هذه اللعنة ستطارد الهاربين من سورية، المتوهّمين أنّهم سيجدون الأمن خارج جغرافيتها، على اختلاف الأسباب التي دفعتهم إلى الرحيل. لن ينجو أحد منهم، إنّها حتمية قتل الوطن التي افتعلها طاغية دمشق، وطرُب للحنها العالم أجمع فكيف لمواطن بعد ذلك أن يحيا؟
لم تفاجئني أيضاً تفاصيل موت نجلاء الوزة، رغم شحّها. كان ينبغي أن تفعل: "فنانة سورية لم تتجاوز 22 من عمرها تشنق نفسها في جنوب أفريقيا". لم يدفعني هذا الخبر إلى التساؤل: كيف وصلت نجلاء إلى هذا المكان القصيّ؟ إذ بات من البديهي أن لا مكان على وجه البسيطة لم تجرّب قدم سورية أن تطأه. هي حتمية التشظّي لوطن انفجر كقنبلة، ونثر مواطنيه أشلاء في أصقاع المعمورة، ولا غرابة أن يأتي يوم نسمع أنّ سورياً ما قد مات متجمداً في القطب الشمالي.
ما الذي دفع نجلاء إلى الهجرة من سورية أصلاً؟ هل للوطن، وما يحدث فيه من نزاع، دورٌ في ذلك؟ أم أنها كانت تطارد حلمَ مستقبلها بعد أن هوى في دمشق، كما أخبرني أحد الأصدقاء: "لقد ذهبت نجلاء إلى هناك لتدرس السينما بعد أن رُفضت في المعهد العالي للفنون المسرحيه"، إذاً فهذا الوطن لا يكفّ عن سحق مبدعيه، وإن لم يقتلهم بالطرق التقليدية قتلهم بتحويل أحلامهم إلى سراب، قتلهم لأنه لا يجيد تقديرهم، ومنحهم فرصتهم التي يستحقونها.
لن أسأل لماذا اختارت نجلاء أفريقيا تحديداً لتعيش فيها آخر عام من عمرها؟ أتراها اختارت أفريقيا بعدما عاينت الذلّ الممارس على مواطنيها في الدول العربية؟ بعد أن تأكّد لها أنّ هذه الدول، بأنظمتها وشعوبها ونخبها ومصائرها، لا تختلف كثيراً عن ضفة الوطن التي قفزت منها، إن لم تكن أشد قسوة!
أم تراها اكتشفت حقيقةُ "العالم المتحضر" التي صفعت وجهها فيمّمته نحو الآخر النقيض؟ ودفعتها احتجاجاً والتجاءً إلى ألم يوازي في أزليته ما يحصل في سورية اليوم؟ وماذا هناك سوى القارّة السمراء، التي دفعت الفاتورة الأكبر بسبب خسّة الإنسان المتحضّر، من عصر الرقّ والعبيد إلى عصر أكاذيب "حقوق الإنسان والحريات"؟ أم هو البحث عن البدائية بنسختها النقية، بعد فقدان الانسجام مع عالم متحضّر يقبل بكلّ هذا، وبعيداً عن تناقض يؤرّق الروح، إذ ما معنى أن ترى دماء أهلك تُسفك كلّ يوم على شاشة التلفزيون بينما تتناول عشاءك بسكّين وشوكة، سوى أنّك لستَ أكثر من ميت يأكل ويشرب، يدخل الحمام وينام، وينجب موتى آخرين!
ما الذي يدفع صبية مبدعة وجميلة، كنجلاء، الكاتبة والرسّامة والممثّلة إلى شنق نفسها؟ إن كان ذلك حقاً ما حدث؟ إذ لا يزال موتها محاطاً بالغموض رغم أنّ أصدقاءً قريبين منها قد كشفوا عن سرّ اتّخاذها هذا القرار على صفحاتهم الفيسبوكية. قيل إنّها نجت من محاولة انتحار سابقة، وهذا يعني أنّها كانت تحثّ الخطى نحو موت تختار توقيته بنفسها. فهل كانت آلام سورية، التي ما عادت تحتمل، هي من دفعها إلى ذلك؟ وهل نجلاء السوريةُ الوحيدة التي راودها الانتحار للتخلّص من حياة لا تشبه الحياة في أيّ شيء؟
لم يعصف الحزن بقلبي وأنا أفكر بنجلاء، بحياتها القصيرة ورحيلها الغامض. ربّما لأنني أحمل قلباً سورياً اعتاد الموت الكارثي لدرجة أكاد أجزم أنّه في الغد قد يموت أحد أحبّتي فلا أتمكّن من البكاء عليه. لكنّ الإرث القليل من الفنّ الذي تركته نجلاء جعل روحها تهيم حولي أياماً عدّة، وجعلني أرثي هدر كلّ هذا الإبداع في وقت البلد في أمسّ الحاجة إليه.
يبدو جلياً في أعمالها أنّها كانت مع الإنسان والقيم النبيلة التي تليق بآدميته. ففي لوحتها "عروس سورية"، ألبست نجلاء عروسها فستاناً أسود يليق بحفل تأبين، وجعلتها تقف في خزانة الملابس بوجهٍ خالٍ من التبرّج وبعينين مفتوحتين على الحيرة، وعلّقت إلى جوارها بزّة العريس السوداء أيضاً، وكانت فارغة من جسده. أرادت نجلاء دقّ جرس الإنذار ذعراً من موت الشباب وترمّل سورية.
في لوحة أخرى بعنوان "تألقي"، صنعت نجلاء عقداً من رغيف خبز سوري، ووضعته على عنق عارضة، كما تفعل الدعايات التي تسوّق للمجوهرات الثمينة. وإشارة منها إلى إيمانها بوحدة الشعب السوري في ثورته، كتبت نجلاء كلمة "حريّة" بمادة "المتّة".
ربّما كانت تريد إقناع فئة من موالي الطاغية بالحريّة. غير أنّ نبوءتها حول مصير السوريين كانت أكثر وضوحاً في لوحتها "إطارات وبراويز"، عندما علّقت على حائط الوطن صوراً لجميع أبنائه، ووضعت على كلّ إطار شريط حداد، لم تستثنِ منهم سوى الطاغية.
نجلاء كانت تدري أنْ لا أحد سينجو، ما دام الطاغية "سيّداً للوطن".