تحظى أرقام التضخم المرتفعة عند 24.52% في الاقتصاد التركي بأهمية كبيرة لعدة أسباب، من بينها أنها أول اختبار حقيقي لمرونة الحكومة بعد التعديلات الدستورية؛ وقدرة وزير الخزانة براءات ألبيرق على تسطير تجربة اقتصادية بعهده.
ومن ثم هناك الشيء القديم الجديد في الاقتصاد الرأسمالي والآلية التي يمكن لتركيا أن تُخرجها من هذه الحلقة بأقل الخسائر بعيداً عن الاستعانة بروشتة صندوق النقد الدولي؛ وهي قبل كل شيء تعيد لأذهان الشعب الحقبة التي مرت بها تركيا في القرن الماضي ومعاناتهم من هذه الآفة. لتلك الأسباب وغيرها تعد حقلاً بحثياً يثير إشكاليات اقتصادية مهمة في هذا الإطار.
اِتباع الاقتصاد التركي منظومة السوق الحر يفرض عليها، وعلينا، التزاماً بأبجديات الاقتصاد الكلية والجزئية وإسقاطها على مؤسساتها وإلا ستغرّد خارج السرب بدون جدوى وتواجه أزمات. هذه المقدمة ضرورية للتأكيد على أن الخوض في مشاكل الاقتصاد التركي يجب النظر إليها بعيون المدرسة الكلاسيكية والنظرية النقدية في الاقتصاد.
اقــرأ أيضاً
التضخم وجدوى الإجراءات الحكومية
أمام ارتفاع معدلات التضخم وتزايد المضاربة على سعر صرف الليرة وسط الأزمة السياسية مع الولايات المتحدة وأزمة الديون المرتفعة؛ تأخر البنك المركزي التركي في اتخاذ سياسات نقدية صارمة لامتصاص الفائض النقدي من الأسواق وضبط سعر الصرف وإرسال رسالة للمستثمرين أنه مستقل وحاضر، في حين غذّتْ قلة فاعليته في البداية من القلق في الشارع ما أدى لركوب المضاربين الموجة بعجز البنك المركزي عن رفع سعر الفائدة امتثالاً لرغبة الرئيس رجب طيب أردوغان، فاخترق سعر الصرف حاجزاً نفسياً مهماً هو خمس ليرات للدولار وفتح السيناريوهات قُدماً إلى ست وسبع ليرات وسط بيانات تضخم مرتفعة، إذ ارتفعت من 15.39% في شهر مايو/أيار إلى 24.52% في سبتمبر/أيلول الماضي.
أسهمتْ أسباب وجيهة في ارتفاع معدلات التضخم إلى هذه المستويات منها؛ اعتماد الحكومة والقطاع الخاص على الاستدانة بشكل مُفرِط لتغذية معدلات النمو الاقتصادية، فهذا كفيل بزيادة الكتلة النقدية بالبلد بشكل يفوق حجم الإنتاج الإجمالي؛ وخدمة الدين المرتفع تفرض حاجة ماسّة دائماً للعملة الصعبة لسداد المستحقات؛ وهذه الآلية في نمو الناتج تزيد من واردات الطاقة ومنتجات القيمة المضافة وعناصر الإنتاج غير المتوفرة محلياً وشرائها بالعملة الصعبة، وبالتالي ارتباط العملية الإنتاجية وتكاليف الإنتاج بالبلد بسعر الصرف، ما يُعرّض عملية التسعير في الأسواق المحلية للتغيير أمام أي موجة ارتفاع كبيرة في سعر الصرف.
كما أن ازدياد حجم الواردات بشكل غير محسوب سيقوّض فكرة إحلالها بالمنتج المصنع محلياً ما جعل الميزان التجاري التركي خاسراً طوال الوقت، وبالتالي انكشاف البلد على الأسواق الخارجية وقابليته للصدمات.
أمام هذه العوامل يحتاج البنك المركزي التعامل مع المستجدات الاقتصادية بشكل حازم عبر سعر الفائدة للتحكم بالكتلة النقدية ومنع حالة عدم التوازن الاقتصادي، ولكن تم تقييده من قبل أردوغان لوجهة نظر تعادي الفائدة.
وبالطبع لا يجب إغفال الأسباب السياسية وقوامها العقوبات الأميركية على تركيا جراء عدم إطلاق سراح القس الأميركي المحتجز منذ أكتوبر 2016، والذي تم إطلاق سراحه لاحقاً.
حسناً، يعد الإجراء الحقيقي والصارم في مكافحة التضخم وإعادة الاستقرار للأسعار ما اتخذه البنك المركزي التركي في 13 سبتمبر/ أيلول الماضي عندما رفع الفائدة بواقع 625 نقطة أساس إلى 24% بعد صدور نتائج التضخم عن أغسطس/ آب مرتفعة بواقع 17.9%.
على الرغم من أهمية هذه الخطوة لتثبيط حركة ارتفاع الأسعار، إلا أنها جاءت متأخرة بسبب تقييد حرية المركزي واكتفائه بضخ العملة الصعبة في الأسواق وخفض نسب الاحتياطي النقدي للبنوك ونسب احتياطي متطلبات الفوركس، وهي إجراءات على أهميتها، إلا أنها لا تراعي حجم الأزمة.
وعوضاً عن تحرك المركزي المُبكر دفع الرئيس بفكرة صحيحة جداً من حيث المبدأ، وهي زيادة عرض الدولارات في السوق، إلا أن دعواته لم تحظَ بزخم كبير، بل على العكس من ذلك؛ أظهرت بيانات البنك المركزي عن زيادة حيازات الأتراك من العملة الصعبة خلال الأسبوع الأول من أغسطس/ آب من 158.6 مليار دولار إلى 159.9 مليار دولار، فيما استجابت الدول لدعم الليرة وعلى رأسها تعهُّد قطر بالاستثمار في تركيا بـ15 مليار دولار كان له أثر آني على الأسواق.
موديل اقتصادي
أصدرت وزارة الخزانة "موديلاً اقتصادياً جديداً" يقوم على التوازن خلال الفترة 2018 -2020؛ وانضباط مالي خلال مرحلة التوازن؛ والتركيز على القيمة المضافة في الإنتاج والتصدير. تندرج ضمن السياسات المالية وليست النقدية ومضمون الخطة جيد على المدى المتوسط خلال 3 سنوات، فيما أزمة سعر الصرف آنية جداً، لذا لم تتحسن الليرة مع إعلان الوزير براءات ألبيرق للبرنامج، بل تفاقمت خسائرها أكثر ما جعل الأسعار ترتفع بالمحصلة.
اقــرأ أيضاً
وفي المحاولة الأخرى للوزارة خلال الشهر الحالي أطلق الوزير في 9 أكتوبر برنامج "الكبح الكامل للتضخم" بالتعاون مع العديد من الشركات المحلية حيث يتضمن خفضاً بنسبة 10% عن القروض ذات الفائدة المرتفعة، وتخفيض أسعار السلع والمنتجات بنسبة 10%.
لكن ومع مرور نحو أسبوعين على إطلاق البرنامج لا يبدو أن هناك انخفاضا كبيرا لأسعار السلع والخدمات، فالمبادرة كانت طوعية بالدرجة الأولى لم يشترك الجميع بها، وانخراط الشركات بتخفيض الأسعار سيقود إلى خفض أرباحها بسبب ارتفاع تكاليف الإنتاج الناجمة عن ارتفاع أسعار حوامل الطاقة كالوقود والكهرباء، إضافة إلى ارتفاع سعر صرف الليرة مقابل الدولار، ولو أرادت تخفيض الأسعار ستقوم بتخفيض التكاليف عن طريق تخفيض رواتب الموظفين أو الوظائف نفسها أو تخفيض الجودة، وهو ما لا تريده الحكومة بالتأكيد.
في هذه اللحظة من يتحمل التكلفة وكيف يكون التسعير؟ على الأقل القطاع الخاص نأى بنفسه عن المسؤولية وقرر تحميلها للحكومة، فيما المواطن هو الضحية الذي وجد قدرته الشرائية تنخفض أمام ارتفاع أسعار السلع والخدمات، وهنا تشير الأرقام الواردة من المركزي التركي أن التصدير والطلب الخارجي لا يزالان قويين بينما تزايد تباطؤ الطلب المحلي في الربع الثاني من العام الحالي وتباطأ مؤشر الإنتاج الصناعي وكل من مؤشري الاستهلاك الخاص والاستثمارات.
أضف لذلك أن إطلاق هكذا برنامج يحتاج لوعي مالي عالٍ من المجتمع، فبحسب دراسة استقصائية أجرتها شركة "سيا إنسايت" التركية، فإن 27% فقط من المستهلكين في المدن يعرفون البرنامج و73% لم يسمعوا به، و45% ممن يعرفون البرنامج يعتقدون أنه سيكون ناجحاً. كما أن 40% من المستهلكين يتوقعون زيادة أخرى في معدلات التضخم و34% يعتقدون أنه سيبقى على وضعه الحالي. لا أحبذ القول أن البرنامج سيفشل ولكنه بالتأكيد ليس العصا السحرية لمحاربة التضخم.
وكما كان محرك أزمة سعرف الصرف؛ سياسياً ناجماً عن فرض عقوبات أميركية على تركيا في 10 أغسطس/آب واحتدام العلاقات معها وافتخار ترامب بقوة الدولار أمام الليرة، كان تحسن الليرة إلى 5.5 منتصف الشهر الحالي ناجماً عن حلحلة في الأزمة وإخراج القس الأميركي وعودته لبلاده.
من يتحمل المسؤولية؟
إذا كان القطاع الخاص نأى بنفسه عن خفض الأسعار! فإن الحكومة أيضاً لا يمكنها التدخل لخفضها، لما يلحقه من ضرر بمؤشرات اقتصادية ويجعلها أمام حقيقة؛ التدخل في الأسواق في ظل اتباعها لاقتصاد السوق الحر و"دعه يعمل" وحرية العرض والطلب ورفض تدخل الحكومة، وقبل الكلاسيكيين كان ابن خلدون في مقدمته عام 1377 حذر من تدخل الدولة في الأسواق منعاً لحدوث اختلالات في هيكل الأسعار.
اقــرأ أيضاً
مطالب الحكومة للشركات بخفض الأسعار ستكون أجدى لو خُفضت أسعار حوامل الطاقة من وقود وكهرباء وحافظت على استقلالية المركزي، ولكن هذا لم ولن يحدث بالنظر إلى أسعار النفط المرتفعة في الأسواق العالمية ورؤية الرئيس المتمثلة بالحرب على "ثالوث الشر"؛ الفائدة والتضخم وسعر الصرف.
وكان أردوغان أشار إلى أن أفضل رد على الهجمات الاقتصادية الخارجية على تركيا هو الإصرار على زيادة الإنتاج والعمل الدؤوب، وهنا تظهر الإشارة إلى قانون جان باتيست ساي أحد تلاميذ آدم سميث للأسواق "كل عرض يخلق طلبه الخاص" والإنفاق على الأعمال دائماً مؤشر أفضل من الإنفاق الاستهلاكي، وأنه "يجب أن يكون هدف الحكومة الجيدة تحفيز الإنتاج، أما الحكومة السيئة فهدفها تشجيع الاستهلاك".
يتطابق هذا مع العداء الكبير من الرئيس لأسعار فائدة مرتفعة والتي ستحد من الإقراض للاستثمار والاستهلاك، وبالتالي الدخول في انكماش. ولكن عداء الرئيس لـ"ثالوث الشر" لم يقدم حلولاً لارتفاع التضخم في ظل السياسات المالية التوسعية.
أخيراً، لا توجد عصا سحرية لخفض الأسعار في ظرف زمني قصير مع احتمالية ذلك على المدى المتوسط في حال النجاح بتطبيق البرنامج الاقتصادي الجديد، وقد يكون سعر الصرف عند خمس ليرات أفضل بالنسبة للصادرات والسياحة.
والأجدر الآن تطبيق سياسات فعّالة تحافظ على مستويات تضخم وفائدة مستقرة، ولعل تنفيذ الموديل الاقتصادي الجديد مع التركيز على إحلال أكبر للواردات والحفاظ على استقلالية البنك المركزي ستقود ولاشك على المدى المتوسط إلى خفض الفائدة والتضخم واستقرار الاقتصاد وتعافي الليرة.
انتهاءً بما بدأنا به من اتباع تركيا لنظرية السوق الحرة وقوانينها في الدورة الإنتاجية ومن ثم الرغبة السياسية بالصعود إلى نادي الدول العشر الكبار عبر سياسات اقتصادية تغذي من التضخم وتخفض من قيمة العملة، لن يجعلها بمأمن عن عيوب هذه النظرية وارتداداتها، وإذا أرادت الخروج منها فهذا يحتم عليها التنظير لمقاربة اقتصادية مُهجَّنة مقنعة.
ومن ثم هناك الشيء القديم الجديد في الاقتصاد الرأسمالي والآلية التي يمكن لتركيا أن تُخرجها من هذه الحلقة بأقل الخسائر بعيداً عن الاستعانة بروشتة صندوق النقد الدولي؛ وهي قبل كل شيء تعيد لأذهان الشعب الحقبة التي مرت بها تركيا في القرن الماضي ومعاناتهم من هذه الآفة. لتلك الأسباب وغيرها تعد حقلاً بحثياً يثير إشكاليات اقتصادية مهمة في هذا الإطار.
اِتباع الاقتصاد التركي منظومة السوق الحر يفرض عليها، وعلينا، التزاماً بأبجديات الاقتصاد الكلية والجزئية وإسقاطها على مؤسساتها وإلا ستغرّد خارج السرب بدون جدوى وتواجه أزمات. هذه المقدمة ضرورية للتأكيد على أن الخوض في مشاكل الاقتصاد التركي يجب النظر إليها بعيون المدرسة الكلاسيكية والنظرية النقدية في الاقتصاد.
التضخم وجدوى الإجراءات الحكومية
أمام ارتفاع معدلات التضخم وتزايد المضاربة على سعر صرف الليرة وسط الأزمة السياسية مع الولايات المتحدة وأزمة الديون المرتفعة؛ تأخر البنك المركزي التركي في اتخاذ سياسات نقدية صارمة لامتصاص الفائض النقدي من الأسواق وضبط سعر الصرف وإرسال رسالة للمستثمرين أنه مستقل وحاضر، في حين غذّتْ قلة فاعليته في البداية من القلق في الشارع ما أدى لركوب المضاربين الموجة بعجز البنك المركزي عن رفع سعر الفائدة امتثالاً لرغبة الرئيس رجب طيب أردوغان، فاخترق سعر الصرف حاجزاً نفسياً مهماً هو خمس ليرات للدولار وفتح السيناريوهات قُدماً إلى ست وسبع ليرات وسط بيانات تضخم مرتفعة، إذ ارتفعت من 15.39% في شهر مايو/أيار إلى 24.52% في سبتمبر/أيلول الماضي.
أسهمتْ أسباب وجيهة في ارتفاع معدلات التضخم إلى هذه المستويات منها؛ اعتماد الحكومة والقطاع الخاص على الاستدانة بشكل مُفرِط لتغذية معدلات النمو الاقتصادية، فهذا كفيل بزيادة الكتلة النقدية بالبلد بشكل يفوق حجم الإنتاج الإجمالي؛ وخدمة الدين المرتفع تفرض حاجة ماسّة دائماً للعملة الصعبة لسداد المستحقات؛ وهذه الآلية في نمو الناتج تزيد من واردات الطاقة ومنتجات القيمة المضافة وعناصر الإنتاج غير المتوفرة محلياً وشرائها بالعملة الصعبة، وبالتالي ارتباط العملية الإنتاجية وتكاليف الإنتاج بالبلد بسعر الصرف، ما يُعرّض عملية التسعير في الأسواق المحلية للتغيير أمام أي موجة ارتفاع كبيرة في سعر الصرف.
كما أن ازدياد حجم الواردات بشكل غير محسوب سيقوّض فكرة إحلالها بالمنتج المصنع محلياً ما جعل الميزان التجاري التركي خاسراً طوال الوقت، وبالتالي انكشاف البلد على الأسواق الخارجية وقابليته للصدمات.
أمام هذه العوامل يحتاج البنك المركزي التعامل مع المستجدات الاقتصادية بشكل حازم عبر سعر الفائدة للتحكم بالكتلة النقدية ومنع حالة عدم التوازن الاقتصادي، ولكن تم تقييده من قبل أردوغان لوجهة نظر تعادي الفائدة.
وبالطبع لا يجب إغفال الأسباب السياسية وقوامها العقوبات الأميركية على تركيا جراء عدم إطلاق سراح القس الأميركي المحتجز منذ أكتوبر 2016، والذي تم إطلاق سراحه لاحقاً.
حسناً، يعد الإجراء الحقيقي والصارم في مكافحة التضخم وإعادة الاستقرار للأسعار ما اتخذه البنك المركزي التركي في 13 سبتمبر/ أيلول الماضي عندما رفع الفائدة بواقع 625 نقطة أساس إلى 24% بعد صدور نتائج التضخم عن أغسطس/ آب مرتفعة بواقع 17.9%.
على الرغم من أهمية هذه الخطوة لتثبيط حركة ارتفاع الأسعار، إلا أنها جاءت متأخرة بسبب تقييد حرية المركزي واكتفائه بضخ العملة الصعبة في الأسواق وخفض نسب الاحتياطي النقدي للبنوك ونسب احتياطي متطلبات الفوركس، وهي إجراءات على أهميتها، إلا أنها لا تراعي حجم الأزمة.
وعوضاً عن تحرك المركزي المُبكر دفع الرئيس بفكرة صحيحة جداً من حيث المبدأ، وهي زيادة عرض الدولارات في السوق، إلا أن دعواته لم تحظَ بزخم كبير، بل على العكس من ذلك؛ أظهرت بيانات البنك المركزي عن زيادة حيازات الأتراك من العملة الصعبة خلال الأسبوع الأول من أغسطس/ آب من 158.6 مليار دولار إلى 159.9 مليار دولار، فيما استجابت الدول لدعم الليرة وعلى رأسها تعهُّد قطر بالاستثمار في تركيا بـ15 مليار دولار كان له أثر آني على الأسواق.
موديل اقتصادي
أصدرت وزارة الخزانة "موديلاً اقتصادياً جديداً" يقوم على التوازن خلال الفترة 2018 -2020؛ وانضباط مالي خلال مرحلة التوازن؛ والتركيز على القيمة المضافة في الإنتاج والتصدير. تندرج ضمن السياسات المالية وليست النقدية ومضمون الخطة جيد على المدى المتوسط خلال 3 سنوات، فيما أزمة سعر الصرف آنية جداً، لذا لم تتحسن الليرة مع إعلان الوزير براءات ألبيرق للبرنامج، بل تفاقمت خسائرها أكثر ما جعل الأسعار ترتفع بالمحصلة.
وفي المحاولة الأخرى للوزارة خلال الشهر الحالي أطلق الوزير في 9 أكتوبر برنامج "الكبح الكامل للتضخم" بالتعاون مع العديد من الشركات المحلية حيث يتضمن خفضاً بنسبة 10% عن القروض ذات الفائدة المرتفعة، وتخفيض أسعار السلع والمنتجات بنسبة 10%.
لكن ومع مرور نحو أسبوعين على إطلاق البرنامج لا يبدو أن هناك انخفاضا كبيرا لأسعار السلع والخدمات، فالمبادرة كانت طوعية بالدرجة الأولى لم يشترك الجميع بها، وانخراط الشركات بتخفيض الأسعار سيقود إلى خفض أرباحها بسبب ارتفاع تكاليف الإنتاج الناجمة عن ارتفاع أسعار حوامل الطاقة كالوقود والكهرباء، إضافة إلى ارتفاع سعر صرف الليرة مقابل الدولار، ولو أرادت تخفيض الأسعار ستقوم بتخفيض التكاليف عن طريق تخفيض رواتب الموظفين أو الوظائف نفسها أو تخفيض الجودة، وهو ما لا تريده الحكومة بالتأكيد.
في هذه اللحظة من يتحمل التكلفة وكيف يكون التسعير؟ على الأقل القطاع الخاص نأى بنفسه عن المسؤولية وقرر تحميلها للحكومة، فيما المواطن هو الضحية الذي وجد قدرته الشرائية تنخفض أمام ارتفاع أسعار السلع والخدمات، وهنا تشير الأرقام الواردة من المركزي التركي أن التصدير والطلب الخارجي لا يزالان قويين بينما تزايد تباطؤ الطلب المحلي في الربع الثاني من العام الحالي وتباطأ مؤشر الإنتاج الصناعي وكل من مؤشري الاستهلاك الخاص والاستثمارات.
أضف لذلك أن إطلاق هكذا برنامج يحتاج لوعي مالي عالٍ من المجتمع، فبحسب دراسة استقصائية أجرتها شركة "سيا إنسايت" التركية، فإن 27% فقط من المستهلكين في المدن يعرفون البرنامج و73% لم يسمعوا به، و45% ممن يعرفون البرنامج يعتقدون أنه سيكون ناجحاً. كما أن 40% من المستهلكين يتوقعون زيادة أخرى في معدلات التضخم و34% يعتقدون أنه سيبقى على وضعه الحالي. لا أحبذ القول أن البرنامج سيفشل ولكنه بالتأكيد ليس العصا السحرية لمحاربة التضخم.
وكما كان محرك أزمة سعرف الصرف؛ سياسياً ناجماً عن فرض عقوبات أميركية على تركيا في 10 أغسطس/آب واحتدام العلاقات معها وافتخار ترامب بقوة الدولار أمام الليرة، كان تحسن الليرة إلى 5.5 منتصف الشهر الحالي ناجماً عن حلحلة في الأزمة وإخراج القس الأميركي وعودته لبلاده.
من يتحمل المسؤولية؟
إذا كان القطاع الخاص نأى بنفسه عن خفض الأسعار! فإن الحكومة أيضاً لا يمكنها التدخل لخفضها، لما يلحقه من ضرر بمؤشرات اقتصادية ويجعلها أمام حقيقة؛ التدخل في الأسواق في ظل اتباعها لاقتصاد السوق الحر و"دعه يعمل" وحرية العرض والطلب ورفض تدخل الحكومة، وقبل الكلاسيكيين كان ابن خلدون في مقدمته عام 1377 حذر من تدخل الدولة في الأسواق منعاً لحدوث اختلالات في هيكل الأسعار.
مطالب الحكومة للشركات بخفض الأسعار ستكون أجدى لو خُفضت أسعار حوامل الطاقة من وقود وكهرباء وحافظت على استقلالية المركزي، ولكن هذا لم ولن يحدث بالنظر إلى أسعار النفط المرتفعة في الأسواق العالمية ورؤية الرئيس المتمثلة بالحرب على "ثالوث الشر"؛ الفائدة والتضخم وسعر الصرف.
وكان أردوغان أشار إلى أن أفضل رد على الهجمات الاقتصادية الخارجية على تركيا هو الإصرار على زيادة الإنتاج والعمل الدؤوب، وهنا تظهر الإشارة إلى قانون جان باتيست ساي أحد تلاميذ آدم سميث للأسواق "كل عرض يخلق طلبه الخاص" والإنفاق على الأعمال دائماً مؤشر أفضل من الإنفاق الاستهلاكي، وأنه "يجب أن يكون هدف الحكومة الجيدة تحفيز الإنتاج، أما الحكومة السيئة فهدفها تشجيع الاستهلاك".
يتطابق هذا مع العداء الكبير من الرئيس لأسعار فائدة مرتفعة والتي ستحد من الإقراض للاستثمار والاستهلاك، وبالتالي الدخول في انكماش. ولكن عداء الرئيس لـ"ثالوث الشر" لم يقدم حلولاً لارتفاع التضخم في ظل السياسات المالية التوسعية.
أخيراً، لا توجد عصا سحرية لخفض الأسعار في ظرف زمني قصير مع احتمالية ذلك على المدى المتوسط في حال النجاح بتطبيق البرنامج الاقتصادي الجديد، وقد يكون سعر الصرف عند خمس ليرات أفضل بالنسبة للصادرات والسياحة.
والأجدر الآن تطبيق سياسات فعّالة تحافظ على مستويات تضخم وفائدة مستقرة، ولعل تنفيذ الموديل الاقتصادي الجديد مع التركيز على إحلال أكبر للواردات والحفاظ على استقلالية البنك المركزي ستقود ولاشك على المدى المتوسط إلى خفض الفائدة والتضخم واستقرار الاقتصاد وتعافي الليرة.
انتهاءً بما بدأنا به من اتباع تركيا لنظرية السوق الحرة وقوانينها في الدورة الإنتاجية ومن ثم الرغبة السياسية بالصعود إلى نادي الدول العشر الكبار عبر سياسات اقتصادية تغذي من التضخم وتخفض من قيمة العملة، لن يجعلها بمأمن عن عيوب هذه النظرية وارتداداتها، وإذا أرادت الخروج منها فهذا يحتم عليها التنظير لمقاربة اقتصادية مُهجَّنة مقنعة.