13 نوفمبر 2024
موت سريري للناتو وهشاشة في السّاحل
في فترة قصيرة نسبيا، تضافرت أخبار لتعلن عن وجود ظروف، رهانات وفرص جديدة يجب تحيّنها للانطلاق في صنع مشهد استراتيجي جديد في غرب المتوسط والمنطقة الساحلية – الصّحراوية، لعلّ أهمّها إعلان الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، الموت السّريري لحلف شمال الأطلسي (الناتو)، ثمّ حادثتي وقوع قوّات عسكرية في مالي وبوركينا فاسو، المشاركتين في مجموعة الخمسة التي تساعد فرنسا في عملية إحلال السّلام في السّاحل، ضحية لهجومين أوقعا عشرات القتلى، ما يؤشّر إلى تصاعد الأعمال الإرهابية في المنطقة، وفشل فرنسي متزايد في ضبط الفوضى، إضافة إلى الفشل في توقّع ضربات الإرهاب، من ناحية، وتهيئة الأجواء للانسحاب بالاعتماد على قدراتٍ محتملة لجيوش الدّول الخمس التي تراهن عليها فرنسا (بوركينا فاسو، مالي، النيجر، تشاد، موريتانيا)، من ناحية أخرى.
لا يبدو الأمر سهلا بالنّسبة لعملية برخان الفرنسية في مالي، حيث ما زالت الضّربات الإرهابية تتوالى موقعة أعدادا من القتلى، من الفرنسيين والأفارقة، وهو ما يدلّ على أنّ الهشاشة في تمدّد، وأنّه لا يمكن لفرنسا معه المحافظة على هيبتها في مستعمراتها السابقة. وهو ما رفع من وتيرة الانتقادات للسياسات الفرنسية الأمنية/ العسكرية، السياسيــة والاقتصادية، ويعني ذلك تهيئة الأجواء لقوى دولية وإقليمية أخرى، للدخول في علاقات مع دول المنطقة، وعرض خدماتها للتغلّب على تلك الفوضى، ومعها أدواتٌ تزيد من ترهّل الموقف الفرنسي، ويفتح الباب، واسعا، أمام حليفاتها السّاحلية للتوجّه نحو عروض أكثر جدوى بمكاسب مختلفة ومتنوّعة وليس عسكرية/ أمنية، فقط، كما تفعل فرنسا في المنطقة.
جاء التدخّل الفرنسي، في المنطقة، باعتبار أنّ الأمن الأوروبي مهدّد من منطقة شاسعة تمتدّ من
الضفة الجنوبية للمتوسط الغربي، وصولا إلى تخوم الصّحراء الكبرى، أي إلى المنطقة الساحلية – الصحراوية، وهي، للعلم، منطقة نفوذ فرنسية تكاد تكون خالصة، وفق المفهوم الاستراتيجي الفرنسي، لأنّها تضمّ بلدانا تقع في دائرة المستعمرات الفرنسية السّابقة، وفيها ثروات معدنية وموارد إستراتيجية لا يمكن لفرنسا التخلّي عنها لمنافسين من قوى أخرى، وفي مقدمة تلك الموارد اليورانيوم الذي يموّن منشآت فرنسا النووية المولّدة للكهرباء، إضافة إلى النّفط، من دون إغفال سوق واسعة للمنتجات العسكرية من أسلحة وعتاد تحافظ فرنسا، من خلاله، على مكانتها في سوق السّلاح الدولي الذي يدرّ أموالا ضخمة، ويشغّل الكثير من اليد العاملة الفرنسية.
يُضاف إلى ذلك، كلّه، أن فرنسا مُكلّفة من "الناتو"، بتأمين المنطقة بما لها من نفوذ وتغلغل داخل دوائر الحكم في العواصم السّاحلية الفرانكفونية. ولهذا لم تتوانَ، غداة وقوع الانقلاب في مالي، في 2012، عن التدخّل في إطار عمليتين عسكريتين، حملتا اسمي "سرفال" ثمّ "برخان"، في محاولة لاحتواء المدّ الإرهابي، والهشاشة الأمنية النّاتجة عن سقوط نظام معمر القذافي في ليبيا، وتقدّم الجماعات الإرهابية إلى السّاحل لاتّخاذه منطقة ملاذ في فضاء جغرافي شاسع (مساحته زهاء 10 ملايين كلم مربع)، اجتمعت على تسيير الفوضى فيه ثلاث جماعات إرهابية كبيرة، هي قاعدة المغرب الإسلامي، أو بقاياها، رفقة "داعش" (أصبحت تحمل اسم الدولة الإسلامية في الصحراء الكبرى، وفق تقارير إعلامية أوروبية وأميركية) و"بوكو حرام" التي استوطنت نيجيريا وشمال الكاميرون، البلد الفرانكفوني الآخر.
وعلى الرّغم من الإمكانات الضّخمة التي هيّأتها فرنسا لإنجاح عمليتها العسكرية، إلا أنّ استراتيجيتها اصطدمت بمعيقاتٍ عديدة، منها ما هو متعلّق باستمرار إغفال رؤيتها لأوضاع الدّول في المنطقة على المستويات الحياتية، الاقتصادية، السياسية و الأمنية/ العسكرية، ومنها ما هو متّصل بأن ذلك التدخّل لم يأت إلا للدفاع عن مصالح قوى رأسمالية غربية، تمثّلها فرنسا، أي أنّ العمليات العسكرية لم تكن ضمن انخراط محلّي طوعي/ إرادي من دول وسكان الساحل، وهما، في الحقيقة، العاملان الحيويان اللذان أسهما في إفشال المنطقة وإدامة الهشاشة والفشل فيها.
إضافة إلى ذلك، اصطدمت فرنسا بمنافسةٍ من قوى دولية وأخرى إقليمية، من غير دول حلف شمال الأطلسي (النّاتو)، على غرار الصّين، تعرّفت إلى مشكلات فرنسا في الساحل، كما تعرّفت إلى عداوة دول المنطقة لذلك التدخّل والتّعامل الكولونيالي الجديد مع السّاحل، وكأنه ما زال في دائرة نفوذ باريس القديم، وهو ما ولّد معالم الفشل التامّ.
وممّا يدل على أنّ السّلوك الفرنسي لم يكن إلا للدفاع عن مصالحها، فإنّها لم تقم، لإنجاح
استراتيجيتها الساحلية، بإشراك الدّول الكبرى في المنطقة، وهي، بصفة أولوية، الجزائر والمغرب، بل ذهبت إلى مسلكية أخرى، تماما، وذلك بإنشاء مجموعة السّاحل بخمس دول تعاني، جميعها، الفشل والهشاشة، وتحتاج، للخروج من تلك الدّائرة، إلى مقدّرات وتأهيل كبيرين جدّا، أمنيا وعسكريا، بصفة خاصّة، وكانت النتيجة أن تمدّد الإرهاب، وأضحت قوات جيوش تلك الدول تضرب، كل فترة، ومنها الضربتان الأخيرتان في مالي وبوركينا فاسو.
إلى جانب ذلك، كلّه، تناولت تقارير إعلامية الإعلان عن "الموت السّريري للناتو"، وهو، بالأساس، إعلان فرنسي، بسبب تركيا وهجماتها في شمال سورية. وفي الحقيقة، فإنّ ذلك الموت السّريري، المرادف للفشل الذّريع، سيزيد من تفاقم الإشكالية الأمنية/ العسكرية في الساحل، وهو ما يحرج فرنسا، في آن، لأن ترضخ لطلب المساعدة الجزائرية، بصفة خاصة، في المنطقـة، وهي العارفة بشؤون الساحل، وعلى الأصعدة كافة.
يكفي فرنسا إعلان ذلك الموت، ليكون الأمر إيذانا بتراجع دورها في منطقة نفوذ تقليدية، فاسحة المجال أمام تحرّك قوى دولية وإقليمية أخرى لملء الفراغ، وهي فرصة ورهان حقيقيان لكل من المغرب والجزائر، على حدّ سواء، لإعادة بعث الاتحاد المغاربي، وإبراز أنّه القوة القادمة، بل الطبيعية في غرب المتوسط، أو بالأحرى في الضفة الجنوبية لغرب المتوسّط، وفي المنطقة السّاحلية - الصّحراوية التي تعتبر بمثابة الامتداد الطبيعي لمنطقة شمال أفريقيا برمّتها والعمق الاستراتيجي لكلا الدولتين، الجزائر والمغرب.
إضافة إلى تلك الاستراتيجية الحيوية، بالنسبة لكلتا الدولتين، هناك فرصة لاستمالة الدول الأفريقية المنخرطة في التعاون/ الشراكة الأمنية/ العسكرية مع فرنسا، للحاق بركب القوة القادمة، لأنها
ستكون بديلا عن القوة الاستعمارية السابقة، من ناحية، وباباً واسعا لتعاون/ شراكة بديلة تتضمن ثنائية الأمن/ الاقتصاد، أي احتواء التهديد وتجسيد التنمية، من ناحية أخرى، وهي الخطة الوحيدة التي تلزم المنطقة، وتستوجب العمل المشترك مستقبلا.
بما أنّ المنطقة تتضمّن كلّ الإمكانات والقدرات للنّهوض التنموي، وتجسيد تلك الشراكة، لماذا لا تتحيّن كل من الجزائر والمغرب وتونس المنتشية بانبعاث الاتحاد المغاربي، لقيادة المنطقة إلى برّ الأمان بعيدا عن عدّو الأمس فرنسا، وخصوصا أنّ علامات الترهل ومؤشّراته بادية عليها على ثلاثة مستويات: الاتحاد الأوروبي و"الناتو" والسّاحل؟
إنّها الاستراتيجية التي تستدعي الوعي، من النّخب الحاكمة في المغرب العربي، بحيوية الموقف ووجوب التحرّك المنظم لتعويض الخسائر السّابقة، الناتجة عن ترك المنطقة لفاعلين دوليين وإقليميين من خارجها، إضافة إلى وجود إمكانات ومقدرات للتّعاضد بين دول الضفة الجنوبية للمتوسط الغربي والمنطقة السّاحلية – الصحراوية، بالنّظر إلى ما يجمع بينها من تهديدات وتحديات تعمل، كلها، على الدفع باتجاه العمل المشترك، في إطار شراكة متينة تغطّي كلّ المجالات، خصوصا أنّ المؤهّلات الاقتصادية والبشرية موجودة، ويمكنها الوصول بالجميع إلى تجسيد تلك الأهداف الاستراتيجية.
جاء التدخّل الفرنسي، في المنطقة، باعتبار أنّ الأمن الأوروبي مهدّد من منطقة شاسعة تمتدّ من
يُضاف إلى ذلك، كلّه، أن فرنسا مُكلّفة من "الناتو"، بتأمين المنطقة بما لها من نفوذ وتغلغل داخل دوائر الحكم في العواصم السّاحلية الفرانكفونية. ولهذا لم تتوانَ، غداة وقوع الانقلاب في مالي، في 2012، عن التدخّل في إطار عمليتين عسكريتين، حملتا اسمي "سرفال" ثمّ "برخان"، في محاولة لاحتواء المدّ الإرهابي، والهشاشة الأمنية النّاتجة عن سقوط نظام معمر القذافي في ليبيا، وتقدّم الجماعات الإرهابية إلى السّاحل لاتّخاذه منطقة ملاذ في فضاء جغرافي شاسع (مساحته زهاء 10 ملايين كلم مربع)، اجتمعت على تسيير الفوضى فيه ثلاث جماعات إرهابية كبيرة، هي قاعدة المغرب الإسلامي، أو بقاياها، رفقة "داعش" (أصبحت تحمل اسم الدولة الإسلامية في الصحراء الكبرى، وفق تقارير إعلامية أوروبية وأميركية) و"بوكو حرام" التي استوطنت نيجيريا وشمال الكاميرون، البلد الفرانكفوني الآخر.
وعلى الرّغم من الإمكانات الضّخمة التي هيّأتها فرنسا لإنجاح عمليتها العسكرية، إلا أنّ استراتيجيتها اصطدمت بمعيقاتٍ عديدة، منها ما هو متعلّق باستمرار إغفال رؤيتها لأوضاع الدّول في المنطقة على المستويات الحياتية، الاقتصادية، السياسية و الأمنية/ العسكرية، ومنها ما هو متّصل بأن ذلك التدخّل لم يأت إلا للدفاع عن مصالح قوى رأسمالية غربية، تمثّلها فرنسا، أي أنّ العمليات العسكرية لم تكن ضمن انخراط محلّي طوعي/ إرادي من دول وسكان الساحل، وهما، في الحقيقة، العاملان الحيويان اللذان أسهما في إفشال المنطقة وإدامة الهشاشة والفشل فيها.
إضافة إلى ذلك، اصطدمت فرنسا بمنافسةٍ من قوى دولية وأخرى إقليمية، من غير دول حلف شمال الأطلسي (النّاتو)، على غرار الصّين، تعرّفت إلى مشكلات فرنسا في الساحل، كما تعرّفت إلى عداوة دول المنطقة لذلك التدخّل والتّعامل الكولونيالي الجديد مع السّاحل، وكأنه ما زال في دائرة نفوذ باريس القديم، وهو ما ولّد معالم الفشل التامّ.
وممّا يدل على أنّ السّلوك الفرنسي لم يكن إلا للدفاع عن مصالحها، فإنّها لم تقم، لإنجاح
إلى جانب ذلك، كلّه، تناولت تقارير إعلامية الإعلان عن "الموت السّريري للناتو"، وهو، بالأساس، إعلان فرنسي، بسبب تركيا وهجماتها في شمال سورية. وفي الحقيقة، فإنّ ذلك الموت السّريري، المرادف للفشل الذّريع، سيزيد من تفاقم الإشكالية الأمنية/ العسكرية في الساحل، وهو ما يحرج فرنسا، في آن، لأن ترضخ لطلب المساعدة الجزائرية، بصفة خاصة، في المنطقـة، وهي العارفة بشؤون الساحل، وعلى الأصعدة كافة.
يكفي فرنسا إعلان ذلك الموت، ليكون الأمر إيذانا بتراجع دورها في منطقة نفوذ تقليدية، فاسحة المجال أمام تحرّك قوى دولية وإقليمية أخرى لملء الفراغ، وهي فرصة ورهان حقيقيان لكل من المغرب والجزائر، على حدّ سواء، لإعادة بعث الاتحاد المغاربي، وإبراز أنّه القوة القادمة، بل الطبيعية في غرب المتوسط، أو بالأحرى في الضفة الجنوبية لغرب المتوسّط، وفي المنطقة السّاحلية - الصّحراوية التي تعتبر بمثابة الامتداد الطبيعي لمنطقة شمال أفريقيا برمّتها والعمق الاستراتيجي لكلا الدولتين، الجزائر والمغرب.
إضافة إلى تلك الاستراتيجية الحيوية، بالنسبة لكلتا الدولتين، هناك فرصة لاستمالة الدول الأفريقية المنخرطة في التعاون/ الشراكة الأمنية/ العسكرية مع فرنسا، للحاق بركب القوة القادمة، لأنها
بما أنّ المنطقة تتضمّن كلّ الإمكانات والقدرات للنّهوض التنموي، وتجسيد تلك الشراكة، لماذا لا تتحيّن كل من الجزائر والمغرب وتونس المنتشية بانبعاث الاتحاد المغاربي، لقيادة المنطقة إلى برّ الأمان بعيدا عن عدّو الأمس فرنسا، وخصوصا أنّ علامات الترهل ومؤشّراته بادية عليها على ثلاثة مستويات: الاتحاد الأوروبي و"الناتو" والسّاحل؟
إنّها الاستراتيجية التي تستدعي الوعي، من النّخب الحاكمة في المغرب العربي، بحيوية الموقف ووجوب التحرّك المنظم لتعويض الخسائر السّابقة، الناتجة عن ترك المنطقة لفاعلين دوليين وإقليميين من خارجها، إضافة إلى وجود إمكانات ومقدرات للتّعاضد بين دول الضفة الجنوبية للمتوسط الغربي والمنطقة السّاحلية – الصحراوية، بالنّظر إلى ما يجمع بينها من تهديدات وتحديات تعمل، كلها، على الدفع باتجاه العمل المشترك، في إطار شراكة متينة تغطّي كلّ المجالات، خصوصا أنّ المؤهّلات الاقتصادية والبشرية موجودة، ويمكنها الوصول بالجميع إلى تجسيد تلك الأهداف الاستراتيجية.