المُستَقبَل، أجل؛ ألّا يغيبَ العقلُ القويمُ بموتِ الجَسد التَّعِب، أن نستطيع تخزين فكرة، تسجيل ذكريات، أن نحتفظَ بوعيٍ في علبة.
■ ■ ■
أنا مُتضامن وبشدّة مع ضحايا المنطقة الفُلانيّة، أنا مُتضامن وبشدّة مع ضحايا كذا، إلخ.
هذه الصيغة الإخباريّة الإدهاشيّة، أنّ فلان مُتضامن "بشدّة" مع المنطقة التي لا تُناسِب ملّته ولا تتبع آلهته، يظنّ أصحابها أنّهم بهذا سَموا بفطنة الأخلاق، وأنّه من الرّائع المُفاجئ أن تكون متضامنًا مع مَن هُم غير أبناء عشيرتك.
هي أبسط الأخلاق وأوضحها، أن تتضامن مع الضّحايا دون علّة ودون انتظارٍ للتّهاني، لكنّ الرّأي الآخر الرّائج؛ المُسبِّب لمثل هكذا ردّ فعل: أنّ هناك حقًّا من هو غير متضامن مع الضحايا قبل وضع أسئلة عن هويّاتها وطرق موتها، ممّا سيجعل هذا التضامن "وبشدّة" يبدو وكأنّه فتحٌ أخلاقيّ جديد وانتصارٌ باهر للإنسانيّة.
ضحايا روسيا مثلًا، والسّويد، وتركيا، ومصر، إلخ.
أيضًا، سؤال المُقايضة الأخلاقيّة؛ عمّا إذا كانوا يتبنّون قضايانا وضحايانا كي نتبنّى قضاياهم وضحاياهم.
أنا متضامن بشدّة مع المُتضامنين بشدّة، اثبتوا واصبروا وصابِروا، قدرتكم على قبول ضحايا لا تعرفونهم بالفعل مُدهِشة.
■ ■ ■
جارتي، تسعينيّة، تحاولُ، كلّ يوم، في تمام السّاعة التاسعة صباحًا: الهَرَب.
جارتي تسعينيّة، لديها موعد في التاسعة والرّبع صباحًا، عام 1945.
أبناؤها يقولون إنّها فقدَت عقلها، وأنّها؛ زينب، اسمها - تعيشُ ذاكرةً بذكرى واحدة: موعدٌ مع سليمان، حبيبها، قبل زوجها، أنّها لم تستطع الخروج آنذاك.
كان يوم ثلاثاء، موعدها، في التاسعة والرّبع صباحًا، عام 1945.
يقولون إنّها فقدَت عقلها، وأنا لا أعرف، لستُ متأكّدًا تمامًا.
يطلبون منّي أن أُغلِق باب المبنى جيّدًا إن أنا عدتُ ليلًا، هي بوّابةٌ حديديّة ضخمة، يجب أن تكون كلّ يوم مُغلقة تمامًا في تمام السّاعة التاسعة صباحًا، لأنّ جارتي التسعينيّة، تحاول كلّ يوم في التاسعة صباحًا؛ الهَرَب.
قفلُ البوّابة يجب أن يدور ثلاث دورات.
في كلّ يوم، أسمعُ صُراخَها صباحًا، بُكاءَها، خبطَ عكّازها على البوّابة، تَرجّيها أن يساعدها أحدهم، أن يُصدّقها أيّ أحد، أنّ لديها موعدًا مُهمًّا، في الساعة التاسعة والرّبع صباحًا.
أنا في كل يوم صباحًا: أخاف.
وأنا في كلّ يوم، أتجنّبُ رؤيتها، أجلسُ في أبعد زاويةٍ من البيت وأرفعُ صوت المذياع.
اليوم، صباحًا، جارتي التّسعينيّة، ضحِكت عليّ، طرَقَت بابي وقالت إنّها تريد ملحًا، فتحتُ، أمسَكَت يدي، هَرّ الملحُ، وحَكَت لي عن سليمان.
لم أفتح لها بوّابة المبنى، من خوفي إن هي خرجَت أن يصيبها الأذى، لكنّني صرتُ متأكّدًا، أنّها - زينب - لم تفقد عقلها، بل على العكس تمامًا؛ استعادَته.
ولم أعد منها أخاف.
جارتي التّسعينيّة، زينب، غدًا ستطرقُ بوّابة المبنى صباحًا، لأنّها ستقابل سليمان، حبيبها، في تمام السّاعة التاسعة والربع، عام 1945.
* شاعر سوري مقيم في إسطنبول