ناجي العلي... فنٌّ للأمام
لم يعِ رجل الظل الذي حشر رصاصة كاتم الصوت في رأس الشهيد ناجي العلي، أن أعماله الكاريكاتورية يمكنها أن تتوقف عند حدود لحظة الاغتيال. فالفنان الفلسطيني الذي استشرف اغتياله، كان قد أعدّ ريشته الناقدة لمرحلة فلسطينية عربية لاحقة، تظل فيها رسوماته تعبّر بكثافة عنها، وتظل فناً يتقدم في المشهد، حتى وإن غادره رجل المشهد، اللاجئ الشهيد ناجي سليم حسين العلي.
إن العودة الوحيدة التي أقدم عليها ناجي العلي، كانت عودة حتمية للوطن، وكل ما دون ذلك هو تقدم هائل للأمام
ليس الفن نتاجاً مؤقتاً تفرضه اللحظة والظرف الراهن، بل عملية معقدة من التشبيك بين أزمنة مختلفة، وتراصّ فكري كمي ونوعي، تذوب فيه الأحداث في صيرورتها الحالية، ومآلاتها اللاحقة. وبذلك يشكل الفن جداراً عظيماً أساسه الأفكار، وعليه ترتفع المواقف، حجراً حجراً، إلا أنه ليس جداراً ثابتاً في الزمان والمكان، هو انزياح يومي دؤوب للواقع والمستقبل، إن تقدم هذا الفن الراسخ، يشبه زحفاً معمارياً في العدم، وهذا تماماً ما شيده ناجي العلي، فجداره الذي حمل مشاهد فلسطينية شديدة الكثافة، بات يُرى في أرجاء الوطن المحتل، وفي بقاع الشتات الفلسطيني، ليظل معبراً بالنزق نفسه عن الحالة العربية والفلسطينية، التي واكبها العلي بخطى ثابتة، بدءاً من تشكل وعيه كلاجئ فلسطيني، ووصوله إلى لحظة الاغتيال الضبابية.
لقد دشن ناجي العلي فناً ثورياً تقدمياً، لا تقاومه الحقبة الزمنية ولا قواعد النسيان، وحضرت أعمال العلي المقاومة الفلسطينية من بوابتها الواسعة، بقدر ما حضرت كإدانة لمسارات التسوية الجبانة، وأحبط هذا الجدار الفني، الذي يقف عليه الشاهد الأمين حنظلة، محاولات جعل الذاكرة الفلسطينية احتمالاً مشوَّشاً، واستطاعت رسومات داكنة أن تحتل مكاناً شاهقاً في الواقع الفلسطيني، متجاهلة الحزبية والسلطة، وظلت وفية لعهد الصراع، والتناقض اليومي مع المشروع الصهيوني.
يعود كاتم الصوت إلى بروده، تعود لندن إلى الضباب، ويعود أصحاب الموقف الرجعي إلى مكاتبهم ودكاكينهم، مطمئنين، إلى صورة ناجي العلي على سرير الموت، كلهم يعودون، يعود الصهيوني، إلى حربته، ويعود الرجعي إلى أوسلو، ظناً منه أنه يتقدم، إلا أنهم جميعاً لا يعون مدى التقدم الذي حققه فنّ ناجي العلي، الذي ظل يتقدم إلى الأمام بوعي وثبات. إن العودة الوحيدة التي أقدم عليها ناجي العلي، كانت عودة حتمية إلى الوطن، وكل ما دون ذلك هو تقدم هائل إلى الأمام.