سألنا الكاتب في جلسة حوارية قبل عودته إلى سوريا، فأجاب بتأن واضح: "نمنوما اسم امرأة. وتحت وطأة الزلزال الذي عصف بسوريا ـ كما عصف بكل من تونس ومصر واليمن، أومضت لي بهذه الجداريات كإشارة إلى مشروع روائي، سداه ولحمته هما سوريا اليوم. وعلى ضوء ما سبق أن كابدته في مواجهة الراهن في العديد من رواياتي: "المسلة"، "دلعون"، "سمر الليالي"؛ تجدّدت هذه المكابدة التي ترى نفسك فيها وجهاً لوجه أمام المتغيرات الكبرى، والأسئلة التي قد تجعلك شاهداً أو مغامراً في ما يجري، كما قد تجعلك معلقاً عابراً سرعان ما ستنسى تعليقاتك بأن روايتك غامرت في كتابة الراهن. كيف تبني عمارة روائية والزلزال يدمّر كل ساعة بالبراميل المتفجرة أو بالرايات السوداء عمراناً أو تاريخاً أو أجساداً أو أرواحاً؟ من حسن الحظ أن محاولة الإجابة على مثل هذا السؤال قد أسرعت إليها الرواية في سوريا، قبل الشعر، على عكس ما هو مألوف".
يسير سليمان بين صفحات روايته كأنما يسير بين الألغام وهو يقدم مرافعة فلسفية عن هذا الواقع المتفجر: "أجل، تشكّل الفكرة تحدياً خطيراً للفن الروائي. وفي أغلب رواياتي واجهتُ هذا التحدي، مقتدياً بالإنجازات الكبرى التي عرضها تاريخ الرواية. وأظن أنه يكفي أن أضرب مثلاً بما قاله دوستويفسكي أو تشيخوف لغوركي: "أمثّل هذه الفكرة، وأقتلها". المهم أن هذا القتل يعني بالضبط اندغام الفكرة في النسيج الروائي. وهنا في "نمنوما" تسير فلسفة التغيير على إيقاع ما عاشته المنطقة في السنوات الأخيرة، حيث يشتبك التاريخي بالراهن والمستقبل".
هل هناك قواعد لتفاعل الكتابة مع الواقع؟ يجيبنا صاحب "مدارات الشرق": "ليس هناك قاعدة رياضية حاسمة في الفن، وبالتالي قد ينتظر الروائي عشرين سنة حتى تكتمل مراحل حرب معينة، أو صورة تبدّل اجتماعي جذري ما، ثم يكتب. ولكن قد تأتي هذه الكتابة متهالكة، بينما تأتي كتابة روائية أخرى فنية، مع أن كاتبها يكتبها في لجّة الحرب أو الثورة أو ما أؤثر أن أسمّيه بالزلزال في الحالة السورية. وعلى أي حال، فما يبدو الآن صدى سريعاً للواقع سيتحوّل بعد عشرين أو أربعين سنة إلى عمل تأريخي روائي. وهذا ما فكّرت به مراراً بعدما صدرت رواية "جرماني" أو "المسلة" في أعقاب حرب 1973 مباشرة. انظر الآن بعد أربعين سنة تقريباً: هل ما زالتا روايتين عن الراهن؟ هل صارتا روايتين تاريخيتين؟ في الحالة الراهنة السورية، وخلال ثلاث سنوات، لدينا عشر روايات، منها ما نُشر، ومنها ما لا يزال مخطوطاً، وقد أتيح لي الاطلاع عليها. سترون أن نصف هذه المخطوطات على الأقل تتمتع بمستوى روائي ممتاز. فإن صّح ذلك، ألم يكن إنجازاً هاماً في مواجهة السؤال عن الراهن الواقع، الشاهد العابر؟".
هذا كلام ينطبق على حالات عديدة في أصقاع الوطن العربي. على سبيل المثال، ما الذي أنتجته العشرية السوداء في الجزائر؟ أو في الحرب العراقية الإيرانية؟ هنا يتحّسر قائلاً: "ولدت في العشرية الجزائرية السوداء أعمال أدبية، وبخاصة للجيل الشاب، ولم تنتظر انتهاء الحرب. ومن هذه الروايات ما هو فنّي، مثل ما كتبه بشير مفتي وواسيني الأعرج وغيرهما. وفي الوقت نفسه، هناك أعمال جاءت بدائية، وهي تصوّر العشرية بطريقة تبدو وكأنها تتصادى بقوة مع ما تحوّل إلى زلزال سوري في السنتين الأخيرتين. أذكر على سبيل المثال، روايات زهرة الديك وسعيد المقدم. هي شهادات عجلى لا تقف على قدميها فنياً، وبالتالي لا وجود لقاعدة رياضية حاسمة أمام تاريخ الثورات والانتفاضات. الروايات التي كُتبت في الحرب العراقية الإيرانية صدى باهت ملتبس بالصحافة والدعاوية، ولكن لم يكن الإنتاج كله هكذا. على الضفة الأخرى، وفي حدود اطلاعي، كان الأمر نفسه يتكرر في الرواية الإيرانية خلال تلك الحرب".
يكاد القارئ العربي لا يعرف شيئاً عما يُنتج في السنتين الأخيرتين من أعمال روائية سورية. هل يمكن لسليمان الذي يعيش في الداخل، ويتلقى الأدباء العرب في الخارج، أن يعرّفنا بذلك، من موقع متابعته ككاتب وناقد؟ يعلق قائلاً: "أتيح لي أن أطّلع على مخطوطات منها ما صدر تواً، ومنها ما لا يزال ينتظر الصدور. أذكر روايات سوسن جميل حسن "قميص الليل"، وغسان الجباعي "قهوة الجنرال"، وفخر الدين فياض "رمش إيل"، وهذه الروايات الثلاث فازت بـ"جائزة المزرعة" التي نظمتها "رابطة الكتّاب السوريين" المعارضة وأعلنتها قبل شهر. وقبل ذلك، كان عبد الله مكسور قد أصدر روايتين هما "أيام في بابا عمر" و"عائد إلى حلب"، كما صدر لمها حسن "طبول الحب"، وقد كتبتُ مراجعات في أغلب هذه الروايات. وكنت حريصاً على الاحتفاء بشجاعتها، ولكن ذلك لم يمنعني إطلاقاً عن إبداء الرأي في المستوى الفني المتواضع لبعضها".
تسمية "الزلزال" يطلقها سليمان من أجل شرح أبعاد ما تمّر به البلد، ولكنه يؤمن بأن الأدب لم يرتق إلى مستوى الزلزال، فهل النكوص في الأدباء أم في الواقع؟ يجيبنا بعد تأمل: "بما يتوفر لمثلي من معطيات حتى الآن، أقول من المرجح إننا نمر في النفق الذي لا بصيص ضوء في آخره. لم أكن في يوم من الأيام متشائماً بل على العكس، وبهذا التقدير من انسداد الأفق أظن أنني لست متشائماً أبداً، بل أحاول أن أقرأ على ضوء المعطيات المتوفرة حتى الآن، وأنا أعيش في الداخل. كان بعضٌ من عام 2011 هو زمن الثورة السلمية للأسف، ومنذ بدأت العسكرة لأي سبب كان، بدأ العّد التنازلي السريع جداً، حتى بتنا بسرعة الضوء في حرب قذرة، لكأن المطلوب منها هو تدمير سوريا بالكامل، تدمير المستقبل بالبراميل المتفجرة والرايات السوداء.. عسى أن أكون مخطئاً. وأحياناً أتساءل: هل اتفقت جميع الأطراف على هذا التدمير؟ أي هل اتفقت الأطراف الدولية (روسيا، أميركا، الاتحاد الأووربي) والإقليمية والعربية، والأطراف المتصارعة في الداخل، هل اتفقوا جميعاً على تدمير سوريا، والذي أخشى أن يبدو معه تدمير العراق أمراً هيناً؟ ليست المسألة أن ربع سوريا العمراني قد سويّ بالأرض، فربما لن يهدأ الزلزال حتى يأتي التدمير على نصفها على الأقل؛ والأمر الأخطر هو ما تدمره في روح الإنسان السوري، وفي النسيج الاجتماعي، في الفسيفساء السورية المبدعة الخلاقة. أما ما يخص الأدب، فلا أعتقد أنه ارتقى إلى مستوى هذا الزلزال المدّمر".