الإيمان باللغة العربية ودولة المؤسسات، قاد الدكتور ناصر الدين الأسد (1922 - 2015)، الذي رحل في عمان أمس، إلى استلام مناصب أكاديمية وسياسية رفيعة في بلاده؛ ليغادرها بهدوء بعد أن انتهكت السلطة تقاليدها المعرفية والأخلاقية، فورثه قلةٌ رغم كثرة تلاميذه.
رأت عيونه النور قرب البحر عام 1922 لأب تعود أصوله إلى مدينة حماة السورية وأم لبنانية، حيث قدِم والده ليعمل قائمقام مدينة العقبة الأردنية ومدير الجمارك فيها. وقد بدأ ناصر الدين حياته العملية أثناء دراسته اللغة العربية في جامعة القاهرة، وبعد تخرّجه عُيّن معلّماً في "الكلية الإبراهيمية" في القدس، وعمل مقدّم برامج في "إذاعة الشرق الأدنى"، وغادرها بسبب ظروف النكبة، ليعمل مدرّساً في ليبيا، ثم يعود إلى القاهرة ويكمل دراسته العليا فيها.
وقد تبدو مصادفة أن الأسد، الذي مُنح "جائزة طه حسين" كونه أول الخريجين في قسم اللغة العربية في "القاهرة" عام 1947، قام بالرّد على كتاب "في الشعر الجاهلي" لعميد الأدب العربي، إذ قدّم أطروحته في الدكتوراه المعنونة بـ"مصادر الشعر الجاهلي وقيمتها التاريخية".
وبعيداً عن تفاصيل الخلاف والصداقة اللاحقة بينهما، إلاّ أن ذلك الزمان اتسع لشابٍ في مقتبل العمر أن يساجل أستاذه ويحظى كلاهما بقدر كافٍ من الاختلاف والاحترام المتبادل.
الترحّم على الأيام الخالية قد لا يقف عند تقدير الآخر في ثقافتنا وغيرها من الثقافات، فالأسد استلم مواقع إدارية وتقدّم فيها من خلال إيمانه بمؤسستين؛ مؤسسة اللغة ومؤسسة الدولة، فأصبح أول رئيس لـ"الجامعة الأردنية"، الذي كان أحد مؤسسيها عام 1962، كما ساهم في تأسيس جامعات أردنية وعربية، وكان أول وزير للتعليم العالي، وسفيراً للأردن في السعودية، وعمل مديراً عاماً مساعداً لـ"المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم"، ورئيساً لـ"المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية"، كما كان عضواً في "مجلس الأعيان" الأردني.
تحدّث كثيرون عن التزام الأسد بالمنهج العلمي، وذهبوا إلى الثناء عليه، لكي يبرّوا قلة إنتاجه - نسبياً - مقارنة بنظرائه من الدارسين، بيد أن هذه الخلاصة تحتاج دراسة جديدة، فعدم احتكامه إلى مسلمات وآراء مسبقة في مواضيع بحثه، تبدو أحياناً رغبة في اتخاذ مواقف متزنة، وهذا برز في كتابه "نحن والآخر"؛ فلم يغامر في انتقاد الذات العربية، وكان يبحث عن مسوّغات لتفسير لهجوم عليها، التقى أغلبها مع حديث المؤامرة. وبدا توفيقياً في الحديث عن العروبة والإسلام، رغم جرأته في أكثر من مكان في نقد مفاهيم ومصطلحات غربية على الأغلب.
الأغرب في ذلك كله، تلك الطمأنينة التي يبديها الأسد في تنظيره حول مستقبل اللغة العربية، إذ يصرّ أنها تجاوزت محناً عديدة، غير معترِف بحجم المحنة التي تعيشها لغتنا اليوم. وكان يبث التفاؤل عبر انتظاره تقدُّماً مقبلاً للأمة العربية لا محالة، وعليه ستزدهر العربية، لكن يحسب له انفتاحه الدائم على اللغات والثقافات الأجنبية.
عبّر صاحب "الاتجاهات الأدبية الحديثة في فلسطين والأردن حتى سنة 1950" عن انتمائه إلى اللغة العربية من خلال التزامه الصارم بمناهج البحث العلمي في دراساته، وتكريسه عشرات السنين؛ محاضراً وباحثاً، وناقداً، ومحققاً، وناظماً للشعر، ترك أكثر من سبعين مؤلفاً، منها "القيان والغناء في العصر الجاهلي" و"نحن والآخر" و"الأمالي الأسدية" و"نشأة العصر الجاهلي وتطوره".
وحبّاً بالعربية لغةً ومبحثاً للدرس والعمل، عمل الأسد في الجامعة العربية ومعهد البحوث والدراسات العربية في القاهرة بعد حصوله على الدكتوراه، وانكب خلالها على البحث والتدريس، واقترب في تلك الفترة من طه حسين وعباس العقاد ومحمود شاكر. ولعل القدر اختار له درباً مغايراً - نوعاً ما - حين استدعي إلى الأردن لينشئ فيها أولى جامعاته.
روايات كثيرة تشهد له بالإخلاص والتفاني على اختلاف مواقعه التي شغلها، وكان أهمها على الإطلاق رئاسة الجامعة الأردنية التي لم يقفل أبوابها أمام أحد، وسيبقى انتماؤه للغة العربية ركناً أساسيّاً، فهو يراها طريقاً إلى التنوير والتحديث لا مادة للخطابة؛ مدائح أو شعارات، مفارقاً بذلك عن آخرين، سواء أولئك الذين قدموا من حقله الدراسي نفسه، بل بعضهم كانوا من طلابه، لكنهم تخصصوا بالخطابة والتزلّف للحُكم ونالوا بسببها الأوسمة والحقائب الوزارية، أو غيرهم ممن تخندقوا في صفوف المعارضة، غير أنهم تخلّوا عن انتقادهم والتحقوا بركب السلطة ولم يتركوا وراءهم إنجازاً يذكر.
حديث المعارضة والموالاة ليس مجانياً في لحظة رحيله، فالأسد كان رئيساً للجامعة الأردنية حين شهدت أكبر إضراب في تاريخها عام 1979 بمناسبة ذكرى يوم الأرض، وقد لا يجد الباحث كثيراً من المعلومات حول دوره، لكنه من المثبت التزامه بالتعليمات الموكلة إليه، وهو لا يخالف رؤيته للمسافة اللازمة بينه وبين النظام، ولا يبتعد عن قناعة جيله الذي كان يرى الانتماء إلى مؤسسات الدولة أولى وأنفع من الذهاب وراء السياسة والأحزاب.
كان يعي إمكانياته ودوره مبكراً في بناء مؤسسات تعليمية وفكرية وغيرها في دولة ناشئة، وأن منجزه العلمي وكفاءته في الإدارة يوازيهما تقدير السلطة له، وظل متوازناً في رؤيته لهذه العلاقة حتى رحيله، وهو ينتمي بذلك إلى جيل طمح بولادة دولة وطنية حديثة قبل نشوء الأيديولوجيات والأحزاب السياسية، وربما لم يصرّح بمآل الدولة ومصير مثقفها الذي قايض دفاعه عن السلطة بمكان له فيها، لكنه استنكر في مقابلة متأخرة له "الدولة التي زرعت القبلية في مؤسساتها".
يرحل الأسد، اليوم، ومؤسساته التي بناها، وعاشت مجداً في أيام خلت، تتراجع يوماً بعد يوم، وتعيش عنفاً طلابياً، واستباحة أكبر للقبيلة والطائفة، كما أن السلطة تتغول عليها - على نحو لم يحدث من ذي قبل - باسم الأمن.