لا تقدّم الدول الاسكندنافية ودول الشمال الأوروبي عموماً الرعاية الصحية والاجتماعية لمواطنيها فحسب، بل تؤمّنها أيضاً لهؤلاء الذين حضروا إليها من الدول العربية وغيرها واستقروا فيها كعمال قبل عقود (في ستينيات القرن الماضي وسبعينياته)، أو كلاجئين منذ الثمانينيات. والرعاية الصحية التي شملت هؤلاء، خلقت واقعاً جديداً في مجتمعات تكثر فيها نسب الشيخوخة وكبار السن.
قبل نحو 40 عاماً، كان العمال الأتراك يشكلون نسبة كبيرة من اليد العاملة، وقد وفد معهم آخرون من دول جنوب حوض المتوسط في شمال أفريقيا والمشرق العربي. أما اليوم، فقد أصبح هؤلاء في سن توجب على السلطات مساعدتهم بعدما كانوا في شبابهم يساعدون في بناء ما هدمته الحرب العالمية الثانية في أربعينيات القرن الماضي.
وهؤلاء، تماماً كما غيرهم من المهاجرين أو اللاجئين، توقعوا أنهم سيعودون يوماً إلى أوطانهم. يقول أبو خالد الذي يعيش في الدنمارك منذ 45 عاماً، "توقعت العودة بعد تأسيس نفسي وجمع بعض المال". لكن العودة التي كان يأملها لم تتم، "ومرّت السنوات كالسهم. وأنا ما زلت أنتظر الموت في الغربة". وأبو خالد السبعيني ما زال يتمتع بصحة وذاكرة ممتازتين.
على الرغم من أنه لا يتحدّث لغة أهل البلاد التي تستضيفه، إلا أنه يتصرف بلباقة مع ضيفته الشابة التي تنتدبها البلدية لترتيب شقته المتواضعة والحرص على بعض أموره الشخصية وتناول الأدوية. ويخبر: "رحلت أم خالد قبل سنوات، ودفنت هنا (في الدنمارك). أزورها دائماً وأضع زهرة على قبرها. الأولاد لديهم أيضاً مسؤوليات عائلية، هم يحضرون أحياناً. أما أحفادي، فأراهم من فترة إلى أخرى".
إلى ذلك، يرى المسنون العرب الانتقال إلى سكن خاص بكبار السن عاراً، بحسب موروثهم الثقافي. وهؤلاء الذين قضوا عمرهم مغتربين يكدحون في المصانع وورش البناء، غالباً ما تنتهي بهم الحال بصراع ما بين الانتقال إلى دار رعاية للمسنين ورفض الأبناء والمحيط الاجتماعي لهم. بحسب تقاليدهم وعاداتهم وثقافتهم، لا يجوز السماح لغير الأبناء برعايتهم.
لكن المسنين ليسوا محظوظين جميعهم مثل أبو خالد الذي ما زال يحافظ على استقلالية معينة. ويقول: "أنا متقاعد منذ سنوات، ويكفيني راتبي لأتدبر أموري. لا أريد أن يتحكم بي أحد ولا حتى موظفو بيوت المسنين. لذا لن أرحل من شقتي هذه إلا إلى مثواي الأخير".
والقلق يسيطر على أمثال أبو خالد، من دون وجه حق. فدور رعاية المسنين هنا ليست سوى شقق صغيرة يتمتّع شاغلوها باستقلالية تامة، باستثناء هؤلاء الذين يعانون من أمراض مثل الخرف أو ما شابه والذي يحتاجون إلى مراقبة دائمة. والمسألة ترتبط بغياب الوعي حول ما تعنيه تلك الدور سواء لكبار السن أو حتى الأبناء.
تجدر الإشارة إلى أن أبو خالد تزوّج باكراً، لذا فإن أبناءه كبار ناضجون الآن وهم يعون تماماً مخاوف أبيهم ويتفهمون رغبته. لكن ثمّة آخرين اختبروا الزيجات المختلطة وفشلوا لينقطع التواصل بينهم وبين أبنائهم. وعندما تزوجوا ثانية، أتى ذلك متأخراً، وأبناؤهم اليوم مراهقون بينما هم على عتبة السبعين.
قبل سنوات، أثير نقاش حول هؤلاء المواطنين المنسيين. فكثيرون يحملون جنسية البلاد عندما لم تكن متطلبات التجنيس بمثل تعقيدات هذه الأيام لجهة الشروط المتعلقة باللغة والثقافة والمعرفة.
وصعوبة اللغة ليست العائق الوحيد في طريق دمج هؤلاء في بيوت المسنين أو حتى الانتقال إليها، بل هي قضايا ترتبط بالعادات الغذائية والعبادة وغيرها من التقاليد.
وتفيد الدراسات المتخصصة بأوضاع كبار السن إلى أن هؤلاء عادة ما يفقدون القدرة على التحكم بلغتهم الثانية كلما تقدم بهم السن، فيعودون إلى لغتهم الأم.
إلى ذلك، يجمع مسنون كثر التقتهم "العربي الجديد" على رغبة في أن يكونوا بالقرب من عائلاتهم، وأن يتمكنوا من زيارتهم بسهولة بدلاً من وضعهم في دور رعاية بعيدة عن أماكن سكن الأقارب والأبناء والأحفاد.
من جهة أخرى، تعدّ بعض المجتمعات الاسكندنافية لا سيما الدنمارك، الأكثر تقدماً في مجال رعاية المسنين على مستوى العالم، بحسب ما تبيّن تقارير دولية. وثمة محاولات من قبل اليابان للاستفادة من خبراتهم.
وقد خلصت بعض الأبحاث الصادرة منذ سنوات عن "مجلس الممرضين" في الدنمارك إلى أن نسبة كبار السن من المهاجرين ستزداد مع الوقت في مناطق تركز سكن هؤلاء. وهكذا بدأ النقاش يتوسّع أكثر حول إمكانية فتح دور رعاية أو أقسام خاصة بهؤلاء، يتحدّث موظفوها لغتهم ويكونون من الخلفيات ذاتها.