القارئ في تاريخ العالم والمتأمل بدقة في الصراعات والتحالفات، يدرك بغير مجهود يُذكر، أن المحرك الأساسي للأنظمة والدول كان وما يزال "المصلحة"، بغضّ النظر عن الانتماءات الدينية.
من القضايا ذات الصلة بذلك، إيران وعلاقتها بالوطن العربي، وما يحدث من حصر، من قبل بعضهم، للخلافات بين الدول العربية وإيران في ما يوصف بـ"الصراع السني الشيعي"، إذ يحولون الأمر كله إلى خلاف مذهبي لا سياسي.
عبر تتبع النشاط الإيراني في المنطقة العربية تاريخياً، يفاجأ الباحث أن الخلاف لا يرجع إلى عصر الجمهورية الإسلامية (1979) فحسب، وإنما هو أقدم منها بقرون، بل إنه يرجع إلى ما قبل الإسلام.
مخلب قط
في عصر قوة الإمبراطورية الفارسية، سعت إلى بسط نفوذها على الشام في إطار التنافس مع الإمبراطورية البيزنطية، بل وبلغت حد السيطرة عسكرياً على بعض مدن سوري وفلسطين ومصر خلال فترة الصراع الداخلي على الحكم في بيزنطة حتى تولي القيصر هرقل السلطة وإنزاله هزيمة ثقيلة بالفرس وطردهم من الشام ومصر.
كذلك حاولت فارس خلق "مخلب قط" لها في المنطقة العربية، إذ أقامت لبعض المهاجرين العرب من اليمن بعد انهيار دولة سبأ، مملكة المناذرة في الحيرة بالعراق، وجعلتها تابعة لها في سياساتها الخارجية ونظام حكمها، ووضعت كتيبة فارسية "كتيبة الأشاهب" تحت يد الملك المناذري بذريعة معاونته في فرض الاستقرار والولاء، بينما كانت في حقيقة الأمر ضمانة للفرس لبقاء الملك نفسه تحت جناحهم.
وفي اليمن، ساعد الفرس الأمير سيف بن ذي يزن الحميري في طرد الأحباش من اليمن، إذ دعموه بقوة عسكرية ووضعوه على العرش وجعلوا معه طبقة فارسية حاكمة.
حتى وإن كانت الدولة الفارسية قد سقطت على يد الدولة العربية الإسلامية الناشئة واندمج الفرس في مجتمع الدولة الجديدة، إلا أن فكرة "التفوّق الفارسي" عند بعضهم لم تنته، وإنما انتقلت من طور "الدولة الفارسية" إلى طور "القومية الفارسية"، وسعى أصحاب تلك الفكرة إلى العمل جدياً على الوصول للسيطرة على السلطة.
يبدو هذا واضحاً في بعض أهم محطات تاريخ الدولة العربية، فخلال الثورة على الحكم الأموي لعبت العناصر الفارسية دوراً كبيراً في دعم الحركة العباسية، وبرز منهم اسم "أبو مسلم الخراساني" الذي ما كانت مشاركته في رفع شعار "الرضا من آل محمد" إلا ترجمة على أرض الواقع لتطلعاته هو وقطاع عريض من الفرس الساخطين، إما من عنصرية الأمويين ضد غير العرب أو أنفة من فكرة وجود العرب على رأس السلطة أصلاً.
بدا هذا جلياً في ما بعد سقوط الحكم الأموي وقيام دولة العباسيين، فقد كان أبو مسلم يتعمد مطاولة الحكام الجدد وتحديهم، حتى أدى ذلك إلى مقتله على يد الخليفة أبي جعفر المنصور، وقد حاول بعض أتباع أبي مسلم التمرد على الخليفة إلا أنه قد قمعهم.
المحطة التالية كانت خلال حكم هارون الرشيد، فقد علا نجم أسرة البرامكة الفارسية، والتي استوزرها الرشيد، وسيطرت على مفاصل الدولة حتى بلغت حد الحجر على تصرفات الخليفة في بعض شؤونه، ما كان سبباً في قيامه بالقضاء عليهم ومصادرة ممتلكاتهم وتدميرهم تماماً.
ثم بعدها خلال صراع ابني الرشيد الأمين والمأمون، سارع الفرس لمناصرة المأمون فارسي الأم، وكان على رأس مناصريه الوزير الفارسي الفضل بن سهل الذي نصحه بشكل صريح أن يجعل قوته في "أخواله" طمعاً في نقل العاصمة من بغداد إلى خراسان التي كانت تحت حكم المأمون، وما يترتب على ذلك بالطبع من جعل السيطرة على الدولة في يد الفرس، وقد استمر ذلك النفوذ الفارسي في البلاط العباسي، حتى قام المعتصم خليفة المأمون، وهو تركي الأم، بتغليب العنصر التركي، بل وجرت محاولات لإقامة حكم فارسي مستقل في إيران انفصالاً عن العباسيين على يد بعض القادة المنحدرين من أسر فارسية كالدولة الصفارية والدولة السامانية.
وحتى المحاولات الانفصالية أو الانقلابية التي شهدتها تلك المنطقة خلال العصر العباسي، والتي أخذ بعضها صبغة شيعية، لم يكن الانتماء المذهبي فيها هو المحرك الأساسي، سواء محاولة الأمير التركي المتشيع البساسيري خلع الخليفة العباسي والدعاء على منبر بغداد للخليفة الفاطمي، أو قيام حركة الحشاشين في فارس على يد حسن بن الصباح، فالأول كان مجرد أمير طامح للسلطة أراد استمالة القوة الفاطمية لدعم مطامعه، والآخر كان هو وخلفاؤه متلاعبون بالعواطف المذهبية، من دون تقيّد بالولاء الشيعي العام إلى حد قيامهم باغتيال بعض الخلفاء الفاطميين الذين كانوا يعتبرون عند جمهور الشيعة أئمة الزمان آنذاك، فضلاً عن أن فرقة الحشاشين أصلاً تنتمي لفئة يعتبرها أغلب الشيعة مارقة.
عبر قفزة واسعة في مجرى التاريخ، وصولاً إلى القرن السادس عشر الميلادي، فبينما كان العملاقان السنيان العثماني والمملوكي منهمكان في صراعهما الأخير الذي انتهى بسقوط دولة المماليك، وسيطرة العثمانيين على المشرق العربي، كانت الأسرة الصفوية المتشيعة تقيم دولتها في بلاد فارس وتعلنها دولة شيعية، كبداية لسلسلة من الأنظمة الحاكمة الفارسية من صفويين ثم قاجاريين ثم نظام رضا بهلوي وابنه محمد، وصولاً لنظام الجمهورية الإسلامية.
كان عهد كلا من الصفويين وأخلافهم القاجاريين عبارة عن صدام وصدام مضاد بينهم من جانب، والعثمانيين من جانب آخر، للسيطرة على المناطق الحدودية وساحل الخليج العربي.
وأكبر دليل على انعدام صلة الخلاف المذهبي، بواقع التنافس والنزاع، هو فترات السلام والتفاهم التي كانت تمر بها الدولتان الفارسية والعثمانية أحياناً، فضلاً عن محور الخلافات كان دائماً مرتبطاً بمناطق النفوذ المتميزة بالثروات أو الموقع الاستراتيجي، وهو مما يصلح ليكون محور صراع قوتين متجاورتين بغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف المذهبي.
إضافة إلى ذلك، فإن القوة الحقيقية للمؤسسة الدينية الشيعية التي استطاعت بدهاء أن تصعد السلم، وصولاً لتحقيق حلم الجمهورية الإسلامية، والتي تقدم نفسها إعلامياً كحامية حمى الإسلام لم تظهر وتبرز بشكلها المؤثر إلا في مرحلة إسقاط الحكم القاجاري لإيران وقيام الحكم البهلوي، ثم إسقاط هذا الأخير بدوره سنة 1979.
اقرأ أيضاً: المرشحون الخمسة لخلافة خامنئي.. هل يحسمها شاهرودي؟
ما هي مشكلتنا حالياً مع إيران؟
التدخل الإيراني في شؤون اليمن، ولبنان، وسورية، وفلسطين، البحرين. الخطاب الرسمي الإيراني المستفز بالهجوم الشرس على بعض الأنظمة العربية بالذات مصر، واحتلال إيران للجزر الإماراتية الثلاث طنب الكبرى، طنب الصغرى، وأبوموسى.
واقع الأمر أن أغلب تلك المشكلات إنما يرجع لعهود سبقت وجود النظام الإيراني الحالي المتهم بقيادة "الحملة الشيعية" على "المشرق العربي السني"، إذ إن مشكلة الجزر الإماراتية بدايتها كانت في عهد الدولة الصفوية، تحديداً في القرن الثامن عشر، في فترة شهدت مجاهرة إيران بمطامعها في البحرين والجزر الثلاث المذكورة لتكون موطئ قدم لها في غرب الخليج العربي، وتطور الأمر عندما قررت بريطانيا الانسحاب من تلك المنطقة في القرن التاسع عشر عندما طالبت إيران صراحة بملكية الجزر الثلاث والبحرين، وانتقلت لمرحلة الاحتلال الفعلي سنة 1971. ويستمر احتلالها إلى يومنا هذا، نحن إذن نتحدث عن مشكلة بدأت وتطورت وتفاقمت خلال عهود أربعة أنظمة حاكمة يختلف كل منها عن الآخر خاصة في ما يتعلق بمدى تأثير الانتماء المذهبي في سياساته.
في ضوء حقيقة قدم عهد السعي الإيراني لفرض موطئ قدم لإيران في الخليج يمكننا معرفة أسباب التدخل الإيراني في البحرين، إلى حد التصريح بأنها جزء من إيران لاعتبارات تاريخية، ولنضع عشرة خطوط تحت كلمة "تاريخية"، فهي تفسر بشدة سياسات إيران تجاه الخليج العربي، أكثر مما يفعل التفسير المذهبي.
بالنسبة لسورية فإن التقارب بين إيران ونظام الأسد بدأ في السبعينيات في عهد حافظ الأسد قبل قيام الجمهورية الإسلامية الإيرانية، عندما مد الأسد يده لرجال الخميني، ثم بعد استيلاء الخميني على السلطة، أخذ التقارب شكلاً رسمياً في محاولة من الأسد لتقوية جبهته في مواجهة مصر، وحتى مع عودة العلاقات بين مصر وسورية في عهد مبارك فإن إيران رأت في سورية حليفاً مهماً في المنطقة، في مواجهة نظام صدام حسين، وحتى بعد سقوط صدام ونظامه فإن حاجة إيران لسورية كموطئ قدم على البحر المتوسط بقيت مستمرة، المصلحة تتحدث إذن.
بالنسبة لتوظيف المذهب، من أجل التدخل في شؤون كل من اليمن ولبنان، يمكن القول إن الأسباب الحقيقية للتدخل في اليمن، هي إيجاد موطئ قدم إيراني على خليج باب المندب، وهي تكملة خطة تأمين نطاق بحري واسع حول إيران، على اعتبار أن سورية هي البوابة البحرية الشمالية واليمن هي البوابة الجنوبية.
أما لبنان فهو أولاً موطئ قدم في العمق العربي، فضلاً عن أن دعم حزب الله يخدم الخطاب الإعلامي لآيات الله الذين يريدون تقديم أنفسهم كحماة حصريين لـ"بيضة الإسلام"، ولو كان التقارب المذهبي هنا هو المحك فلماذا إقامة العلاقات مع حركات المقاومة الإسلامية في فلسطين وهي التي تنتمي في أساسها إلى كيان سني؟
اقرأ أيضاً: "التهمة كتاب 2"..10عناوين تودي ببائعها إلى القبر في العراق
مصر وإيران
بقي الخطاب السياسي المستفز في ما يتعلق بمصر والاحتفاء باغتيال الرئيس السادات.
ببساطة، فإن نظام الخميني قام في شقه الدعائي على خطاب جهادي حماسي غرضه ضمان الاحتفاظ للمؤسسة الدينية في مدينة قم بالسلطتين المدنية والروحية، وتلك الأخيرة كانت الطريق للأولى، وللحفاظ عليها فلا بد من استمرار استخدام وتوظيف مفردات مثل "الجهاد، الأمة، الإمام، المهدي، الحرب المقدسة، الكفار، إلخ"، كأية دولة دينية شمولية، وأي نظام شمولي لابد أن يحافظ على فكرة وجود "العدو المتربص بنا والخونة العملاء"، سواء أكان دينياً أم علمانياً، إضافة إلى ذلك فإن نظام الخميني جاء على أنقاض نظام كان يتنافس مع مصر على أن يكون الحليف الأول لأميركا في المنطقة، بعد إسرائيل بالطبع، فلما سقط انفردت مصر بمكانه، فكان الأنسب للنظام الإيراني الجديد، من وجهة نظره، أن يتبنى الخطاب المعادي لمصر، وفي النهاية هي مسألة مصالح تتغير وتتبدل تبعاً لها المواقف والسياسات.
-ختاماً: كمصري وكعربي تكفيني السياسات الإيرانية في المنطقة لأتخذ موقفاً مضاداً منها بغض النظر عن مسألة "سنة وشيعة"، والتاريخ لا يخلو من إثباتات لحقيقة أن المصلحة هي دين السياسة ومذهبها، فكم من أنظمة متفقة دينياً تصادمت، وكم من دول متعارضة دينياً تحالفت، وتعميم التفسير الديني/ المذهبي على تفسير الأحداث والوقائع التاريخية والمعاصرة هو انفصال تام عن الواقع لا مكان له في عالم السياسة.
-------
اقرأ أيضاً:
آيات الرحمن في جهاد الهان
-مراجع:
-جزيرة العرب قبل الإسلام: برهان الدين دلو.
-تاريخ العرب قبل الإسلام: د.محمد سهيل طقوش.
-تاريخ الجزيرة العربية الحديث والمعاصر: د.محمد سهيل طقوش.
-تاريخ الشام الحديث والمعاصر: د.محمد سهيل طقوش.
-أطلس التاريخ العربي الإسلامي: د.شوقي أبوخليل.
-الحشيشية: برنارد لويس.
-تاريخ الدولة الصفوية: د.محمد سهيل طقوش.
-الفرق والجماعات الدينية في الوطن العربي قديماً وحديثاً: د.سعيد مراد.
-تاريخ العلاقات العثمانية الإيرانية: د.عباس إسماعيل صباغ.
-تاريخ الدولة العباسية: د.محمد سهيل طقوش.
-العلاقات المصرية الإيرانية 1970- 1981: د. سعيد الصباغ.
-مدافع آية الله: محمد حسنين هيكل.
-إيران وولاية الفقيه: د.مصطفى اللباد.