يستحيل أنْ تُحاصَر نادية لطفي (1937 ـ 2020) في صُور قليلة ومُحدّدة بزمنٍ أو حدثٍ، رغم أهمية الزمن والحدث. حضورها التمثيلي مرتبط بالسينما، فسيرتها المهنية خالية من كلّ اشتغال تلفزيوني ومسرحي، باستثناء عمل هنا وهناك. هذا غير عابر. الارتباط بفنّ يُصبح مهنة، تعبيرٌ عن موقفٍ أحياناً، أو انعكاسٌ لرغبةٍ في منح المهنة الواحدة الطاقة كلّها، النفسية والمعنوية والحِرَفية. الصُور القليلة، المحدّدة بزمنٍ أو حدث، تُختزل بمواقفها السياسية، المنبثقة من حسّ أخلاقي وإنسانيّ، لن يحول دون براعة في تحويل حضورها السينمائي كممثلة جميلة إلى ما يُفيد هذا الحدث، أو ذاك الموقف.
وجودها في قلب بيروت، أيام الحصار الإسرائيلي لها عام 1982، إحدى تلك الصُور الباقية في ذات فرد وذاكرة جماعة، والفرد ــ كما الجماعة ــ معنيّ بالحدث وتفاصيله وتاريخه ومساراته. لكن تواجداً كهذا لن يُلغي مغزى خياراتها التمثيلية، وبعض تلك الخيارات متأتٍ من الحسّ نفسه، ومن انشغالها بهمّ أو مسألة أو أناس: ثورة 25 يناير وتأثيراتها، نكسة 1967 وتداعياتها، النظام الأبوي الذكوريّ عبر سرد مقتطفات من التاريخ الحديث للقاهرة، البؤس الاجتماعي، إلخ.
هذه أمثلة تعكس شيئاً من وقائع تلك السيرة المهنيّة، الغنيّة بأعمالٍ ترتكز على رومانسيةٍ حالمة أو راغبةٍ في علاقة صحّية بحبيبٍ، وعلى غوصٍ سجاليّ في أعماق الاجتماع والتربية والسلوك، وعلى استعادة لحظاتٍ تاريخية قديمة ـ متنوّعة الأشكال ـ لتحقيق مقاربات سينمائية لأحوالٍ راهنة. التنويع مردّه قناعةً، لن تكون حكراً على نادية لطفي، بقدر ما يجتمع فيها عاملون وعاملات في صناعة الفنّ السابع، عربياً وأجنبياً، وإنْ بتفاوت واختلافات. والقناعة نفسها تقول إنّ التنويع يُغذّي الوعي والمتخيّل، ويمنح صاحبته/ صاحبه اختباراتٍ تتيح لها/ له فرصاً عديدة للتعرّف على أنماط وأساليب ومعالجات. كما أنّه أساسيّ في تطوير براعة الفنانة/ الفنان ونهجه الأدائيّ.
مع نادية لطفي تحديداً، يستحيل التغاضي عن تلك التنويعات وجمالياتها، المولودة سينمائياً في زمن تبدّلاتٍ في صناعة الفنّ وإنتاج الثقافة، وفي أحوال السياسة والاجتماع. فالزمن منبثقٌ من نهاية الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945)، ومصر تواجه استعماراً بريطانياً تسعى إلى الخلاص منه، والسينما تبحث عن وجوهٍ جديدة تكون منارةَ صناعةٍ ومهنة وإبداع. يقول البعض إنّ نظام الإنتاج، المُترافق وثقافة صناعة النجم (وإنْ باختلافٍ عن ذاك المعمول به في الغرب، إلى حدّ ما)، دافعٌ إلى بروز ممثلات، أبرزهنّ نادية لطفي وشادية، يمتلكن جمالاً لن يكون عائقاً أمام حاجات الأداء ومتطلّبات الحِرفية، وإنْ تميل المواضيع والحكايات إلى ارتباكات واقع واضطراب علاقات وتفكّك أحوالٍ.
بالتالي، لن يكون مفاجئاً أنْ يُطرح سؤال عن مصير الأولى من دون نجيب رمسيس، وعن قدر الثانية من دون حلمي رفلة. فطيف ديفيد أو. سلزنيك، أحد أبرز المنتجين الهوليووديين في أربعينيات القرن الـ20 وخمسينياته، حاضرٌ في آلية الاشتغال الإنتاجي، وجزءٌ منه معنيّ بصناعة نجم وفن، بدلاً من الاستفادة من فن ونجم على حساب كلّ شيء آخر. وإذْ ينفضّ البعض عن تشبيهٍ كهذا، بين اشتغالات منتج هوليوودي ومنتجين مصريين، بسبب اختلافات جمّة في الثقافة المهنية والعمليّة، وظروف البيئة وأنماط الاشتغال، إلا أنّ استعادة فصول تلك الفترة، ونادية لطفي أحد أبرز وجوهها التمثيلية، خصوصاً في خمسينيات القرن الماضي وستينياته وبعض سبعينياته، تكشف (الاستعادة) تشابهاً يصعب التغاضي عنه.
لنادية لطفي تنويعات تمثيلية عديدة: رومانسية "أبي فوق الشجرة" (1969) لحسين كمال، بمفهومها الغنائي الاستعراضي، المتضمّن شيئاً من رؤية للاجتماع والعلاقات والواقع؛ مزيج السياسة والنضال، كما في "جريمة في الحيّ الهادئ" (1967) لحسام الدين مصطفى، المتعاونة معه في أكثر من فيلمٍ، كما في "السمّان والخريف" (1967)، المأخوذ عن رواية بالعنوان نفسه لنجيب محفوظ. وللطفي مع محفوظ تجربة أخرى، إذْ تحضر في إحدى أهمّ رواياته وأجملها، "بين القصرين"، أول الثلاثية الأشهر، المتحوّلة (الرواية) ـ عام 1964 ـ إلى فيلمٍ سينمائي على يديّ حسن الإمام، مخرج "الخطايا" (1962)، ولها فيه دور بديع.
مع حسن الإمام، تؤدّي دور بديعة مصابني، في فيلمٍ (1975) يحمل اسم الفنانة اللبنانية، ويروي تفاصيل من سيرتها. ومع حسام الدين مصطفى أيضاً، تُشارك في اقتباس سينمائي مصري لرواية "الإخوة كارامازوف"، للروسي تيودور
دوستيوفسكي، بعنوان "الإخوة الأعداء" (1974). التزامها العمل مع مخرجين قلائل أكثر من مرة يُشكّل فعلاً أدائياً لتبيان معالم التنويع التمثيلي في أفلامٍ مختلفة، بعضها يستعيد فصلاً من التاريخ، وفي هذا البعض نفسه شيئاً من تاريخِ شخصيةٍ حقيقية. تُوافق على عملٍ مع يوسف شاهين، في مغامرته (اشتغالاً وإنتاجاً ومصاعب) المعروفة بـ"الناصر صلاح الدين" (1963)، تماماً كمغامرتها هي نفسها في الظهور قليلاً في تُحفة شادي عبد السلام، "المومياء" (1969). والفيلمان يستعينان بالتاريخ لقراءة الراهن، بما يحمله الراهن من تخبّط وقلق ومتاهات، وبما يطرحه من أسئلة.
إنّه زمن كبارٍ في الأدب والسينما، وزمن انقلابات وتبدّلات ومغامرات، وهذه وحدها كافيةٌ لإثراء المشهد اليومي بكَمّ هائل من المعطيات، تُشكِّل نادية لطفي أحد وجوهه الساطعة، جمالاً وحِرفية وتواضعاً وعمقاً.
وجودها في قلب بيروت، أيام الحصار الإسرائيلي لها عام 1982، إحدى تلك الصُور الباقية في ذات فرد وذاكرة جماعة، والفرد ــ كما الجماعة ــ معنيّ بالحدث وتفاصيله وتاريخه ومساراته. لكن تواجداً كهذا لن يُلغي مغزى خياراتها التمثيلية، وبعض تلك الخيارات متأتٍ من الحسّ نفسه، ومن انشغالها بهمّ أو مسألة أو أناس: ثورة 25 يناير وتأثيراتها، نكسة 1967 وتداعياتها، النظام الأبوي الذكوريّ عبر سرد مقتطفات من التاريخ الحديث للقاهرة، البؤس الاجتماعي، إلخ.
هذه أمثلة تعكس شيئاً من وقائع تلك السيرة المهنيّة، الغنيّة بأعمالٍ ترتكز على رومانسيةٍ حالمة أو راغبةٍ في علاقة صحّية بحبيبٍ، وعلى غوصٍ سجاليّ في أعماق الاجتماع والتربية والسلوك، وعلى استعادة لحظاتٍ تاريخية قديمة ـ متنوّعة الأشكال ـ لتحقيق مقاربات سينمائية لأحوالٍ راهنة. التنويع مردّه قناعةً، لن تكون حكراً على نادية لطفي، بقدر ما يجتمع فيها عاملون وعاملات في صناعة الفنّ السابع، عربياً وأجنبياً، وإنْ بتفاوت واختلافات. والقناعة نفسها تقول إنّ التنويع يُغذّي الوعي والمتخيّل، ويمنح صاحبته/ صاحبه اختباراتٍ تتيح لها/ له فرصاً عديدة للتعرّف على أنماط وأساليب ومعالجات. كما أنّه أساسيّ في تطوير براعة الفنانة/ الفنان ونهجه الأدائيّ.
مع نادية لطفي تحديداً، يستحيل التغاضي عن تلك التنويعات وجمالياتها، المولودة سينمائياً في زمن تبدّلاتٍ في صناعة الفنّ وإنتاج الثقافة، وفي أحوال السياسة والاجتماع. فالزمن منبثقٌ من نهاية الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945)، ومصر تواجه استعماراً بريطانياً تسعى إلى الخلاص منه، والسينما تبحث عن وجوهٍ جديدة تكون منارةَ صناعةٍ ومهنة وإبداع. يقول البعض إنّ نظام الإنتاج، المُترافق وثقافة صناعة النجم (وإنْ باختلافٍ عن ذاك المعمول به في الغرب، إلى حدّ ما)، دافعٌ إلى بروز ممثلات، أبرزهنّ نادية لطفي وشادية، يمتلكن جمالاً لن يكون عائقاً أمام حاجات الأداء ومتطلّبات الحِرفية، وإنْ تميل المواضيع والحكايات إلى ارتباكات واقع واضطراب علاقات وتفكّك أحوالٍ.
بالتالي، لن يكون مفاجئاً أنْ يُطرح سؤال عن مصير الأولى من دون نجيب رمسيس، وعن قدر الثانية من دون حلمي رفلة. فطيف ديفيد أو. سلزنيك، أحد أبرز المنتجين الهوليووديين في أربعينيات القرن الـ20 وخمسينياته، حاضرٌ في آلية الاشتغال الإنتاجي، وجزءٌ منه معنيّ بصناعة نجم وفن، بدلاً من الاستفادة من فن ونجم على حساب كلّ شيء آخر. وإذْ ينفضّ البعض عن تشبيهٍ كهذا، بين اشتغالات منتج هوليوودي ومنتجين مصريين، بسبب اختلافات جمّة في الثقافة المهنية والعمليّة، وظروف البيئة وأنماط الاشتغال، إلا أنّ استعادة فصول تلك الفترة، ونادية لطفي أحد أبرز وجوهها التمثيلية، خصوصاً في خمسينيات القرن الماضي وستينياته وبعض سبعينياته، تكشف (الاستعادة) تشابهاً يصعب التغاضي عنه.
لنادية لطفي تنويعات تمثيلية عديدة: رومانسية "أبي فوق الشجرة" (1969) لحسين كمال، بمفهومها الغنائي الاستعراضي، المتضمّن شيئاً من رؤية للاجتماع والعلاقات والواقع؛ مزيج السياسة والنضال، كما في "جريمة في الحيّ الهادئ" (1967) لحسام الدين مصطفى، المتعاونة معه في أكثر من فيلمٍ، كما في "السمّان والخريف" (1967)، المأخوذ عن رواية بالعنوان نفسه لنجيب محفوظ. وللطفي مع محفوظ تجربة أخرى، إذْ تحضر في إحدى أهمّ رواياته وأجملها، "بين القصرين"، أول الثلاثية الأشهر، المتحوّلة (الرواية) ـ عام 1964 ـ إلى فيلمٍ سينمائي على يديّ حسن الإمام، مخرج "الخطايا" (1962)، ولها فيه دور بديع.
مع حسن الإمام، تؤدّي دور بديعة مصابني، في فيلمٍ (1975) يحمل اسم الفنانة اللبنانية، ويروي تفاصيل من سيرتها. ومع حسام الدين مصطفى أيضاً، تُشارك في اقتباس سينمائي مصري لرواية "الإخوة كارامازوف"، للروسي تيودور
دوستيوفسكي، بعنوان "الإخوة الأعداء" (1974). التزامها العمل مع مخرجين قلائل أكثر من مرة يُشكّل فعلاً أدائياً لتبيان معالم التنويع التمثيلي في أفلامٍ مختلفة، بعضها يستعيد فصلاً من التاريخ، وفي هذا البعض نفسه شيئاً من تاريخِ شخصيةٍ حقيقية. تُوافق على عملٍ مع يوسف شاهين، في مغامرته (اشتغالاً وإنتاجاً ومصاعب) المعروفة بـ"الناصر صلاح الدين" (1963)، تماماً كمغامرتها هي نفسها في الظهور قليلاً في تُحفة شادي عبد السلام، "المومياء" (1969). والفيلمان يستعينان بالتاريخ لقراءة الراهن، بما يحمله الراهن من تخبّط وقلق ومتاهات، وبما يطرحه من أسئلة.
إنّه زمن كبارٍ في الأدب والسينما، وزمن انقلابات وتبدّلات ومغامرات، وهذه وحدها كافيةٌ لإثراء المشهد اليومي بكَمّ هائل من المعطيات، تُشكِّل نادية لطفي أحد وجوهه الساطعة، جمالاً وحِرفية وتواضعاً وعمقاً.