في أواخر الثمانينيات، كان للكاتبة الصينية شينران برنامج إذاعي اسمه "كلمات على نسيم الليل". كان بمثابة منصة مفتوحة على الهواء، تشارك فيه النساء بأصواتهن، عبر الهاتف، ليروين قصصهنّ البائسة من مختلف أصقاع الصين.
كان ذلك النوع من البرامج قد أصبح ممكناً إلى حد ما، في ذلك الوقت، بعد أن قرر دنغ شياوبينغ عام 1983، وضع خطة لتحديث الصين وإن بشكل بطيء، وجعلها بلداً منفتحاً، لكن تحت مظلة الحزب الحاكم.
لم تكن شينران تعلم أي مسار سيأخذه برنامجها هذا، وأين سيودي بها وبالمرأة الصينية عموماً. فالإعلام كان لا يزال في قبضة الشيوعيين، والقيم الاجتماعية تفرضها الدولة.
كما أن موروثات تتعلق بالديانات القديمة في الصين، والأساطير والحكايات الشعبية المقدسة والمتواترة جيلاً بعد جيل، والتعاليم الكلاسيكية فيما يخص طاعة المرأة لأبيها ثم زوجها ثم ابنها ثم حرّاس الثورة، تمثل عهوداً تُلزم المرأة الصينية على وضع ذكرياتها داخل صندوق مغلق.
كل حكاية أو قصة شخصية كانت بمثابة نقض سافِر لهذه العهود، وكان بإمكان أية واحدة منها أن تكون ضربة قاضية تنهي مسيرة شينران كإذاعية وربما تضعها في السجن أو تُهدد حياتها.
إن كثيراً من تلك القصص تعرّي نمطاً مجتمعياً ساهم الحزب الحاكم بنفسه في تكوين ملامحه، تحت ذريعة حماية الثورة. كما يمكن أن تتضمن أثراً قوياً لإحدى شخصيات الدولة المهمة أو الأقل أهمية من جنود وضباط وإداريين حزبيين، نظراً لتغلغل السلطة عميقاً في الشأن الحياتي العام.
من هنا، يمكن القول إن كتاب "نساء من الصين، قصص وأسرار" (دار الساقي، ترجمة ميشلين حبيب) يطالعنا بمغزى جميل، وهو أننا لو وضعنا كل مشاكل النساء في مجتمع ما، في صورة جماعية فإنها ستكون نيغاتيفاً دقيقاً يعكس النظام الذي يحكم هذا المجتمع. صورة تتألف من نتف لسير طويلة وشائكة لنساء عانين نتائج الاضطراب السياسي والامتيازات البطريركية، وصودر حقهن حتى في ممارسة خياراتهن العاطفية والحميمة.
الكتاب الذي يفترض به أن يكون تسجيلياً، أخرجته شينران من التوثيق الصحافي إلى الفن القصصي. إذ تفاعلت عاطفياً في كل فصل مع النص المسرود، كما لو أنها تكشف كيف تلقته لا كيف رُوي لها. أما النساء اللواتي تتّحد أصواتهن في الألم والجوع والكارثة الطبيعية والسجن، فيظهرن دوماً بصيغة واحدة تقريباً: أنثى تصارع لتمزّق ظلّها وتخرج من داخله.
والكتاب بذلك يصير شكلاً قريباً من الرواية، يربط بين شخصياتها نسيج واحد، ويبدو النظام أو الرجل أو الضابط العسكري شخصية قارّة فيها. إحدى القصص تبدأ بأن تستلم شينران طرداً بريدياً يحتوي رسالة، وعلى ظهره ريشة دجاجة. في التقليد الصيني، الريشة تعني نداء استغاثة. ونداء الاستغاثة هذا سيلازم قصص الكِتاب. ففي كل قصة، سنشعر بوجود ريشة الدجاجة تلك مدسوسة بين الكلمات.
تبدو الثورة الصينية إذن، ونتاجُها مُدانين، على ألسنة نساء تنعكس صورتهن الرثة في أوضاع مقيتة ومؤلمة، من تضحية أم "عاملة نظافة" من أجل ابنها رجل الأعمال المرموق، إلى موت ابنة اعتدى عليها والدها جنسياً.
شينران بدورها تخرج في القصص من صورة مذيعة مجهولة الصورة، ومعزولة في استوديو، لتدسّ نفسها في حيوات الأخريات وتصبح شخصية تستفز الأحداث والأسرار، مدفوعة بفضولها الصحافي.
هذا الخلط للأصوات في كتابات شينران، احتفت به دار "فينتج" الإنجليزية بإصدار رواية قصيرة لها بعنوان "مدفن السماء" تابعت فيها قصة امرأة صينية تبحث منذ ثلاثين عاماً عن زوجها الذي ذهب كجندي طبيب إلى الحرب في التيبيت ولم يعد. هنا، تقدّم شخصية امرأة أخرى تتحدث في الشأن التيبيتي المحظور في الصين أيضاً.