لم يكن الجندي الروسي (الصورة)، يعزف للشيشان والروس ليعمّ السلام عليهم، وتنتهي الحرب فور سماعهم لعزفه على بيانو وسط أشجارٍ وركام، ولا نعلم ماهيّة الصوت الذي كان يصدر حين التُقطت الصورة، أو ما إذا كان الرجل الذي بقي مجهول الهوية، عازفًا أصلًا، أم كان يرفّه عن نفسه أو يدرب أصابعه على إطلاق الرصاص بخفّة أكثر.
هذه الصورة المُلتقطة إبّان الحرب الشيشانية الأولى (1994 - 1996)، نجدها أمامنا اليوم في مختلف مواقع التواصل الاجتماعي، كلما دوّى صوت قنبلة، أو جاع أهل مدينة، أو قَتَلتْ أغلبيةٌ ما أقليّةً كانت تشاطرها أحلامها وموسيقاها يومًا ما. بهذه البساطة المغلفة بطابع رومانسي مفرّغ من معناه، يتم تسليع الفن والحرب، والصورة ذاتها أيضًا.
ثمّة سؤال يراود الكثيرين عن قيمة هذه الصورة، أو غيرها من الصور التي تدمج البزّة العسكرية والسلاح والموسيقى؛ سؤالٌ عمّا إذا كان الهدف هو الوصول بالواقع المؤلم إلى شكلٍ أكثر إنسانيّة وانسجامًا مع ما يحتاج إليه البشر حقًا ليتصالحوا مع الحياة.
أم أنّ هذه الصور وُجدت لتجعل الحرب المجنونة، مهزومةً أمام الإنسانيّة في نهاية الأمر، على الطريقة الهوليوودية التي عوّدتنا على صورة الجندي الأميركي، من اليابان والعراق، إلى باريس، على أنّه ورغم دمويّته، مجرد إنسان يحب الآخرين، حتى أعداءه، ويتجنب قتل الأطفال، ويعزف الموسيقى في أول فرصة سانحة.
في بدايات القرن العشرين، تصوّر الرسام الهولندي بيت موندريان (1873 - 1944)، إمكانية اختفاء الفن وحلول الواقع تدريجيًا مكانه؛ فمن وجهة نظره لم يكن الفن في جوهره إلا تعويضاً عن انعدام التوازن في الواقع الراهن.
هذا يحيلنا إلى وجود رابطٍ مهم بين فقدان الإنسان في هذا الكوكب، وخصوصًا في هذه المنطقة، للتوزان بين ما يتمناه ويحلم به من جهة، وبين ما هو موجود فعلاً؛ خصوصًا إذا ما أخذنا بالاعتبار أن هذا التوزان المنشود من المستبعد حدوثه في القريب العاجل، بل إن انعدامه مستمرٌ وبصورة مؤلمة أيضًا، في ظل كل هذا القتل والدمار والضغوطات الاجتماعية والنفسية والاقتصادية؛ بمعنى آخر: العثور على حياة بديلة للواقع في ثنايا هذه الصور وما يليها من تخيّلات، ربما كان الملجأ الوحيد للهروب من دونيّة الحاضر ودمويته.
الصّورة واضحة أكثر في فيلم "عازف البيانو" (The Pianest (2002، الذي ذهب بنا مخرجه رومان بولانسكي إلى قصى درجات المعاناة البشرية، من خلال الخوف الذي يطارد بطل الفيلم (أدريان برودي) الذي جسّد شخصيّة عازف بيانو يهودي، يهرب من الموت بين جثث أقربائه وأبناء عرقه، وصولًا إلى الثلث الأخير من الفيلم، عندما يعثر البطل على ملجأ آمنٍ. هنا أيقنّا تمامًا في اللحظة التي وجد فيها برودي "بيانو" يحتل وسط الغرفة، بين الأنقاض، أن معاناته انتهت أخيراً، تنفّسنا الصعداء، لأننا على ثقة أن البيانو يعني وجود أناسٍ طيبين، حتى بعد أن اكتشفنا أن البيانو يعود لضابطٍ نازي.
على المنوال نفسه تقريبًا، وبعد أشهر من القصف والتدمير المتبادل بين "داعش" من جهة، والجيشين الروسي والنظام السوري من جهة أخرى، أقامت الأوركسترا الروسية حفلًا موسيقيًا على أنقاض ما تبقى من مدينة تدمر التاريخية، لتغطّي الموسيقى مجدداً الحقيقة أمام أعيننا، ويمسح البيانو هول الموت من مخيّلة المتلقي، وكأن هذه الآلة كُتب عليها أن تغسل دم الضحايا أينما حلّت، أو أن نضعها بين الجثث في أي مكان من العالم فتنتهي المأساة فوراً.
ثمّة رأي يقول إنه ليس من الضروري احتواء العمل الفني على نواة إنسانية، بل إن هذه اللمسة الإنسانية تدمّر فحوى العمل الفني. كان المفكر الإسباني خوسيه أورتيغا (1883 - 1955)، أول من نظر لهذا في كتابه "تجريد الفن من النزعة الإنسانية"، بعد أن سادت إسبانيا في القرن التاسع عشر، موجة تطرف في الإنسانية لدرجة أنها سيطرت على شتّى أنواع الفن، حيث كانت الحالات الوجدانية تطغى على ذاتية الفنان والمتلقي، وهو ما حاول أورتيغا التصدي له.
هذه النزعة اليوم تحظى بعوامل إضافية طرأت على مجتماعتنا، تتمثل في تسليع واستسهال كل ما حولنا لدى كل من المنتج والمتلقّي، ما أوصلنا في النهاية، والتي ربما تكون مجرد بداية لشيء ما أسوأ، إلى ابتذال الفن وتأطيره في صورة ماسح بقايا الدم والموت، المجمّل لصورة الحاضر الرديء.
(الأردن)