نتنياهو في الكونغرس.. تصفيق وتوتر
بتعالٍ وغطرسةٍ قل نظيرهما، ألقى رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، كلمته أمام الكونغرس الأميركي، ليحذر فيها من الخطر الإيراني على إسرائيل. واستهل نتنياهو كلمته بتوجيه عبارات شكر مفرطة للرئيس الأميركي، باراك أوباما، وأسهب في الحديث عن أهمية الدعم والمساعدات التي حصلت عليها إسرائيل من الولايات المتحدة، منذ تولي أوباما الرئاسة. وكان ذلك كله محاولة منه لتلطيف أجواء التوتر التي رافقت دعوته للحديث أمام الكونغرس من دون علم الرئيس أوباما، ولاستمالة الأعضاء الديمقراطيين الذين قاطعوا خطابه، وانتقدوه بشدة، بسبب ما اعتبروه عدم احترام لأوباما.
ثم انتقل نتنياهو إلى الحديث عن الخطر الذي تشكله إيران على دولته وشعبه، واعتبرها أكثر دولة رعاية للإرهاب، وتسيطر حالياً على عدة عواصم عربية، منها دمشق وبيروت وصنعاء وبغداد، وذلك كله بدون سلاح نووي، فكيف الحال إذا ما امتلكت أسلحة نووية؟ وخصص النصف الآخر من الخطاب، لشرح ما يعتبره مخاطر في الاتفاق الذي يجري التفاوض حوله بين مجموعة دول 5+1 وإيران، مكرراً ومشدداً، بطريقة دراماتيكية، أن هذا الاتفاق، بدلاً من أن يضع حداً لطموحات إيران النووية، يعبد الطريق أمامها لتطوير السلاح النووي.
وفي معرض الخطاب، بدا جلياً أن نتنياهو لا يقدم وجهة نظر حكومته، فحسب، بل يملي على المجموعة الدولية المفاوضة مع إيران دروساً، ويرسم لها طريقاً للسير به، معتبراً أن لا طريق سواه. كما بدا وكأنه يتهمها ويتهم الإدارة الأميركية والرئيس أوباما بالسذاجة، وبتعريض إسرائيل والولايات المتحدة، والعالم الحر بأسره، للخطر الذي يشكله السلاح النووي، إذا ما حصلت عليه إيران.
وعلى الرغم من التصفيق الحار الذي لقيه نتنياهو في الكونغرس، إذ معظم الأعضاء والضيوف الحاضرين من الجمهوريين المؤيدين له والمعارضين بشدة لسياسة أوباما، إلا أن ردات الفعل على خطابه من قادة ديمقراطيين ومحللين سياسيين، بينهم يهود عديدون، كانت منتقدة بشدة، وأحياناً، عنيفة. ومن أبرز تلك الانتقادات ما جاء على لسان رئيسة الأقلية الديمقراطية في مجلس النواب، نانسي بيلوسي، التي اعتبرت الخطاب مهيناً للذكاء الأميركي وعبرت عن استيائها الشديد من كلام نتنياهو، ومن انتقاده غير المبرر للرئيس أوباما، مضيفة أنها كانت على وشك البُكاء عند سماعها تهجُم نتنياهو على رئيسها. وانتقد أعضاء في مجلس الشيوخ الديمقراطيين البارزين الذين قاطعوا الخطاب، كالسناتور آل فرانكين وبرني سندرز واليزابيث وارن، غياب أي خطة بديلة لدى نتنياهو، لمنع إيران من تطوير السلاح النووي. وأعلن
الرئيس أوباما، بشيء من التهكم، أنه لم يستمع إلى الخطاب، لكنه اطلع على نسخة مكتوبة منه، ولم يجد فيه فكرة جديدة، أو اقتراحاً بديلاً عمّا تقوم به مجموعة 5+1. وعلقت المتحدثة باسم الخارجية الأميركية، ماري هارف: "مديري (وزير الخارجية جون كيري)، جالس حالياً على طاولة المفاوضات في جنيف، ويعمل لكيلا تحصل إيران على القنبلة النووية".
وصدرت تعليقات عديدة في وسائل الإعلام المرئية والمقروءة والمسموعة، تتفاوت في حدة معارضتها أو تأييدها مبدأ زيارة نتنياهو ولخطابه في الكونغرس. فقد حملت افتتاحية صحيفة فايننشال تايمز عنوان "صفاقة تحدي نتنياهو لأوباما". واعتبرت افتتاحية صحيفة نيويورك تايمز أن الترحيب الذي لاقاه نتنياهو في الكونغرس لا يعبر سوى عن رغبة الذين يريدون تحدي أوباما، وكتبت أنه لم يقدم أي جديد بشأن التعاطي مع إيران، ولا أسبابا وجيهة لوقف المفاوضات. واعتبرت صحيفة واشنطن بوست أنه ستكون لكلمة نتنياهو نتيجة عكسية وستضر مؤيديه الأميركيين من الحزب الجمهوري.
وتشهد العلاقات الأميركية الإسرائيلية تراجعا مشهوداً في السنوات الأخيرة، اتسم، في البداية، بفتور نسبي وغير معلن بين أوباما ونتنياهو، عندما طلب أوباما من إسرائيل تجميد بناء المستوطنات، ثم ازداد بعد خطاب أوباما في القاهرة، عندما زار مصر وتركيا، ولم يزر إسرائيل إلا في بداية ولايته الثانية، ثم تطورت الأمور سلباً بصورة تدريجية إلى أن وصلت إلى مرحلة خلاف واضح وعلني بين الرئيس الأميركي ورئيس وزراء إسرائيل، بسبب سعي الأخير إلى إفشال المفاوضات الجارية مع إيران.
لا بد من الإشارة، هنا، إلى أن هناك قلة تجانس وانسجام بين أوباما ونتنياهو، فالأول انتخب بعد حملة انتخابية، ركزت على إنهاء حروب أميركا في الخارج، وتحسين العلاقات مع العالم الإسلامي، بعد حرب بوش على أفغانستان إثر اعتداءات 11 سبتمبر/أيلول 2001، وحربه غير المبررة على العراق، والتي أثرت سلبا على علاقات أميركا مع معظم دول العالم الإسلامي. بينما انتخب نتنياهو كونه يمثل اليمين الإسرائيلي المتطرف الذي لا يتردد إطلاقا في شن الحروب، بمجرد اعتقاده أن في ذلك مصلحة لإسرائيل. إلا أن ما أدى إلى تفاقم العلاقة بين أوباما ونتنياهو موقف الأخير من الملف النووي الإيراني. فعلى الرغم من أن الولايات المتحدة سبق وأن أكدت، في مناسبات عديدة، أنها لن تسمح لإيران بامتلاك السلاح النووي، إلا أن نتنياهو مستمر في إصراره في إشاعة أن إيران سوف تمتلك السلاح النووي قريباً، وأن أوباما وقع في الشرك الذي نصبته له إيران للاستمرار في التفاوض، بما يمكنها من إحراز تقدم سريع في مجهودها للوصول إلى امتلاك سلاح نووي. ومع فوز الجمهوريين في الانتخابات التشريعية النصفية في أكتوبر/تشرين الثاني 2014 وسيطرتهم على مجلسي الشيوخ والنواب، سعى نتنياهو، وانطلاقاً من علاقته المميزة مع الحزب الجمهوري، إلى دفع الجمهوريين، بمساعدة اللوبي الإسرائيلي القوي إيباك، إلى تشديد العقوبات الاقتصادية والمالية على إيران، وعدم انتظار انتهاء المفاوضات، بحجة أن إيران لن تمتثل للإرادة الدولية، إلا تحت ضغط العقوبات. مع العلم أن أوباما أعلن، في مناسبات متعددة، آخرها خطابه في 20 يناير/كانون الثاني الماضي، أمام الكونغرس، في ما يعرف هنا بـ "حال الاتحاد"، أن أي تشدد جديد في العقوبات سيؤدي إلى انسحاب إيران من المفاوضات، وسيرها في طريق إنتاج السلاح النووي، وهذا من شأنه أن يقود إلى الحرب. وجاءت الزيارة الأخيرة، لتكشف للعلن عن:
أولاً، التحالف القائم بين حزب الليكود الإسرائيلي بزعامة نتنياهو والحزب الجمهوري الأميركي. وهذا كان معروفاً إلى حد ما، إلا أن دعوة نتنياهو بهذه الطريقة من باينر أظهرت متانة التحالف وأهميته للحزبين. مع العلم أن الديمقراطيين، أيضاً، يؤيدون إسرائيل بصورة عامة، ويخضعون لضغوط اللوبي الإسرائيلي، لكنهم غير متحالفين مع حزب الليكود الإسرائيلي، كما الجمهوريين.
ثانياً، اهتزاز في العلاقات بين أميركا وإسرائيل، وهذا لم يحصل إلا نادراً في تاريخ العلاقات القوية القائمة بين الدولتين. فالتوتر الحاصل بين أوباما ونتنياهو يبدو جدياً وقوياً، إذ تسعى إسرائيل، عبر رئيس وزرائها، إلى فرض مواقف على أميركا والمجموعة الدولية، قد تؤدي إلى حرب مع إيران، بما يضر المصالح الأميركية الحيوية، ويتنافى، بوضوح، مع المواقف السياسية التي انتخب أوباما على أساسها.
ثالثاً، التزام أوباما وإصراره على السعي، قدر المستطاع، إلى حل مسألة الملف النووي الإيراني، بجميع الوسائل السلمية المتاحة، قبل اللجوء إلى القوة، والتي لن يستعملها إلا بعد فقدان الأمل نهائياً بالوصول إلى حل سلمي للمسألة.
رابعاً، غياب أي رغبة لدى نتنياهو بالوصول إلى حلول سلمية مع إيران يُعمق القناعة بأنه لا يوجد في قاموسه كلمة سلام، خصوصاً تجاه الشعب الفلسطيني.
خامساً، إدخال الولايات المتحدة في اللعبة الانتخابية الإسرائيلية، إذ أصبحت زيارة نتنياهو مادة انتخابية متداولة على الساحة الإسرائيلية، وقد تؤثر على نتيجة الانتخابات. وفي المقابل، تم إدخال إسرائيل على الساحة السياسية الأميركية، كون الحزب الجمهوري آثر الاستعانة برئيس الحكومة الإسرائيلية، لتسجيل نقاط على الرئيس أوباما، مع كل ما يرافق ذلك من مواقف وتعليقات إعلامية يومية في الموضوع.
سادساً، اتخاذ الرئيس الأميركي قراراً حاسماً في الملف الإيراني، وإصراره على السير به، لأنه يرى فيه مصلحة أميركية واضحة، بخلاف تردده في مواضيع دولية أخرى، مثل الحرب في كل من سورية وأوكرانيا.
لا شك في أن هذا الاهتزاز الطارئ في العلاقات الأميركية – الإسرائيلية سيستمر في السنتين المتبقيتين من ولاية الرئيس أوباما، خصوصاً في حال فوز نتنياهو في الانتخابات التشريعية المقبلة. ولكن، سيكون من الصعب التكهن على انعكاس العلاقة المتوترة على ملف عملية السلام. ولقد سعى نتنياهو للظهور في الكونغرس زعيماً قوياً شجاعاً، يدافع عن الشعب اليهودي وعن إسرائيل. يتهم إيران بالسعي لتطوير السلاح النووي، وهو يخفي رؤوساً نووية أُنتجت في مفاعل ديمونا. ينتقد الرئيس الأميركي في عقر داره على خياره، في حل الأزمة مع إيران بالتفاوض لا بالحرب. وفي سعيه هذا، كشف نتنياهو عن حقيقته: رجل دوغمائي، يملي، لكنه لا يقنع.