01 فبراير 2019
نحو تفكيك القطاع العام "السياسي"
يطرح تنويه ملك المغرب، محمد السادس، في خطاب العرش قبل أيام، بالقطاع الخاص، أسئلةً بشأن إشكالية الليبرالية الاقتصادية في المغرب، وكذلك عن علاقتها بنصفها "الآخر"، أي الليبرالية السياسية. هل هذا التنويه يعني أننا قد ننتقل إلى حالة تحرير نموذجي للحقلين، الاقتصادي والسياسي؟ وهل سيعني تحرير الحقل السياسي رفع يد الدولة عن اللعبة السياسية؟
في بداية التسعينيات، كانت قد برزت أطروحة "اللبرلة"، والتي دافعت بتفاؤل عن فرضية تبعية التحرير السياسي لعملية التحرير الاقتصادي، لكن اتضح فيما بعد أن الأمور أكثر تعقدا.
ويقتضي الحديث عن الليبرالية السياسية في المغرب الحديث عن أزمة مشروع وأزمة فكرة وأزمة تنظيم، وهو ما يحيل إلى أزمة اليمين المغربي غير المستقل عن الدولة.
كما يقتضي الحديث عن طبيعة الدولة، وعلاقة الاقتصادي بالسياسي، قبل طرح بعض الخلاصات المؤقتة لموضوع شائك.
من شأن النقاش بشأن أفضلية القطاع الخاص على القطاع العام، من قلب المؤسسة المركزية للدولة، أن يعيد إلى الواجهة النقاش حول الليبرالية، وهو نقاش مهم، لأنه قد يشكل فرصةً لطرح أسئلة ضرورية في الموضوع عن طبيعة الدولة، وعن "تمنع" استنبات الفكرة الليبرالية في السياق الثقافي والسياسي، ثم عن حالة اليمين المعبر سياسيا عن هذه الحساسية الأيديولوجية. والليبرالية المغربية لا تزال حبيسة أزمتها المركبة، أزمة بوجوه ثلاثة: أزمة
الدولة الليبرالية، وأزمة الحزب الليبرالي، وقبلهما أزمة الفكرة الليبرالية. فإذا كانت الأخيرة قد شكلت الجواب الحاسم الذي قدّمه الفكر العربي المعاصر في الشرق، جوابا عن صدمة الحداثة، حيث بدأ هذا الفكر ليبيراليا بالأساس من خلال كل الأسماء التي أرّخت للإصلاحية العربية، انطلاقا من أعمال رفاعة الطهطاوي، ومجايليه وتلامذته، وصولا إلى لطفي السيد وطه حسين، حيث تبارزت الليبرالية والسلفية، وتناظر معسكراهما حول سبل الخروج من التخلف، فإن الحالة المغربية، سواء في الفكر الإسلامي، أو الوطني في ما بعد، لم تعش هذا التناظر الخلاق، إذ تجاورت فكرتا السلفية والحرية في الخطاب نفسه، كما في نصوص الحجوي، أو علال الفاسي، وقد أثّر هذا التجاور بالتأكيد على وضع الليبرالية ضمن فكر مغربي ظل أسيرا للتقليد.
لم تشكل الدولة قط نموذجا لدولة ليبرالية، إذ حافظت على آليات تحكم "الحماية" وطعّمتها بثقافة ما قبل الإستعمار، ليحصل على هوية هيمنية وتحكّمية وتدخلية، بعيدا عن أي "حياد موضوعي"، كما في وصفات كلاسيكيات الدولة الليبرالية. وحتى عندما بدا، في نهاية الثمانينيات، أن أزمة الموارد تضغط بقوة في اتجاه تجاوز نموذج الدولة "غير الطبيعية"، اعتقد بعضهم أن مسلسل التخصيص والتحرير الاقتصادي وتفكيك القطاع العام سيؤدي، لا محالة، بالدولة المغربية إلى أن تعيش ما يشبه "التخسيس" القاسي الذي قد يمكّنها من الوصول إلى ضفة نادي الدولة الليبرالية، اعتقاد تفنده اليوم دراسات وأبحاث عديدة تقف على حقيقة جوهر الدولة الذي لم يتغير، إذ لم يسهم مسلسل التحرير سوى في إعادة انتشارٍ للدولة التي تقوّت وظيفيا، واستمرت متحكمةً في مسلسل إعادة الإنتاج الاجتماعي والاقتصادي، بعيدةً عن أن تصبح "دولة عادية" بوظائف عادية، وهو ما يجعل الدولة المغربية في حالة تحوّل ليبرالي معاق، يؤكده ترتيب المغرب في تقرير الحرية الاقتصادية، منذ أعوام متتالية.
ثم ماذا عن اليمين المغربي؟ إنه ليس بعيدا عن هذا التحليل. عملت الدولة على إيجاد بورجوازيتها بسياسات عمومية إرادية، بدءا من المغربة، وليس انتهاء بالتخصيص، وظلت تحمل فوق رقبتها سيف "الأبوة"، مهدّدة إياها بحملات تطهير ليست من الليبرالية بشيء. لذلك ظلت بعض العقول الأمنية تصر على التخويف من استقلالية يمين سياسي، مثل ما تعمل على التخويف من استقلالية قطاع خاص، لا تريد خروجه من جبّة الدولة. ربما لذلك كان الحديث عن الحاجة إلى يمين مغربي حقيقي، مطلبا دائما لليسار، بالأمس كما اليوم، يمين يعبر عن
مصالح، وعن قيم موجودة داخل المجتمع، ويعيد الاعتبار للتراث الليبرالي الذي كاد يصبح احتكارا يساريا في المغرب. أليس اليسار هو الذي دافع عن ثقافة حقوق الإنسان، وعن فكرة الدستور وفصل السلطات ودولة القانون؟
ما هي خلاصات كل هذا التحليل المتقاطع، على ضوء الحديث عن القطاع الخاص؟ الفكرة الأساسية أن أحزاب الإدارة شكلت، في التجربة السياسية المغربية، نوعا من "القطاع العام السياسي" الذي يضمن حضور الدولة في الحقل الحزبي بحجج حضورها نفسها عبر القطاع العام في الحقل الاقتصادي:
عجز القطاع الخاص عن تحمل المسؤولية في التنمية، خصوصا في قطاعات ذات حساسية إستراتيجية، أو تقتضي دورة اقتصادية طويلة. الدور التاريخي للدولة في التأهيل الاقتصادي (والسياسي)، أمام مجتمع متأخر. ومن هنا، فرضية التسييس من فوق، والتدخل الدولتي "الطلائعي" لقيادة التحديث. (تكرّر هذا الخطاب كثيرا آخر مرة عام 2008).
هل يمكن الرهان على تفكيك القطاع العام السياسي، بما يعني من ليبرالية سياسية، وتحرير للحقل السياسي من كل أشكال تدخل الدولة: الاحتكار، التحكم، الضبط..؟ ليس الجواب بسيطا، لأنه يتعلق بما كان يسميه الراحل عبد الرحيم بوعبيد "تأميم الدولة"، والذي يعني حياديتها وأخذها المسافة نفسها تجاه الفاعلين الحزبيين، والابتعاد عن جميع أشكال "تحزيب الملكية". هل هذا الأمر ممكن من دون ملكية برلمانية؟ تلك هي المسألة، وذلك هو السؤال.
في بداية التسعينيات، كانت قد برزت أطروحة "اللبرلة"، والتي دافعت بتفاؤل عن فرضية تبعية التحرير السياسي لعملية التحرير الاقتصادي، لكن اتضح فيما بعد أن الأمور أكثر تعقدا.
ويقتضي الحديث عن الليبرالية السياسية في المغرب الحديث عن أزمة مشروع وأزمة فكرة وأزمة تنظيم، وهو ما يحيل إلى أزمة اليمين المغربي غير المستقل عن الدولة.
كما يقتضي الحديث عن طبيعة الدولة، وعلاقة الاقتصادي بالسياسي، قبل طرح بعض الخلاصات المؤقتة لموضوع شائك.
من شأن النقاش بشأن أفضلية القطاع الخاص على القطاع العام، من قلب المؤسسة المركزية للدولة، أن يعيد إلى الواجهة النقاش حول الليبرالية، وهو نقاش مهم، لأنه قد يشكل فرصةً لطرح أسئلة ضرورية في الموضوع عن طبيعة الدولة، وعن "تمنع" استنبات الفكرة الليبرالية في السياق الثقافي والسياسي، ثم عن حالة اليمين المعبر سياسيا عن هذه الحساسية الأيديولوجية. والليبرالية المغربية لا تزال حبيسة أزمتها المركبة، أزمة بوجوه ثلاثة: أزمة
لم تشكل الدولة قط نموذجا لدولة ليبرالية، إذ حافظت على آليات تحكم "الحماية" وطعّمتها بثقافة ما قبل الإستعمار، ليحصل على هوية هيمنية وتحكّمية وتدخلية، بعيدا عن أي "حياد موضوعي"، كما في وصفات كلاسيكيات الدولة الليبرالية. وحتى عندما بدا، في نهاية الثمانينيات، أن أزمة الموارد تضغط بقوة في اتجاه تجاوز نموذج الدولة "غير الطبيعية"، اعتقد بعضهم أن مسلسل التخصيص والتحرير الاقتصادي وتفكيك القطاع العام سيؤدي، لا محالة، بالدولة المغربية إلى أن تعيش ما يشبه "التخسيس" القاسي الذي قد يمكّنها من الوصول إلى ضفة نادي الدولة الليبرالية، اعتقاد تفنده اليوم دراسات وأبحاث عديدة تقف على حقيقة جوهر الدولة الذي لم يتغير، إذ لم يسهم مسلسل التحرير سوى في إعادة انتشارٍ للدولة التي تقوّت وظيفيا، واستمرت متحكمةً في مسلسل إعادة الإنتاج الاجتماعي والاقتصادي، بعيدةً عن أن تصبح "دولة عادية" بوظائف عادية، وهو ما يجعل الدولة المغربية في حالة تحوّل ليبرالي معاق، يؤكده ترتيب المغرب في تقرير الحرية الاقتصادية، منذ أعوام متتالية.
ثم ماذا عن اليمين المغربي؟ إنه ليس بعيدا عن هذا التحليل. عملت الدولة على إيجاد بورجوازيتها بسياسات عمومية إرادية، بدءا من المغربة، وليس انتهاء بالتخصيص، وظلت تحمل فوق رقبتها سيف "الأبوة"، مهدّدة إياها بحملات تطهير ليست من الليبرالية بشيء. لذلك ظلت بعض العقول الأمنية تصر على التخويف من استقلالية يمين سياسي، مثل ما تعمل على التخويف من استقلالية قطاع خاص، لا تريد خروجه من جبّة الدولة. ربما لذلك كان الحديث عن الحاجة إلى يمين مغربي حقيقي، مطلبا دائما لليسار، بالأمس كما اليوم، يمين يعبر عن
ما هي خلاصات كل هذا التحليل المتقاطع، على ضوء الحديث عن القطاع الخاص؟ الفكرة الأساسية أن أحزاب الإدارة شكلت، في التجربة السياسية المغربية، نوعا من "القطاع العام السياسي" الذي يضمن حضور الدولة في الحقل الحزبي بحجج حضورها نفسها عبر القطاع العام في الحقل الاقتصادي:
عجز القطاع الخاص عن تحمل المسؤولية في التنمية، خصوصا في قطاعات ذات حساسية إستراتيجية، أو تقتضي دورة اقتصادية طويلة. الدور التاريخي للدولة في التأهيل الاقتصادي (والسياسي)، أمام مجتمع متأخر. ومن هنا، فرضية التسييس من فوق، والتدخل الدولتي "الطلائعي" لقيادة التحديث. (تكرّر هذا الخطاب كثيرا آخر مرة عام 2008).
هل يمكن الرهان على تفكيك القطاع العام السياسي، بما يعني من ليبرالية سياسية، وتحرير للحقل السياسي من كل أشكال تدخل الدولة: الاحتكار، التحكم، الضبط..؟ ليس الجواب بسيطا، لأنه يتعلق بما كان يسميه الراحل عبد الرحيم بوعبيد "تأميم الدولة"، والذي يعني حياديتها وأخذها المسافة نفسها تجاه الفاعلين الحزبيين، والابتعاد عن جميع أشكال "تحزيب الملكية". هل هذا الأمر ممكن من دون ملكية برلمانية؟ تلك هي المسألة، وذلك هو السؤال.