مع ذلك، يبدو أن ما نقله سيغيف لمشغليه الإيرانيين ليس خطيراً للغاية، أو ليس أخطر من كون من نقل المعلومات شغل منصباً رفيعاً، وزيراً في حكومة إسحاق رابين، حتى وإن كان دخوله الحكومة، عام 1995 نتيجة لانشقاقه عن حزبه الأم "تسومت" مقابل منصب وزير والتصويت لصالح اتفاقية أوسلو الثانية. وهو ما دفع زميله في الحزب، الجنرال احتياط موشيه بيلد، إلى إبلاغ الإذاعة الإسرائيلية، أنه لم يستغرب "قيام سيغيف بخيانة إسرائيل"، لأنه سبق له أن خان الناخبين وخان رفاقه في الحزب وانشق عن الحزب وأتى بالويلات على إسرائيل عند تصويته لصالح اتفاق أوسلو ومنح رابين أغلبية لتمرير الاتفاق.
محاولات تقليل الضرر
حاولت الصحف الإسرائيلية ومعلّقو الشؤون الأمنية في إسرائيل، طيلة مساء الإثنين ونهار أمس الثلاثاء، التخفيف والتقليل من خطورة المعلومات التي من الممكن أن يكون سيغيف نقلها، خصوصاً أنه كان وزيراً فقط بين عامي 1995 و1996، ثم أُبعد عن دوائر القرار السياسي والأمني في إسرائيل، عندما توجّه للعمل في القطاع الخاص، ومن ثم تورط لاحقاً في تهريب المخدرات.
مع ذلك لفتت وسائل الإعلام إلى أن سيغيف كان محط اهتمام "حزب الله" والإيرانيين منذ العام 2002، عندما حاول الحزب إغراءه لخطفه، عبر الفلسطيني قيس عبيد الذي أدين بالانتماء للحزب. لكن هذه المحاولات بحسب تقرير نشره موقع "يديعوت أحرونوت" في العام 2002 كانت قد باءت بالفشل، واستُبدل المشروع بمحاولة تجنيد شخص آخر والإيقاع به، وقد نجح "حزب الله" حينها في الإيقاع بالعقيد احتياط الحنان تننباوم، واستدراجه إلى لبنان واختطافه والتحقيق معه، وبقي الأمر طي الكتمان إلى حين إبرام صفقة "وفاء الأحرار" وإعادته إلى إسرائيل مع جثامين ثلاثة جنود إسرائيليين احتجزها "حزب الله".
ومقابل محاولات التخفيف من أهمية المعلومات التي نقلها سيغيف لمشغليه في إيران، باعتبار أن الرجل بات بعيداً عن دوائر صنع القرار، اعتبر رون بن يشاي في موقع "يديعوت أحرونوت" أن سيغيف قد يكون نقل أو للدقة صحح للاستخبارات الإيرانية، نقاط مواقع استراتيجية في إسرائيل، وإحداثياتها خصوصاً في مجال الطاقة، ومواقع عسكرية أخرى قد يكون عرف بمواقعها الدقيقة بفعل كونه وزيراً للطاقة.
مع ذلك تبقى المعلومات التي كشفت عنها وسائل الإعلام الإسرائيلية شحيحة، في ظل ما نقله الإعلام عن محامي سيغيف، بأن ما نشره جهاز "الشاباك" عن نشاطه مبالغ به وينطوي على تهويل، مقارنة بما هو منصوص عليه في لائحة الاتهام.
يُشار إلى أن سيغيف وعلى الرغم من قول وسائل الإعلام الإسرائيلية إنه كان يخضع للمراقبة من قبل أجهزة الدولة، إلا أنه تمكّن عملياً من العمل لصالح إيران طيلة ست سنوات متتالية، من خلال نشاطه في عيادته الخاصة في نيجيريا، مع ما رافق ذلك من كون عيادته كانت محط زيارات وعلاج لإسرائيليين عاملين في نيجيريا، خصوصاً في شركات الحراسة والأمن، ومن ذلك معالجة سيغيف في عيادته للعاملين في السفارة الإسرائيلية في نيجيريا.
وكان سيغيف يغيب عن نيجيريا في رحلات عمل يدعي أنها لاستيراد أدوية ومعدات طبية، وهو الستار نفسه الذي كانفد توسله عند اتصاله لأول مرة بالاستخبارات الإيرانية في السفارة الإيرانية في نيجيريا، ومن ثم في اللقاءات التي عقدها، سواء في نيجيريا أو عواصم مختلفة بين رجال أعمال إسرائيليين، بعضهم من ذوي الخلفيات الأمنية سابقاً، وبين عناصر الاستخبارات الإيرانية، الذين قدّمهم على أنهم رجال أعمال، مع أنه كان يعلم أنهم من الاستخبارات الإيرانية.
لكن يبقى الأهم رد فعل سيغيف وما قاله للمحققين، فقد ذكرت الصحف الإسرائيلية أن سيغيف ادعى أنه كان يحاول خداع الإيرانيين وخدمة الأمن الإسرائيلي، وهو قول لم تقبله الاستخبارات الإسرائيلية ورفضته جملة وتفصيلاً.
السؤال الذي يُطرح هو كيف تمكّن سيغيف، على الرغم من أنه كان يخضع لمراقبة الأجهزة الإسرائيلية بحسب زعم الأخيرة، من العمل على مدار ست سنوات مع الاستخبارات الإيرانية، وزيارة إيران مرتين على الأقل، ناهيك عن أنه كان قد زار، بحسب تقرير "يديعوت أحرونوت"، في 2002 "دولاً في الخليج الفارسي" (التعبير ليديعوت) وأجرى صفقات مختلفة من دون أن يفتضح أمره؟ وما هو السبب وراء اختيار هذا التوقيت بالذات لاعتقاله، (في شهر مايو/أيار الماضي)، والكشف عن القضية الآن، وهل يتصل ذلك بتساؤل عبّرت عنه الصحافية الإسرائيلية أيالا حسون، أمس، من أن إيران هي التي تنازلت عن سيغيف وأحرقته لإرباك إسرائيل وإحراجها، رداً على الصفعة التي وجّهها لها "الموساد" عندما قام بسرقة الأرشيف النووي لإيران مطلع العام الحالي؟
تاريخ تجنيد الجواسيس
لا تعترف السجلات الإسرائيلية ومراكز المعلومات وما هو منشور على مواقعها المختلفة، بنجاح كبير لدول عربية أو إسلامية، في تجنيد إسرائيليين أو يهود من مواطنيها لصالح خدمة أجهزة الاستخبارات للدول العربية، خلافاً لنجاح الدول الأجنبية الأخرى، وعلى نحو خاص الاتحاد السوفييتي ودول الكتلة الأوروبية الشرقية في تجنيد عدد لا يستهان به للعمل لصالح هذه الدول ضد إسرائيل، وبالأساس لأسباب عقائدية.
وفي السياق العربي، فإن أبرز المحاولات هي تلك المصرية التي تتصل بتجنيد وإيفاد المصري رفعت الجمال إلى إسرائيل عشية حرب يونيو/حزيران 1967 للتجسس لصالح مصر، لكن إسرائيل ادعت لاحقاً أنها تمكّنت من تحويله إلى عميل مزدوج، كان لنشاطه أثر كبير في نتائج حرب يونيو. ومثله أيضاً يمكن أن يقال عن أشرف مروان، صهر الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، والذي لقي مصرعه في ظروف غامضة في لندن. وكان رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية السابق إيلي زعيرا، أصر حتى وفاته أن مروان كان جاسوساً لإسرائيل، على الرغم من تشكيك رئيس "الموساد" الأسبق إيسر هرئيل في مروان، واتهامه بأنه كان في الواقع عميلاً مزدوجاً ضلل إسرائيل في كل ما يتعلق بساعة الصفر لحرب أكتوبر/تشرين الأول عام 1973.
في المقابل، يقر ما هو معلن في إسرائيل بنجاح مصري في تجنيد مواطن يهودي مصري يدعى افري إلعاد، تبيّن لاحقاً أنه كان موفد لـ"الموساد" إلى مصر، انقلب على أعضاء خلية "الموساد" التي نشطت في مصر بين 1954 و1957 وسلّم أعضاء الخلية للسلطات المصرية. إضافة إلى محاولتين آخريين لتجنيد إسرائيليين لصالح الاستخبارات المصرية. جرت المحاولة الأولى في العام 1954 بعد أن عرض ضابط إسرائيلي في الجيش يدعى ألكسندر يسرائيل التجسس لصالح الجيش المصري، لكن "الموساد" تمكن من كشفه واختطافه من أوروبا، وخلال جلبه إلى إسرائيل توفي في ظروف غامضة في الطائرة، وألقيت جثته في مياه المتوسط وأطلق على عملية اعتقاله واختطافه اسم "عملية بيرن".
وفي العام 1963 اتصل رجل الأعمال الإسرائيلي شموئيل سامي باروخ بالاستخبارات المصرية في أوروبا، وعرض خدماته عليها، وتمكّن بالفعل من العمل لصالحها، بعد أن أقام مصنعاً للنسيج في كريات غات، في النقب، كان بمثابة محطة رصد للاستخبارات المصرية، وتم القبض عليه والحكم عليه بالسجن 18 عاماً، وأطلق سراحه بعد عشر سنوات ثم هاجر من إسرائيل واختفت آثاره.
ما عدا ذلك لا يُذكر نجاح للدول العربية في تجنيد مواطن إسرائيلي، وليس زرع مواطن عربي في إسرائيل، للعمل لصالح الدول العربية ضد إسرائيل، إلا في العام 1972 عندما تم القبض على الناشط اليساري الإسرائيلي، أوي أديب، الذي اتهم بالانتماء لـ"الجبهة الشعبية" والتجسس لصالح سورية، وتمت محاكمته بتهمة التجسس أيضاً وقضى في السجن 12 عاماً وأفرج عنه في صفقة أحمد جبريل.
لكن السنوات الأولى لإعلان "دولة إسرائيل" شهدت نشاطاً للاستخبارات السوفييتية ومخابرات الدول الشرق أوروبية التي تمكنت من زرع جواسيس لها في مواقع مختلفة في إسرائيل، كان أبرزهم يسرائيل بار الذي كان أحد المساعدين المقربين من رئيس الحكومة الإسرائيلية، دافيد بن غوريون، وقد اعتقل عام 1961، وحكم عليه بالسجن 15 عاماً، لكنه توفي في السجن قبل انتهاء مدة محكوميته.
وقبله كانت الاستخبارات الإسرائيلية اعتقلت عام 1956 الدبلوماسي الإسرائيلي زئيف أفني، وأدانته بالتجسس لصالح الاتحاد السوفييتي لأسباب أيديولوجية وبفعل معتقداته الماركسية. ومثل أفني، اعتُقل عدد من العملاء ورجال السياسة الذين كانوا يحملون الأفكار الماركسية أو فريبين إلى الفكر الاشتراكي، ومن بينهم العالم كورت سيتا، المحاضر في معهد الهندسة التطبيقية والذي اتهم عام 1960 بالتجسس لصالح تشيكوسلوفاكيا وحكم عليه بالسجن 5 سنوات.
وفي العام 1983، في أوج الحرب الباردة، تم القبض على العالم ماركوس كلينبرغ، الذي كان يعمل في معهد أبحاث تطوير الأسلحة البيولوجية في نيس تسيونا، واتهم بتسليم ونقل معلومات هائلة للاتحاد السوفييتي، وحكم عليه بالسجن 29 عاماً. كما تمكن الاتحاد من تجنيد رجل الأعمال الإسرائيلي اليهودي شبتاي كلمنوفيتش للتجسس ونقل معلومات من إسرائيل، وقد اعتقل عام 1987 وحكم عليه بالسجن لتسع سنوات.
وفي العام 1991 تم الإعلان عن اعتقال الكولونيل شمعون ليفنزون، الذي كان خدم في الجيش و"الشاباك"، وبلغ منصب مدير الأمن والحراسة في ديوان رئيس الحكومة. واتهم بالتجسس لصالح الاتحاد السوفييتي أيضاً، وحُكم عليه بالسجن 9 سنوات.
وأخيراً أدين رجل الأعمال وتاجر السلاح الإسرائيلي ناحوم منبار في أواخر التسعينيات بثلاث مخالفات تتصل بمحاولة تقديم مساعدة للعدو ونقل معلومات لإيران. واعتُقل منبار عام 1997 وحُكم عليه بالسجن 16 عاماً وأطلق سراحه عام 2011. وادعى منبار أن الصفقات التي قام بها مع رجال أعمال إيرانيين كانت شرعية، وأنه كان يحاول الحصول على معلومات جديدة عن الملاح الإسرائيلي، رون أراد، الذي أسقطت طائرته في الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982 ووقع في الأسر ولم يعثر عليه بعد ذلك.