بعيداً عن الجدل الذي أثير في الصحف الإسرائيلية خلال الأيام الماضية، عن مبرر التبذير في تكاليف جولة رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، في الدول الأفريقية الأربع، أوغندا ورواندا وكينيا وإثيبويا، كغطاء للتقليل من شأن هذه الجولة وأهميتها، فإن جولة نتنياهو تمثل في واقع الحال تتويجاً للجهد الإسرائيلي، في السنوات الأخيرة، لمد الجسور مجدداً إلى أفريقيا، مع اهتمام خاص بدول القرن الأفريقي، بفعل موقعها الجغرافي.
ويصر نتنياهو على أن زيارته إلى أفريقيا تاريخية، بدلالة قدوم سبعة من زعماء الدول الأفريقية للمشاركة معه في قمة هي الأولى من نوعها منذ عشرات السنين. وبغض النظر عن البيانات الصحافية التي أمطر بها نتنياهو وسائل الإعلام، بعد كل لقاء في الدول الأربع التي زارها، فلا يمكن، بالمقابل، التقليل من أهمية هذه الجولة، في سياق بحث إسرائيل المحموم في السنوات الأخيرة، عن أسواق بديلة لبضاعتها ومنتوجاتها، في حال تدهورت علاقاتها مع دول الاتحاد الأوروبي، ومع دول أخرى، من جهة. لكن لا يقل أهمية عن ذلك، بحث إسرائيل عن أصوات دولية ترتفع لصالحها، أو على الأقل تمتنع عن التصويت في الهيئات الدولية المختلفة، من مجلس الأمن الدولي إلى كافة الوكالات والمنظمات الدولية.
وعلى الرغم من أن نتنياهو أبرز خلال لقائه بالزعماء الأفارقة السبعة، رؤساء أوغندا ورواندا، وإثيوبيا وكينيا ورئيس جنوب السودان، ووزير خارجية تنزانيا، وزامبيا، "الخيرات" التي تحملها إسرائيل معها إلى أفريقيا، مثل الخبرات في تحلية مياه البحر، والزراعة والتكنولوجيات، إلا أنه أفرد مكاناً خاصاً لموضوع محاربة "الإرهاب"، والسعي لإيجاد خطر مشترك يتهدد إسرائيل والدول الأفريقية، التي تواجه بعضها الإرهاب أو التي تقع على تخوم تدفق مقاتلي وعناصر من تنظيم الدولة الإسلامية" (داعش) وفروع لتنظيم "القاعدة"، و"بوكو حرام" وغيرها.
وإذا كان يمكن القول إن عملية إبرام اتفاقيات التعاون الاقتصادي بين إسرائيل والدول الأفريقية، قد تستغرق مزيداً من الوقت، لا سيما أن ميزان التصدير الأمني من إسرائيل للدول الأفريقية في ارتفاع في السنوات الأخيرة واجتاز مبلغ 300 مليون دولار، بحسب تقديرات، إلا أنه يمكن الإشارة إلى مكاسب سياسية حققتها جولة نتنياهو الأفريقية، وهي بالأساس ترسيخ لمسار عودة إسرائيل لأفريقيا، وفي مقدمتها إعلان رئيس كل من كينيا وإثيوبيا عن دعمهما للمطلب الإسرائيلي بالحصول على مكانة مراقب في اتحاد الدول الأفريقية، وهو ما تعارضه بشدة جنوب أفريقيا، ما يضع عراقيل حقيقية أمام هذا المطلب.
يرفض بعض منتقدي نتنياهو في إسرائيل، إصراره على اعتبار جولته الأفريقية "جولة تاريخية"، كمحاولة من رئيس الحكومة لنسب الفضل في تطور العلاقات الإسرائيلية الأفريقية إلى نفسه، متجاهلاً الدور الذي لعبه في الأعوام الأخيرة وزير الأمن في حكومة الاحتلال، أفيغدور ليبرمان، الذي شغل في الحكومة السابقة منصب وزير الخارجية. إلا أنه في المقابل، لا يمكن التقليل من أهمية هذه الجولة، خاصة مع إعلان نتنياهو أنه أجرى اتصالاً هاتفياً مع أحد زعماء الدول الإسلامية في أفريقيا، والتي لا تقيم علاقات مع إسرائيل. ورفض نتنياهو الكشف عن هوية هذا الزعيم، لكن صحيفة "يسرائيل هيوم" المقربة كشفت أن الأمر يتعلق بتلقي إسرائيل رسائل إيجابية من تشاد، وأن نتنياهو أجرى اتصالاً هاتفياً مع رئيسها إدريس ديبي.
اللافت في الجولة الأفريقية لنتنياهو، هو ما أشار إليه مثلاً المحلل الأمني في صحيفة "هآرتس"، أمير أورن، عن أن نتنياهو لم ينس الإشارة في لقائه بالزعماء الأفارقة، إلى الولايات المتحدة وكونها الحليف الطبيعي لإسرائيل، وقائدة العالم الحر، بما يحمل رسالة لزعماء الدول الأفريقية مفادها أن الطريق إلى واشنطن ونيل دعمها يمر عملياً في تل أبيب.
في المقابل، لمّح مراسل "يسرائيل هيوم"، بوعاز بيسموط، المقرب من نتنياهو، والذي سبق له أن شغل منصب السفير الإسرائيلي في موريتانيا، إلى أنه بمقدور إسرائيل أن تصل إلى "قلب" هذه الدول، من خلال إبراز "القاسم المشترك" بينها وبين إسرائيل، لا سيما ضربات إرهاب الجماعات الإسلامية المتطرفة. ولفت بيسموط، الذي يشكل بوقاً في الترويج لطروحات نتنياهو على مختلف الأصعدة، إلى أن انفتاح إسرائيل على أفريقيا، أو العودة إليها، هو في واقع الحال عودة إلى استراتيجية مؤسس دولة الاحتلال ديفيد بن غوريون، ورئيسة حكومة الاحتلال في سنوات الستينات من القرن الماضي، غولدا مائير. وهذه الاستراتيجية كانت تهدف، آنذاك، لتجاوز الطوق العربي، والسعي للوصول إلى علاقات مع الأطراف، أي مع الدول البعيدة، التي يمكنها أن تكون في الدائرة الثانية والثالثة من حيث موقعها الجغرافي.
لكن عودة إسرائيل في الأعوام الأخيرة لأفريقيا، استفادت كثيراً من الأوضاع في الوطن العربي، خاصة بعد اندلاع ثورات الربيع العربي، والانقلاب عليها. فقد استغلت إسرائيل العاصفة من أجل إعادة مد الجسور. ويمكن عملياً الرجوع إلى بدء نسج هذه العلاقات مجدداً، إلى عامي 2012-2013، علماً بأن علاقات إسرائيل ببعض الدول الأفريقية وخاصة تلك التي حكمها مستبدون وديكتاتوريون، لم تنقطع يوماً، بل كانت إسرائيل المزود الرئيسي لأنظمة هذه الدول بالأسلحة والذخيرة لمساعدة حكامها على ترسيخ حكمهم، وهي تواصل مد جنوب السودان مثلاً بالأسلحة الفتاكة، كما تورطت بقضية تجارة الأسلحة في رواندا خلال فترة الإبادة الجماعية في هذا البلد.
ففي دراسة نشرها معهد "أبحاث الأمن القومي" عام 2014، يشير الباحث هرمان بوتيم، إلى تبلور مصالح مشتركة في السنوات الأخيرة، مكّنت من إعادة أهمية أفريقيا للسياسة الإسرائيلية، بدءاً من المصالح الاقتصادية، مع إشارة تقارير دولية إلى ارتفاع معدلات النمو الاقتصادي للدول الأفريقية بنسب تصل إلى 3.7%، ومروراً بالمصالح الأمنية، مثلاً في منطقة القرن الأفريقي، مثل دول إثيوبيا وإريتريا وكينيا، المجاورة للصومال، حيث سعت إسرائيل إلى تعزيز العلاقات معها، حتى تضمن منطقة عازلة بين الصومال وبين هذه الدول لقطع الطريق أمام جماعات إسلامية صومالية وغير صومالية لها علاقات مع حركة "حماس"، ولضرب التأثير الإيراني في هذه الدول. كما أن التحالف الإسرائيلي مع هذه الدول، وبضمنها أيضاً جنوب السودان، يمنح إسرائيل، بحسب الدراسة، وجود حلف إقليمي مع دول مسيحية، ما يتيح مواجهة النفوذ والخطر الذي يمكن لإيران والصومال والسودان أن تشكله على إسرائيل. وهذه المنطقة تشكل في الواقع موقعا متقدماً لجمع المعلومات الاستخباراتية لإسرائيل، خاصة حول النشاط الإيراني في القرن الأفريقي.