لا تنشأ الدول والمجموعات البشرية ولا ثقافاتها من لا شيء، ولا تستمر بلا شيء، ولا تعيد تجديد ذاتها بعد مواتٍ بدون الرجوع لهذا الشيء، أو الأشياء، التي بنت هذه الدول والثقافات. لكن شرطَ إحياء هذا المواتِ يحتاج لقوةٍ إبداعية قوية تعرفُ كيف تحافظ على الموروث التاريخي لهويتها، وبأخلاقٍ. وهذه الأخلاق في غربلة التراث لأرشفة ما يحتاج للأرشفة، وإحياء من فيه طاقة قابلة للحياة من جديد في المستقبل يحتاج لجهدٍ كبيرٍ، ومواجهة تحدياتٍ داخلية وخارجية كثيرة.
كنتُ قد كتبت قبل سنواتٍ أننا نحتاج لعقدٍ اجتماعي جديد قوامه النسيان بأخلاق، أي نسيان عددٍ من قيمنا التراثية، رغم جمالها أو جماليتها في وقتها الماضي، لأنها لم تعد تصلح لزماننا، وهذا النسيان يجب أن يتم بأخلاقٍ، أي بدون الضرب على كل الموروث الثقافي الكلاسيكي وكأنه المشكل في ما تمر به مجتمعاتنا الحالية من مآسٍ وأزمات.
إن هذا ما يمر به العالمُ العربي منذ قرنين من الزمن ويزيد، وقد يكون العالمَ الثقافي الوحيدَ الذي تحدى الغزو الثقافي والسياسي الغربي بكل ما لديه من قوة لحدِ الآن. ومع ذلك ما يزال هذا العالم العربي السياسي والثقافي يتخبط في مشاكل تنزل به كل مرة درجات نحوَ الحضيض. لم يعدِ الغرب الاستعماري وحده من يجثم على الروح الإبداعية لهذه الثقافة ومجموعاتها البشرية متعددة الأعراق والألسن والأديان، بل إن الدكتاتورية العربية محلية الصنع أثبتت أنها أفظع من يجثم على حرية شعوبها، وظهر ذلك جلياً مع ما دعي بـ "الربيع العربي" منذ أواخر سنة 2010.
لقد سقطت كل الإيديولوجيات العربية الإسلامية عند الامتحان، فلا القوميون، ولا الماركسيون ولا الاشتراكيون عموماً، ولا الإسلاميون، ولا الليبراليون استطاعوا أن يعطوا مثالاً ناصعاً وناجحاً يُحتذى به. إن التعددية الثقافية والسياسية هي سبيل نجاتنا، ويمكن اعتبار النموذج التونسي في التغيير النموذج الرائد لحدِ الآن، رغم التحديات الكبيرة التي ما تزال تواجهه.
بعد حوالي ستة قرون من الركود الثقافي والسياسي، منذ القرن الثالث عشر إلى بداية القرن التاسع عشر، وبعض المؤرخين يزيدون أو ينقصون في المدة الزمنية، ما يزال العالم العربي الشعبي أو العامي يعتقِد إما أن ثقافته ما تزال رائدة وقابلة للحياة كما كانت، أو أنها انتهت ولا يمكنها أن تسعفنا في حياة مستقبلية أفضل. إن كِلا التوجهين مخطئ، لأنهما بإيجاز ينفيان العاملَ التاريخي من فهمهما لمعنى الثقافة والسلطة والمجتمع.
لا يمكن لثقافة ما أن تستمر أسسها في تسيير المجتمع والتأثير فيه وفي المجتمعات خارجه على طول الزمن التاريخي، لأن الثقافات تنهض، وتضعف، وتزول أو تتغير، مهما كانت مرتبطة بكتاب مقدّس معين، كالقرآن الكريم مثلاً، أو بكتب فلسفية وعلمية عظيمة، كالتراث اليوناني القديم، أو التراثات الصينية أو الهندية أو الفارسية قبلها. مع مرور الزمن، الثقافات إما تموت وإما تتغير. ونريد من الثقافة العربية أن تتغير لتبقى.
لا يجوز أن نلوم علماء الدين الكلاسيكيين على المشاكل التي يواجهها العرب والمسلمون حالياً. لا يمكن عقلاً أن نطلب من الغزالي أو ابن تيمية أو ابن رشد أن يحلّوا لنا مشاكل اجتماعية - دينية لم يكن لهم أن يتخيّلوها أو يفكروا فيها، فالعالم الحديث مختلف، مختلف جداً. ونفس الشيء يقال عن علماء الطب والفيزياء والكيمياء، الخ. وما يقال عن العلماء العرب المسلمين يقال عن الإغريق مثلاً. فأرسطو تم تجاوزه على كل الصعد، الفلسفية، والمنطقية، والعلمية منذ قرون، منذ عصور النهضة الأوروبية وما تبعها من تطورات.
المسألة هي كيف نجعل تراثنا معاصراً لنا، كما قدمَ لذلك مفكرون وفلاسفة عرب معاصرون كثر، ولكي نجعله معاصراً لنا فلا بد أن نفهم العصر وفلسفاته. أما أن نجعله معاصراً لنا بدون نقد وتغيير فذلك معناه أن نعيشه كما كان عاشه مؤسسوه العرب والمسلمون الأوائل، وهذا بدوره معناه أننا ناقلون للماضي وعاجزون عن فهم الحاضر والمشاركة فيه. المشكلة إذن مشكلتنا نحن المعاصرين، وليست مشكلة العرب الأولين. فهم كانوا مجتهدين ومعاصرين لعصرهم، أما نحن فلا نحن عاصرناهم – وهو غير ممكن لأننا زمنياً خَلَفُهم - ولا عاصرنا معاصرينا الذين يصنعونه ويؤثرون فيه، أي الغرب.
إننا نعيش العصر بدون "عصرنة"، ونعيش الحداثة "بدون حداثة". والأسوأ من كل هذا أن فينا من يرجع للماضي والتراث العربي الإسلامي الكلاسيكي اللامع ويلومه على ما نحن فيه، فيضيف عجزاً على عجز، وهو أشد أنواع الظلم، ففيه ظلم للماضي والحاضر، للتراث والحداثة معاً، وهذا ما يتخبط فيه بعض الإيديولوجيين القوميين و"العِرقِييِن" – من العِرق، إن صح التعبير- الذي أود تركيز باقي الحديث في نقد بعض أفكارهم.
كلما وقع تلاسن سياسي بين بعض الأقطار العربية في المشرق والمغرب، أو داخل المشرق ذاته أو داخل المغرب (العربي) ذاته إلا وخرجت مقالات صحافية أو تغريدات وطنية تضرب في المشترك الثقافي بين المجتمعات في هذا المجال التداولي العربي من الخليج إلى المحيط أو من المحيط إلى الخليج.
هنا علينا أن ننتبه إلى نقاط عديدة؛ على سبيل المثال، إذا أخذنا النموذج الأوروبي، هل عندما نسمع تلاسناً بين السياسيين الفرنسيين والإيطاليين، أو بين إيطاليين وألمان، أو بين إنكليز وفرنسيين، هل يضربون تراثهم الكلاسيكي القديم بالحَجَر؟ هل يرجعون للقرون الثقافية ليلوموها على اختلافاتهم السياسية والثقافية الحالية؟ هل يلومون الإغريق على ذلك؟ طبعاً لا، لأن ذلك مشترك ثقافي ذهبي، ينتقده الباحثون الأكاديميين بعقل وتعقل، ولا يجعلونه مرمى حجر كل من تعلم حرفاً يكتبه على فيسبوك لِيَسُب به الآخر.
الثقافة العالمة تُحترم. نفس الشيء يجب أن يقال عن ثقافتنا العربية الكلاسيكية. إنها ذَهبُنا الثقافي، المكدس في المكتبات والجامعات العالمية، والتي ما تزال تتدارسها وتنفق عليها ملايين اليوروهات والدولارات لمزيد من دراستها، في كل المجالات، من فلسفة، وعلوم دين، ومنطق، وعلوم رياضية وطيبة، وأدبية، وشعرية، إلخ. لقد أصبحت إرثاً إنسانياً، وليس عربياً فقط، لأنه موجود في مكتبات وجامعات العالم، وبكل اللغات الكبيرة والصغيرة. وكل جهلٍ به فذلك مشكل صاحبه!
عندما يتم الحديث عن اللغة العربية وثقافتها فإنه لا يتم الحديث عن العرق العربي، بل عن المنتوج الثقافي الذي كُتب بالعربية، وقد كتبه عرب، وفرس، وأمازيغ، وأكراد، وعثمانيون، وهنود، وعرب مسيحيون وعرب يهود، وعرب غير مؤمنين، إلخ. لم تكن الثقافة العربية عرقية إجمالاً، ولو أنه كانت هناك تجاوزات سياسية تاريخية لعبت فيها بعض الأسر العربية الحاكمة دوراً مهماً. هكذا يشتغل التاريخ.
هل كل الأوروبيين الحاليين كتبوا الفلسفة مثلاً، أم أن بعض المجتمعات كتبت أكثر؟ الألمان كتبوا أكثر من الإسبان مثلاً. وهل كل الدول تصنعت في نفس الوقت؟ أو كلها تبنت حقوق الإنسان في نفس الوقت؟ لا. كانت هناك تجاوزات من قبل بعض المجتمعات في السياسة، والبعض الآخر في الصناعة، والبعض الآخر في الفنون والآخر في الفلسفة، حسب تقلّب الظروف التاريخية المختلفة. لكن كلها أنتجت تراثاً أوروبياً حديثاً. نفس الشيء يقال عن الحضارة العربية الكلاسيكية. بعض المجتمعات أو الجغرافيات أنتجت أكثر من أخرى، وبعضها الآخر أنتج في مجال معين أكثر مما أنتج في مجال آخر، إلخ، ومع ذلك الكل يدخل في إطار الثقافة العربية العالِمة.
بمعنى آخر، كفى من ربط التخلف العربي الحاضر دائماً بحالات سياسية تاريخية ترجع لقرون مضت، ونسيان أن الدول يمكن أن تتطوّر في العصر الحديث في غضون خمسين عاماً فقط أو في أقل من ذلك، ولنا أمثلة عدة من اليابان، والصين، وكوريا الجنوبية، وماليزيا، وتركيا، وإسبانيا.
نعم، هناك مشاكل ثقافية كبيرة في الثقافة العربية المعاصرة، ولكن لا يجب إسقاط مشاكل اليوم على التاريخ الثقافي كله. لا يجوز عقلاً وعلماً. يجب التحدث بمنطق البحث العلمي الذي يُرجع أسباب التقدم والتخلف لأسباب كثيرة متراكمة. وإذا كان الكردي أو الأمازيغي يريد أن يتحدث باسم قوميته العرقية حالياً، فذلك شأنه، وهو حر، ولكن لا يجب أن يُنكر أن تاريخ الأكراد والأمازيغ - وغيرهم طبعاً - ينتمي للثقافة العربية العالِمة، فبها كتب أجدادهم الكتب الكثيرة في كل التخصصات، والتي غالباً ما لم يقرؤوها، أو قرؤوها واختاروا أن يكتبوا ضدها أو أن يمحوها من الذاكرة بسبب توجهات إيديولوجية غير ثقافية. لا أعتقد أنه يمكن محو حوالي خمسة عشر قرناً من الكتابة والثقافة لتغييرها بثقافة جديدة بدون تاريخ، بدون أرشيف.
ومن أخطر مظاهر التكنولوجيا حالياً أن أصبح سهلاً ضرب الثقافة عموماً في بضعة أسطر في تدوينة قصيرة. إن التغيير يحتاج لمعرفة تراكمية عميقة تُنشر في الكتب وتناقش في الجامعات والندوات، وليس في مقالات صحافية شعبوية قد تقوِّض الثقافات المحلية والإقليمية دون أن تستطيع الدخول لعالم العولمة حقيقة. إذا لم تكن صاحب أرشيف ضخم في الثقافة فلا أحد سيحترمك اليوم ولا غداً.
وأخيراً، لا بد من الدفاع عن اللهجات واللغات المحلية، لكن اللغة التي تقوّي الجماعة أفضل بكثير من تلك التي تضعفها، والثقافة التي كَدست تراثاً إنسانياً ضخماً، وهو في يدنا، أفضل من ثقافة محلية لم تنتج فكراً فلسفياً وأدباً عالمياً. لكلِ منتوج ثقافي مكانته ومكانه: العالمي للعالم، والمحلي للمحلي. وقد تعايش دائماً هذا المزيج الثقافي، فلِمَ الضجر الآن؟
* باحث مغربي مقيم في إيطاليا