يدعو رئيس الحكومة التونسيّة مهدي جمعة، رئيس الحكومة التونسية المقبل، إلى "الإحساس بالمسؤوليّة وتجاوز الحسابات الشخصيّة والحزبيّة"، مناشداً إياه اعتماد "معيار المهنيّة والكفاءة في اختيار وزرائه". ويؤكّد في حوار خاص لـ "العربي الجديد"، أنّه "لا خوف ولا تفاؤل بالمطلق بشان مستقبل تونس"، مشدداً على مصيريّة احترام القوانين.
وفي موازاة إشارته إلى أنّ إنجاز الاستحقاق الانتخابي يعني بدء بناء منظومة الحكم الجديدة، يرى أنّ حكومته أثبتت كفاءتها في تنفيذ المهمات الموكلة إليها، وفي مقدّمها تنظيم الانتخابات والشروع بإعادة هيبة المؤسّسات، فيما يبقى الإصلاح الاقتصادي التحدّي الأبرز، على حدّ تعبيره، إلى جانب الحفاظ على الأمن، على ضوء الخطر الليبي.
ماذا يعني لكم كرئيس للحكومة، انتهاء الانتخابات الرئاسيّة والمسار الانتقالي؟
يُعدّ هذا اليوم مفصلياً في تاريخ تونس، مع انتهاء كل ما هو مؤقّت في المسار الانتقالي السياسي، وستنتج الانتخابات مؤسّسات مستقرة، ومنظومة ضروريّة وحياتيّة بالنسبة إلى تونس، نرجو أن تكون مستقرّة وتمثل إشارة قوية للداخل والخارج بانتهاء التجاذبات والمخاض والعسر السياسي، ما يمكّن من استعادة الثقة كلياً في تونس لعودة الاستثمار. وستكون التحدّيات الحقيقيّة، اقتصاديّة بامتياز في الأيام المقبلة، خصوصاً مع تمكننا من النجاح في اجتياز التحدي الأمني بشكل كبير، على الرغم من التهديد الليبي الذي ينبغي أن نبقى متيقظين إزاءه.
هل ينتهي المسار الانتقالي بانتهاء المرحلة الانتخابيّة وبناء المؤسّسات الدائمة فعلياً؟
لا، هذه مرحلة من مراحل الانتقال الديمقراطي. مررنا بمراحل بدأت بهدم منظومة وتصوّر منظومة جديدة، ثمّ الشروع في بنائها وتشكيلها بالنصّ المتمثّل في الدستور، والبدء بتنفيذها فعلياً من خلال الانتخابات، لأنّ الديمقراطية سلوك لا بدّ من ترسيخه عبر احترام القواعد التي وضعناها واحترام الدستور، لأنّ النصوص وحدها لا تكفي ولا تعني شيئاً إذا لم تحترمها. والسلوك الديمقراطي ليس سياسياً فقط. إنّها مرحلة بداية وتأسيس هام في المسار السياسي الديمقراطي.
هل نستطيع أن نقول إنّ حكومتكم أنجزت بالانتخابات أهمّ ما هو مطلوب منها؟ وما هي أبرز محطات النجاح والفشل التي شهدتها؟
هذه الحكومة جاءت نتاجاً لمناخ سياسي يقتضي الخروج من الأزمة وقتها. وما كان مطلوبا منّا في الحوار الوطني، هو توفير مناخات سياسيّة وأمنيّة واجتماعيّة، تقوم على شروط خارطة الطريق التي يأتي تنظيم الانتخابات في مواعيدها، على رأس القائمة. نعتقد أنّنا أنجزنا المهم بتنظيمها قبل نهاية العام، مع تحييد الإدارة والمساجد وتوفير الأمن الذي لم يكن متوفراً منذ أشهر. واليوم لا يُشكّك أحد في حياد الإدارة في الانتخابات.
كنتُ واعياً بضرورة النجاح في الانتخابات وتنظيمها بالشكل المطلوب، ولكنّ مراحل خارطة الطريق لم تكن هي المشكلة الحقيقيّة، إذ تمثّلت التحديات الحقيقيّة في إرجاع هيبة الدولة والمؤسّسات بعد حالة الفوضى والتهديد الذي طالها. واليوم استعاد التونسيون ثقتهم في المؤسّستين الأمنيّة والعسكريّة، بعد إبعادهما عن التجاذبات وتسخيرها لخدمة البلاد فقط، وتطهيرها من الاختراقات.
ما هي مؤشّرات استعادة هيبة الدولة؟
لم تستعد الدولة والمؤسسات هيبتها بالكامل، ولكنّنا قطعنا شوطاً كبيراً في هذا المجال لأنّ الدولة كانت مهدّدة في كيانها وحدودها ومؤسّساتها. كانت بمثابة البيت الذي تحيط به الحرائق من كل مكان، وتمثّل هدفنا الأول في تحصينها أولاً، ثم إطفاء الحريق خارجها. وشرعنا وفقا لهذه الرؤية في وضع استراتيجيّة لإصلاحات شاملة للمؤسّسات لم يكن أحد ينتظرها من حكومة مؤقتة لأشهر قليلة، حتى نقدّم مشروعاً متكاملاً للتونسيين يقنعهم بمزيد من الصبر، وأعتقد أنّ التحدي الحقيقي اليوم يتمثّل في العودة إلى العمل أولاً واحترام القواعد والانضباط ثانياً.
لكنّ كثيراً من منتقديكم يقولون إنّكم لم تحققوا أي نجاح اقتصادي يذكر؟
للأسف، لا يفهم كثيرون أنّ الإصلاح الاقتصادي ليس زراً تضغط عليه لينتج ثمرته، وكلّ العارفين بالشأن الاقتصادي يدركون أنّ ثمار أي إصلاح اقتصادي، لن تظهر قبل سنة على الأقل، لأنّه لا يمكن تجاوز سلبيات سنوات طويلة في أشهر معدودة.
قمنا بإصلاح منظومة الدعم في المحروقات، التي كانت سيفاً مسلطاً على ميزانيّة الدولة، ومع انخفاض الأسعار العالميّة، ستكون النتائج أفضل بكثير، كما أصلحنا منظومة الجباية، التي لم يحاول أحد أن يقترب منها منذ سنوات طويلة.
وطال الإصلاح أيضاً منظومة الدعم وتحسين مناخ الاستثمار وصورة البلاد في الخارج، مع أهم الدول في أوروبا والولايات المتحدة والخليج، وهي إصلاحات ستؤتي ثمارها في السنة المقبلة، وستظهر بوضوح عام 2016، لكنّ التهدئة الاجتماعيّة والخروج من المؤقت إلى الدائم ومن اللا استقرار إلى المستقر، هو أهم خطوات الإصلاح الاقتصادي، ولا أحد يملك عصاً سحرية. فالزيادة في الأجور والانتداب في الوظيفة العمومية لا تُعدّ إصلاحاً اقتصادياً، لأنّ الاقتصاد هو توفير ظروف خلق الثروة، وأحذّر الجميع من تقديم وعود خياليّة غير قابلة للإنجاز في القريب العاجل.
تتحدثون عن التهدئة ولكنكم دخلتم أخيراً في مواجهة مع اتحاد الشغل؟
هي ليست مواجهة. مواقفنا كانت واضحة مع كل الشركاء الاجتماعيين، وكنّا في حوار مفتوح مع الجميع، ولكنّ الحوار لا ينفي المسؤوليّة وأنا شخص يحترم مسؤوليته، وقمنا بكلّ التزاماتنا. وأنا لا أقبل ارتهان الحكومة المقبلة بقرارات قبلية، وكان من اليسير علينا التوقيع على زيادات ثم الرحيل، كما فعلت حكومات سابقة، ولكنني لا أتنصّل من مسؤولياتي وأتحمّلها حتّى آخر لحظة ولا أرضخ للضغوط. كما أنّني لست مهتماً باتخاذ قرارات سهلة يمكن أن تزيد شعبيّتي، لأنّه لا مصلحة شخصيّة لي ولست معنياً بأي ربح سياسي ولا شيء عندي أخسره، لكنني أحترم التزاماتي ومسؤوليتي، والعلاقات ليست متشنّجة كما يبدو في الإعلام، لأن الجميع يعرف حقيقة الإمكانات والوضع الاقتصادي.
إذاً لن تتفاوضوا مع النقابة على عكس ما أعلن؟
سنتفاوض، لأنّ الأغلبية الجديدة طالبت بالمفاوضات عندما عرضنا عليها مشروع الميزانية الجديدة في مجلس نواب الشعب، وطالما أنّها موافقة، فسندخل في مفاوضات جديدة، ولكنني سأتخذ القرارات المسؤولة ولن نذهب في اتجاه القرارات السهلة.
قلتم إنّكم لستم معنيين بطموح سياسي، ولكن الجميع بِمَن فيهم شركات الاستطلاع والجهات السياسية يقدّمكم كوجه سياسي له شعبيّة كبيرة، فأين سيذهب كل هذا الرصيد الشعبي والسياسي؟
نعم، لا طموح سياسيّا لي، ولا أحد يريد أن يصدق ذلك، وبعضهم قال لي إننا لن نصدقك إلا إذا غادرت بالفعل، أنا جئت على أساس تعهّدات سياسيّة وأخلاقيّة سأحترمها. طموحي في هذه الفترة، هو أولاً طريقة تسليم السلطة، التي أريدها مثالية بين كل الوزارات الحالية والجديدة، ونحن أعددنا بالفعل بيانات واضحة في كلّ المجالات لتسليمها إلى المسؤولين الجدد، لأّننا نريد أن نؤسّس لممارسات سياسيّة جديدة تضمن استمراريّة الدولة.
أعتبر أنني قمت بمهمتي وأترك التقييم للآخرين. ساهمت في وضع أسس وتقاليد أخلاقيّة للمنظومة السياسيّة ولمؤسّسات الدولة، ومن مبادئها احترام التعهدات التي جئت على أساسها ومن غير المعقول أن نبقى، في حين أنّ الشعب انتخب أغلبيّة جديدة.
لن تبقوا حتى إن طُلب منكم ذلك؟
لا لن أبقى وإن طُلب مني، ولقد سبق وطُلب مني، ولكنني لا أقبل، لأنّه ينبغي القطع مع فكرة الرجل الضروري الذي لا غنى عنه.
ماذا يمكن أن تقولوا لرئيس الحكومة الجديد؟
الإحساس بالمسؤوليّة وتجاوز الحسابات الشخصيّة والسياسيّة والحزبيّة، لأنّها تكبّلك. عندما جئت إلى هذه المسؤوليّة، أحسست بثقل المسؤوليّة الجسيمة، خصوصاً أنّك قد تتخذ قرارات يمكن أن تكون سبباً في ابتسامة أو دمعة إنسان قد لا تعرفه بالضرورة.
ولا بدّ أن تتوفّر في رئيس الحكومة الجديد، شروط المسؤوليّة وحسن قيادة الفريق والقدرة على التصرّف. عندما تسلّمت هذه المسؤوليّة، قرّرت ألا أعيّن وزيراً أعرفه، ولن تصدّق إن قلت لك إنني وضعت عدم معرفتي بالأشخاص معياراً لتعيين الوزراء، وفي كلّ هذا الفريق الموجود، لا أعرف إلا وزيراً واحداً، فمعيار المهنيّة والكفاءة هو الأهم وليس الانتماء أو الخلفيّة الأيديولوجية أو الحزبيّة. واعتبر أنّه "لا معنى لمقولة "فريق أثق به" من المحيطين. وهناك شرط أساسي أخير، يتمثّل في امتلاك مشروع حقيقي للحكم وللمجتمع، و(الرئيس الأسبق) الحبيب بورقيبة نجح في تونس لأنّه كان حاملاً لمشروع للمجتمع.
هل أنت متخوّف على مستقبل تونس؟
لا خوف في المطلق ولا تفاؤل في المطلق، واحترام القواعد سيكون محدداً لمصير البلاد. هناك رصيد حقيقي في تونس، ولا بدّ من حسن استثماره.
هل هناك أزمة نخبة في تونس؟
لا، لأن الكفاءات موجودة، ولكن ينبغي أن تتحلّى بالمسؤوليّة، لأنّ التجاذبات السياسيّة لم توصلنا إلى شيء والجميع خسر، ولا بدّ أن يعي الجميع متطلّبات هذه المرحلة.
هل هناك وعي سياسي لهذه العناوين الكبرى التي تتحدّث عنها، وهل تقاسمك الساحة السياسيّة هذه المسؤولية؟
بصراحة لا. لا أحد ولا مؤسّسة طيلة هذه الفترة الأخيرة، سألوا عن شيء وهذا الأمر فاجأني بصراحة. منذ أشهر وأنا أقول للمحيطين بي، إنّ تخوّفي يتمثّل في أنّ المؤسّسة الوحيدة التي تعمل هي المؤسّسة الحكوميّة، ولكن نحمد الله أنّ البرلمان وقع انتخابه وهناك الآن مؤسّسة قائمة يمكن أن تضمن استمرار السلطات، لأن كلّ طرف كان منهمكاً في شؤونه الخاصة.
هل تعتقد أنه لدينا أزمة أحزاب سياسية؟
ما لاحظته بعد الثورة، أن كلّ الخطابات السياسيّة كانت تتمحور حول الحرّيات وحقوق الإنسان فقط، وهذا مهم وحقّقناه، ولكنّ للحياة أوجهاً ومتطلّبات كثيرة أخرى، وإغفالها يحدث فراغاً كبيراً لأننا نحتاج لمن يفهم مسارات التاريخ ومتغيّرات الفضاءات الاقتصاديّة وتحدّيات التكنولوجيا والأمن والاقتصاد. ويبدو مستقبل تونس رهن بالوضع الاقتصادي وبمن يمكن أن يزرع الحلم والأمل لدى الشباب خصوصاً. والمدرسة الحقوقية سيطرت بخطابها على الجميع من داخل المنظومة ومن خارجها، وهي مهمة لكنّها ليست كل شيء، وعندما أتابع الحوارات على التلفزيون، ألاحظ أنّ كلّ الخطاب ينطلق دائماً من الحديث حول الحقوق والحرّيات ويتوقف عندها.
هل هناك تهديدات خارجية لتونس، بالإضافة إلى التهديد الليبي؟
كل الدول في العالم، من دون استثناء، بما فيها الدول العربيّة وفي الخليج وفي غيره، وأنا على اتصال دائم بالجميع، يَرَوْن في تونس تأميناً لا تهديداً لهم، ويتمنون نجاح التجربة التونسيّة ويعملون على إنجاحها. لذلك شرعت بعد فترة قصيرة من تولّي المسؤوليّة في جولات مكوكيّة في كلّ الاتجاهات، لتأكيد أهميّة نجاح التجربة التونسيّة بالنسبة إلى الجميع، وأؤكد أنّ كلّ الدول المؤثرة في العالم، أصبحت مقتنعة بأنّ لها مصلحة في نجاح تونس.
ماذا عن ليبيا؟
تبقى التهديد الأكبر والحقيقي لتونس، وتعيين وزير الخارجية أخيراً مبعوثاً أممياً إلى مالي، فيه نجاح للدبلوماسية التونسية ولكن فيه أيضاً تأمين لتونس على هذا الصعيد.
هل تقاسمت هذه الأفكار والهواجس مع المسؤولين الجدد؟
سأقول للجميع، انطلاقا من إحساسي بالمسؤوليّة ومن إيماني، بأنّ تسليم السلطات يتمّ على هذا الأساس، وليس بناءً على امتلاكي للحقيقة.