23 فبراير 2022
نحن الوطن
يقول الشاعر أحمد مطر في قصيدته "يسقط الوطن": يا سيدي انفلقت حتى لم يعد للفلق في رأسي وطن، ولم يعد لدى الوطن من وطن يؤويه في هذا الوطن، أي وطن؟ الوطن المنفي؟ أم الرهين الممتهن؟ أم سجننا المسجون خارج الزمن؟
يتلاعب الطاغية في كل عصر بمفهوم الوطنية لينسج من ثوبها عباءة تناسبه، يصبغها بالإرهاب؛ يلف بها كل خاضع، ويطرد خارجها كل معارض، فيحبسه كخائن عميل مهدور دمه، ويجمع الغوغاء في يوم إعدامه ليشهدوا انتزاع أحشائه فيشب أولادهم على الخنوع فلا تحدثهم أنفسهم أن يرفعوا أمامه رأسا، ثم يجلس على عرشه المرصع بالجماجم في محاولة بائسة للتجمل، وحين يواجه بأعداد المغيبين بسجونه، يظهر متعرقا ممتقعا، ويرد مستنكرا "مستعبطا" أنه لا يعلم من أين أتت أهم منظمة حقوق الإنسان في العالم بهذه الأرقام! وكأن رقما كهذا مبالغ فيه في بلد بلغ عدد سجونها حوالي 52 منها 17 بنيت في عهده!
يتلاعب الطاغية في كل عصر بمفهوم الوطنية لينسج من ثوبها عباءة تناسبه، يصبغها بالإرهاب؛ يلف بها كل خاضع، ويطرد خارجها كل معارض، فيحبسه كخائن عميل مهدور دمه، ويجمع الغوغاء في يوم إعدامه ليشهدوا انتزاع أحشائه فيشب أولادهم على الخنوع فلا تحدثهم أنفسهم أن يرفعوا أمامه رأسا، ثم يجلس على عرشه المرصع بالجماجم في محاولة بائسة للتجمل، وحين يواجه بأعداد المغيبين بسجونه، يظهر متعرقا ممتقعا، ويرد مستنكرا "مستعبطا" أنه لا يعلم من أين أتت أهم منظمة حقوق الإنسان في العالم بهذه الأرقام! وكأن رقما كهذا مبالغ فيه في بلد بلغ عدد سجونها حوالي 52 منها 17 بنيت في عهده!
إن رسائل المعتقلين التي تصل لذويهم بين الفينة والفينة لتقيس عمق وحل قاع مستنقع فاشي ديكتاتوري أغرق فيه المنقلبون الوطن. إليكم رسالة من عشرات الرسائل المحبوسة بزجاجات ألقاها المغرقون في بحر الظلم ، علها تصل لشاطئا فيلتقطها أحد المارة..
يقول الشاب حسن البنا المحبوس بسجن طرة: "هنا قبل كل شيء عملية تصفية نفسية بطيئة أشهد بذلك، كل دفاع بنيته يوما أكتشف الآن مدى بدائيته ووهنه، كل طاقة ادخرتها نفدت من أول ساعة، كل ذكاء طورته لم يكن كافيا لإقناع شاويش، كل غرور ارتفعت به لم يعل على حذاء عسكري، كل فكرة استثمرت فيها لم تستدع انتباه حتى أمين شرطة، كل خيال تصورته عن نفسي، أنا الآن أول الهازئين به، كل عاطفة أخلصتها للوطن لم تكن إلا مدعاة للاحتقار والتسفيه. كل المعاني التي اجتهدت دهرا في استخلاصها لم تصمد أمام المعاني البديلة التي اكتسبتها هنا، هنا المعنى الحقيقي للخوف والقلق والاكتئاب والوحدة والضعف والعجز والخور والحاجة والحرمان والريبة والشك والإرهاق والملل والهم والغم والضيق والزحام والقهر واليأس والحرقة والتشوه والقبح والغربة والألم".
صار كل من عاصر الثورة وانصهر مع أحداثها وذاب مع آلامها، لا يستطيع إلا أن يذكر في كل أحواله من اختفوا قسريا بين موجاتها ومن اعتقلوا ومن سجنوا، فإذا ما شعر بالبرد ذكر تجريد زنازينهم من بطانية أو حتى أبسط حقوقهم في لباس شتوي، ليموتوا بردا كـ"جمعة مشهور" بسجن الفيوم؛ وإذا ما حل موسم امتحانات ذكر طلابا لا يؤدونها إما لمنع ترحيلهم من سجونهم كسجن بني سويف أو لعجزهم لظروف صحية ونفسية ومعيشية داخل الحبس؛ وعندما يشتد الحر يسرح في تكدسهم داخل عنبر كالسردين، وعندما يرفع اللقمة إلى فيه يتصور معاناة سيدات فاضلات لإيصال طعام لذويهن بالداخل دون أن يعبث بها السجان، وتحملهن سفرا طويلا وإهانات وتحرشات، بل وإن منهن من يعتقلن أثناء الزيارات.
إن صورا كالتي يشاهدها المتابع للمحاكمات تدمي كل ذي قلب؛ يرى عيونا تملؤها الدموع تشخص صوب عزيز خلف قضبان، إشارات متبادلة بالأيدى والشفاه بين مسجون وذويه ليطمئنهم ويؤازروه؛ أطفالا رضعا بين أيدي أمهات شابات لم يأمن بقرب أزواجهن لحظة خروج تلك الأجنة للحياة، ويشعر الأب بفرحة ممزوجة بحسرة أنه لا يستطيع أن يلمس طفله الذي ربما يكون الأول؛ قصص حب معلقة، يميل هو لهجر لا يريده وتثبت هي مصرة على انتظاره، أطراف أصابع تتلاقى وأحضان تتخللها حواجز.
يعيد القهر إلى ذاكرة المتعاطف قصيدة أمينة قطب "هل ترانا نلتقي"، عبر مجريات قضية سمية ماهر، تخطب الفتاة لشاب يتقدم لأبيها الذي يجاوره في السجن وبعد طول انتظار يخرج العريس ليعقد عليها ثم يتم القبض عليها لتختفي تماما وبعد عام ونصف تظهر لتصبح رقما جديدا يضاف للمعتقلات دون جريمة تذكر سوى الانتماء لثورة يناير، والالتزام بسمت إسلامي.
يكاد المقيد بسلاسل الطغيان يسمع شهقة مرة وبكاء كظيما لأهالي مختفين يظهرهم النظام في مشرحة زينهم ويلصق بهم تهمة الإرهاب، يسمع صراخ أهالي المسجونين بسجن العقرب الذي أطلقوا عليه "المقبرة" لحجم الانتهاكات غير الآدمية لحقوق الإنسان فيه.
وأقول كما قال مطر: "نموت كي يحيا الوطن؟ كلا سلمت للوطن! خذه وأعطني به صوتا أسميه الوطن، قطرة إحساس أسميها الوطن، كسرة تفكير بلا خوف أسميها الوطن، يا سيدي خذه بلا شيء، فقط، خلصني من هذا الوطن، نموت كي يحيا الوطن؟ نحن الوطن، من بعدنا يبقى التراب والعفن، إن لم يكن بنا كريما آمنا، ولم يكن حرا، فلا عشنا ولا عاش الوطن".
إن صورا كالتي يشاهدها المتابع للمحاكمات تدمي كل ذي قلب؛ يرى عيونا تملؤها الدموع تشخص صوب عزيز خلف قضبان، إشارات متبادلة بالأيدى والشفاه بين مسجون وذويه ليطمئنهم ويؤازروه؛ أطفالا رضعا بين أيدي أمهات شابات لم يأمن بقرب أزواجهن لحظة خروج تلك الأجنة للحياة، ويشعر الأب بفرحة ممزوجة بحسرة أنه لا يستطيع أن يلمس طفله الذي ربما يكون الأول؛ قصص حب معلقة، يميل هو لهجر لا يريده وتثبت هي مصرة على انتظاره، أطراف أصابع تتلاقى وأحضان تتخللها حواجز.
يعيد القهر إلى ذاكرة المتعاطف قصيدة أمينة قطب "هل ترانا نلتقي"، عبر مجريات قضية سمية ماهر، تخطب الفتاة لشاب يتقدم لأبيها الذي يجاوره في السجن وبعد طول انتظار يخرج العريس ليعقد عليها ثم يتم القبض عليها لتختفي تماما وبعد عام ونصف تظهر لتصبح رقما جديدا يضاف للمعتقلات دون جريمة تذكر سوى الانتماء لثورة يناير، والالتزام بسمت إسلامي.
يكاد المقيد بسلاسل الطغيان يسمع شهقة مرة وبكاء كظيما لأهالي مختفين يظهرهم النظام في مشرحة زينهم ويلصق بهم تهمة الإرهاب، يسمع صراخ أهالي المسجونين بسجن العقرب الذي أطلقوا عليه "المقبرة" لحجم الانتهاكات غير الآدمية لحقوق الإنسان فيه.
وأقول كما قال مطر: "نموت كي يحيا الوطن؟ كلا سلمت للوطن! خذه وأعطني به صوتا أسميه الوطن، قطرة إحساس أسميها الوطن، كسرة تفكير بلا خوف أسميها الوطن، يا سيدي خذه بلا شيء، فقط، خلصني من هذا الوطن، نموت كي يحيا الوطن؟ نحن الوطن، من بعدنا يبقى التراب والعفن، إن لم يكن بنا كريما آمنا، ولم يكن حرا، فلا عشنا ولا عاش الوطن".