أخيراً، أقرت فرنسا "قانون اللجوء والهجرة"، لكنّ هذا القانون لا يخلو من انتقادات تؤكد على أنّ الدولة تكتفي بإطلاق الوعود حيال المهاجرين، لكنّها تحاربهم وتسعى إلى ترحيلهم كدول أوروبية أخرى.
ما يحرص الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، على التذكير به عن فرنسا باعتبارها بلد حقوق الإنسان، وبلد اللجوء، وأنّ اللجوء حقّ لا يمكن لأي بلد أوروبي القفز فوقه، لا يبدو حقيقياً بحسب الوقائع. وتبيّن السفن الأخيرة التي تنقل مئات المهاجرين من ليبيا، والذين تقطعت بهم السبل، ورفضت إيطاليا ومالطا استقبالهم، وظلوا في البحر قبل أن تقرر حكومة اشتراكية انتخبت حديثاً في إسبانيا احتضانهم، حقيقةَ الموقف الفرنسي الرسمي، الرافض لفتح الموانئ الفرنسية، بما فيها موانئ كورسيكا، على الرغم من قبول السلطات الكورسيكية بالأمر.
والحقيقة أنّ ماكرون لم يُخالف "تقاليد" استقبال المهاجرين في فرنسا. الرئيس الأسبق اليميني نيكولا ساركوزي كان متشدداً مع المهاجرين، وعُرف عنه تكريس وزارة للهجرة والهوية الوطنية، تؤازر وزارة الداخلية في مطاردتها الأجانب وتسفيرهم إلى الخارج. وعرف عهده تعيين وزراء داخلية متشددين، ككلود غيان وبريس هورتوفو، وهو الآن مقرّب من زعيم حزب "الجمهوريون" لوران فوكييز، الذي يحمّل المهاجرين والأجانب كلّ المآسي التي تعرفها فرنسا. كما يستذكر أنّ 56 في المائة من الفرنسيين عارضوا في عام 2015، استقبال المزيد من المهاجرين، واعتبروا أنّ بلادهم في وضعية هشة، ومن الصعب التمييز بين اللاجئين والمهاجرين الاقتصاديين.
ولم يكن الرئيس السابق فرانسوا هولاند، الذي واجه موجة تدفّق المهاجرين في عام 2015، في موقفٍ يليق بتاريخ فرنسا والتزاماتها، كما أجمعت مختلف المنظمات الحقوقية والإنسانية. وتعهدت فرنسا باستقبال 30 ألف مهاجر، في إطار تقاسم دول الاتحاد الأوروبي لنحو 160 ألف مهاجر، وللتخفيف من أعباء اليونان وإيطاليا، لكنها لم تستقبل أكثر من 3400 شخص. إلّا أن بنجامان غريفو، الناطق باسم إيمانويل ماكرون، والذي يعترف بتقصير السلطات الفرنسية، يقول إن بلاده استقبلت 6 إلى 7 آلاف شخص. هكذا يخلط ما بين طالبي اللجوء في فرنسا وبين من جاء من اليونان وإيطاليا في إطار الآلية الأوروبية، التي تلتف، بصفة مؤقتة، على "نظام دبلن" (أي ضرورة تقدم المهاجر بطلب اللجوء في أول بلد من بلدان الاتحاد الأوروبي تطأه قدماه). ادعاء تكذبه تقارير مختلف الجمعيات والمنظمات التي تعمل على دعم اللاجئين. يُذكر أنّ هؤلاء الآتين من اليونان وإيطاليا يُضافون إلى اللاجئين الذين تقدموا بطلبات لجوء في فرنسا، وقد تجاوز عددهم في عام 2016، 80 ألف شخص، ولم يحصل على اللجوء سوى 20 ألف شخص.
"أكواريوس"
ساهمت قضية سفينة "أكواريوس" والسفن الأخرى، في كشف حقيقة تعامل البلدان الأوروبية مع المهاجرين. وعلى الرغم من رفض السلطات الفرنسية الاستجابة لطلبات الاستغاثة من هذه السفينة، سارع الناطق باسم الحكومة الفرنسية بنجامن غريفو، إلى التأكيد على أن "فرنسا ستأخذ حصّتها في استقبال اللاجئين على المستوى الأوروبي". ويؤكّد سكرتير الدولة الفرنسي لدى وزارة الشؤون الخارجية، جان - بابتيست لوموايان، وماكرون، أن فرنسا لن تتخلى عن التزاماتها. لكنها ظلت كلمات فقط، كما في السابق. تجدر الإشارة إلى أنّه في عام 2017، تقدّم أكثر من 100 ألف شخص بطلبات لجوء في فرنسا، وتمّت تسوية أوضاع نحو 40 ألفاً منهم. وهي نسبة متواضعة مقارنة مع الجار الألماني، الذي منح، في هذه السنة، اللجوء لأكثر من 325 ألف شخص. وعلى الرغم من أنه لم تَمُرَّ سوى سنة واحدة على وصول الرئيس إيمانويل ماكرون للسلطة، إلاّ أن تغيراً كبيراً طرأ على تصريحاته السابقة، هو الذي لفت إلى أن "فرنسا لم تأخذ، دائماً، حصّتها".
والحقيقة أنّ هذه السفن التي تستأجرها منظمات إغاثية أوروبية لتقديم العون للمهاجرين، والتي تتعرض لانتقادات حكومية أوروبية، خصوصاً من إيطاليا وفرنسا، سبّبت حرَجاً بالغاً للاتحاد الأوروبي وسياساته المترددة في موضوع الهجرة، ما دفعه إلى تكريس القسم الأكبر من قمته الأخيرة لدراسة هذا الملف الذي لما يزل مصدر توتر بين دوله الأعضاء.
كذلك فإنّ هذه الأزمة كشفت عن حقيقة مساهمة فرنسا في تحمّل مسؤولياتها وتنفيذ تعهداتها. وزير الداخلية الإيطالي المنتمي إلى اليمين المتطرف، ماتيو سالفيني، فضح "النفاق" الفرنسي، كاشفاً أن فرنسا لم تستقبل سوى 640 مهاجراً من مجموع 9610 مهاجرين وصلوا إلى إيطاليا، كانت قد تعهدت في عام 2015 باستقبالهم على أراضيها. هذه التصريحات تتوافق مع إحصائيات المفوضية الأوروبية، التي تعود لشهر مايو/ أيار 2018، وتتحدث عن استقبال فرنسا لـ 635 مهاجراً قادمين من إيطاليا، أي أقل من 9 في المائة من حصتها.
تُعاند فرنسا في مواقفها، خصوصاً في ما يتعلق بترحيل عشرات آلاف المهاجرين غير القانونيين، وهو ما تنتقده الحكومة الإيطالية الجديدة، والعديد من المنظمات الحقوقية من بينها "سيماد"، التي تعيبُ على بعض البلدان الأوروبية، منها فرنسا، توسيع عمليات التخلّص من اللاجئين الخاضعين لنظام "دبلن"، من خلال ترحيلهم إلى بلدان ثالثة تعتبرها "آمنة"، مثل المغرب وتونس وتركيا، من دون أي ضمانة بحصولهم على اللجوء فيها، أو إرسال بعضهم إلى بلدانهم الأصلية على الرغم من كل المخاطر المترتبة على ذلك. ويتعلق الأمر بطرد فرنسا وألمانيا لمهاجرين أفغان إلى بلادهم.
هنا، تقترح "سيماد" استبدال نظام "دبلن" بآخر قادر على وضع شروط تحترم الحقوق وخيار البلد من أجل اللجوء، في مقابل إمكانية تضامن مالي، في حال تدفقت طلبات اللجوء إلى بلد دون آخر، وذلك في انسجام مع معاهدة جنيف المتعلقة بوضعية اللاجئ، خصوصاً المادة 14، التي تقول: "في حال حدوث اضطهاد، يملك كل شخص الحق في البحث عن منفى والاستفادة من اللجوء في بلدان أخرى".
شرف فرنسا
قبل أكثر من ستة أشهر، تحدثت صحيفة "لوموند" الفرنسية في افتتاحيتها عن استقبال المهاجرين، وأكّدت أن "شرف فرنسا على المحكّ"، مستحضرة سياسة التشدد تجاههم التي تتناقض مع الخطاب الإنساني والبراغماتي الذي كرره ماكرون، وهو يمتدح موقف ميركل في استقبال عشرات الآلاف من المهاجرين. حينها، قال إن "شرف فرنسا يكمُن في استقبال اللاجئين، وألّا ينام شخص واحد في الشوارع والغابات". لكنّ الواقع على الأرض كان مغايراً. بعدها، صدر مرسوم لوزارة الداخلية نصّ على الإرادة في طرد واسع لمن رُفِض طلبُ لجوئه. وفي منطقة كاليه، لم تتردد الشرطة، على الرغم من برد الخريف، في رمي أغطية 700 منفي وتدمير خيامهم المتواضعة.
وتتحدّث الصحيفة عن تدمير الشرطة خيام مئات المهاجرين في شوارع باريس، بهدف منع تشكل معسكرات جديدة. وأصبح من حقّ أفراد الشرطة اقتحام مراكز الإيواء الاستعجالية التي تديرها وزارة الشؤون الاجتماعية. كما أنشأت وزارة الداخلية "كتائب متحركة" من أجل مراقبة المهاجرين الذين يقيمون في فنادق اجتماعية، ما يعني "الانتقائية" في ترحيل بعضهم، ما شجّع عليه ماكرون في خطابه أمام المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان في ستراسبورغ، حين تحدث عن صرامة وتشدد لا يلين بحقّ "كل من رُفض طلب لجوئه".
ولم يكن غريباً أن يعيد الرئيس ماكرون، قبل أيام، فقط، جملته التي استعارها من رئيس الوزراء الاشتراكي الفرنسي الراحل، ميشيل روكار، والتي تعود إلى 6 يونيو/ حزيران في عام 1989. "لا يمكن لفرنسا أن تستقبل كل بؤس العالَم". ولكنّ روكار، تستدرك صحيفة "لوموند"، أكد حينها أنّ "على فرنسا أن تأخذ حصّتها، وتتحمل مسؤولية معالجتها بأفضل طريقة ممكنة".
قانون جديد
قبل أيام فقط، صدر قرار من المجلس الدستوري الفرنسي ينتصر للمهاجرين، ويعيد الأهمية لـ "مبدأ التضامن" معهم، الذي تحاربه وزارة الداخلية ويعاقب عليه القانون. لكن هذا المبدأ قد لا يستفيد منه الكثيرون، الذين يعتبرهم الرئيس ماكرون وحكومته مهاجرين اقتصاديين يجب ترحيلهم. كما لن يستفيد منه من رُفِضَ طلب لجوئه في بلد حقوق الإنسان والمواطن.
وأمس الأول، الأربعاء، صادق البرلمان الفرنسي، في قراءة ثالثة وأخيرة، على "قانون اللجوء والهجرة"، المثير للجدل، بأغلبية ساحقة من 100 نائب وعارَضه 25 نائباً. أثار القانون الجدل، منذ طرحه وزير الداخلية جيرار كولومب، قبل أشهر، لأنّ اليسار، من شيوعيين واشتراكيين وإيكولوجيين ونواب "فرنسا غير الخاضعة"، رأى فيه حرباً معلنة على المهاجرين واللاجئين، واستعارةً لكثير من أفكار غلاة اليمين واليمين المتطرف، بينما رأى اليمين، بشقيه، التقليدي والمتطرف، أنّه لا يحارب بما فيه الكفاية تدفق الهجرة السرية ويعرض البلاد للخطر. أما وزير الداخلية فقد اعتبره "قانوناً فيه إنسانية، لكنّه لا يخلو من تشدد وصرامة"، أي أنّه "قانون إنساني مع طالبي اللجوء ومتشدد مع المهاجرين الاقتصاديين".
ويسمح القانون الجديد لطالبي اللجوء بالعمل، بعد ستة أشهر، بدلاً من تسعة أشهر، من تقديم طلب اللجوء. وينص على ضرورة تقدم طالب اللجوء لتسوية أوضاعه في غضون ثلاثة أشهر بدلاً من ستة أشهر. وهو إجراء يساعد على تحديد مدة 6 أشهر، بدلاً من 11 شهراً، لإجراء البحث في الملف والبت فيه، بما في ذلك إجراءات الطعن.
وتجدر الإشارة، إلى أنّ القانون الجديد يتضمن بنوداً أثارت المنظمات التي تُعنى بالدفاع عن اللاجئين والمهاجرين، ومن بينها: تمديد فترة الاعتقال الإداري إلى 90 يوماً، وهو تمديد يشمل أيضاً العائلات المصحوبة بأبناء قاصرين. وكذلك تدخُّل "قاضي الحريات والاحتجاز" في الأيام الأربعة التي تلي الاعتقال. كذلك، تعيب المنظمات "غياب الطعن الذي يوقف تنفيذ الطرد بالنسبة للأشخاص المنحدرين من بلد يُعتَبَر "آمناً". وبالنسبة لمن يطلبون مراجعة الحكم أو من يُنظَر إليهم باعتبارهم يمثلون إخلالاً خطيراً للنظام العام". كذلك، تنتقد المنظمات "إدراج القاصرين المعزولين في قوائم". و"منح ولايات الأمن صلاحيات تجاهل الآراء الطبية في إطار إجراء تسوية الوضع القانوني، لأسباب صحية".