانب خصومها، وتعتقد أن فتح كلما تلقت ضربة من هنا أو هناك، أو تخلخلت قوتها، فإن من شأن ذلك أن يحسِّن مواقع هذه المنظمات الغبية. إنها الأمية السياسية بأكثر تجلياتها فجاجة وغباء. وفي خضم هذه الدائرة الجهنمية، يُقتل الناس في "عين الحلوة" مجاناً، ويموت أبناؤهم غرقاً في الطريق إلى المهاجر البعيدة من دون ضجيج.
في هذا العياء المعمم الذي يلف بعباءاته وقفاطينه الحياة اليومية للفلسطينيين في مخيمات لبنان، صمت "المثقف النقدي" عن مهمته الأساس، أي الفضح والإيلام وقول الحقيقة، ثم تبخر، وبقي في الميدان "حديدان"، أي "المثقف اليومي" الذي لا يجيد إلا التكسب من المنافحة عن فصيلته المهترئة، على غرار شعراء القبائل البدوية القديمة، أو "المثقف الدعي" الذي يجد متعته في الكذب وإطلاع النجوم ولو في عز الظهيرة، والويل لمن لا يصدّق. أما بعض المنظمات، فانصرف عن قتال إسرائيل، واستنكف عن خدمة شعبه، وراح يعبث بحياة الناس وأجسادهم وأرزاقهم، ويؤسس هيئات وجمعيات للجباية والارتزاق الفاسد. لهذا، ليس غريباً أن تتحول المخيمات بيئة مغوية للهمجية المتخفية بجلابيب الشعارات الدينية والسياسية الزائفة والعالية النبرة، وأن يُطبق الرعب على أعناق البشر. فالأبناء الذين كبروا باتوا في المنافي، ومن كان بالغاً استشهد أو قُطِّعت أطرافه، واللواتي تزوجن صرنَ أرامل، والأمهات الثكالى يتجرعن كؤوس الحرقة في كل يوم، والآباء إما ماتوا بالحسرة، أو يعدّون أيامهم ويحرقون السكر في دمائهم، ويتجرعون المرارة التي لا تنتهي.
آن الأوان، منذ زمن بعيد، لوقف هذا الوباء، وحان الوقت لإنقاذ الناس من الرعاع والأوباش، مهما كان لسانهم أو عقيدتهم. ما عاد الصمت ممكناً؛ لتدخل السلطة اللبنانية إلى مخيم عين الحلوة، لتخليص الناس ممن يعيث في الأرض فساداً وفي السماء نفاقاً. وليكن هذا الدخول تحناناً على الفلسطينيين، ونجدة تليق بهذا الشعب الصابر على بلائه. أما هؤلاء الذين جعلوا المخيم مساحة للقلق والاضطراب والبلبلة والإرهاب والموت المتربص بالأرواح، فليرحلوا عن أرضنا وسمائنا، و"يحلّوا عن سما ربنا". ومن أراد السقوط المهين سندفعه أكثر.
في هذا العياء المعمم الذي يلف بعباءاته وقفاطينه الحياة اليومية للفلسطينيين في مخيمات لبنان، صمت "المثقف النقدي" عن مهمته الأساس، أي الفضح والإيلام وقول الحقيقة، ثم تبخر، وبقي في الميدان "حديدان"، أي "المثقف اليومي" الذي لا يجيد إلا التكسب من المنافحة عن فصيلته المهترئة، على غرار شعراء القبائل البدوية القديمة، أو "المثقف الدعي" الذي يجد متعته في الكذب وإطلاع النجوم ولو في عز الظهيرة، والويل لمن لا يصدّق. أما بعض المنظمات، فانصرف عن قتال إسرائيل، واستنكف عن خدمة شعبه، وراح يعبث بحياة الناس وأجسادهم وأرزاقهم، ويؤسس هيئات وجمعيات للجباية والارتزاق الفاسد. لهذا، ليس غريباً أن تتحول المخيمات بيئة مغوية للهمجية المتخفية بجلابيب الشعارات الدينية والسياسية الزائفة والعالية النبرة، وأن يُطبق الرعب على أعناق البشر. فالأبناء الذين كبروا باتوا في المنافي، ومن كان بالغاً استشهد أو قُطِّعت أطرافه، واللواتي تزوجن صرنَ أرامل، والأمهات الثكالى يتجرعن كؤوس الحرقة في كل يوم، والآباء إما ماتوا بالحسرة، أو يعدّون أيامهم ويحرقون السكر في دمائهم، ويتجرعون المرارة التي لا تنتهي.
آن الأوان، منذ زمن بعيد، لوقف هذا الوباء، وحان الوقت لإنقاذ الناس من الرعاع والأوباش، مهما كان لسانهم أو عقيدتهم. ما عاد الصمت ممكناً؛ لتدخل السلطة اللبنانية إلى مخيم عين الحلوة، لتخليص الناس ممن يعيث في الأرض فساداً وفي السماء نفاقاً. وليكن هذا الدخول تحناناً على الفلسطينيين، ونجدة تليق بهذا الشعب الصابر على بلائه. أما هؤلاء الذين جعلوا المخيم مساحة للقلق والاضطراب والبلبلة والإرهاب والموت المتربص بالأرواح، فليرحلوا عن أرضنا وسمائنا، و"يحلّوا عن سما ربنا". ومن أراد السقوط المهين سندفعه أكثر.