07 نوفمبر 2024
نساء وزيرات برئاسة شبح
تجدّدت الحكومة في لبنان أخيراً. حسّان دياب، المكلَّف بتشكيلها، قال إنه استجاب بذلك لمطالب "الحِراك"، أي الثورة، فيما حاضنها، أي حزب الله، وصفها "حكومة إنقاذ"؛ أي "حكومة اللون الواحد". ولم يعارضها أي من الناخبين الإقليميين والدوليين، الأكثر "واقعية" من الجميع. إذ يفهمون أن اللحظة تستوجب "الانتظار": انتظار ما سيحلّ بالكِباش الإيراني - الأميركي، حتى "يُبنى على الشيء مقتضاه".. علما ً أن لا شيء في بلادنا "نهائي". كل شيء مهتزّ، رجْراج. لا يخضع لإرادتنا، إنما لـ"الموازين" الحاكمة لما حولنا، بعيدة كانت أم قريبة. المهم أن أصحاب الموازين هذه، الساهرين علينا "فاهمين، مسْتحسنين"، فالأسماء المختارة للوزارة الجديدة، "تكنوقراطية"، غير معروفة، غير مجرَّبة. والأهم من ذلك كله أنها حكومة ثلثها من النساء. أي ست وزيرات من أصل عشرين، فكان استقبال هذا الإنجاز الجندري تسديداً موفّقاً في ملعب "المجتمع الدولي". بعدما صارت "الكوتا النسائية" في الحكم واحدةً من مطالبه، بل من أيديولوجيته الصارمة. وما زاد من الجاذبية "الدولية" هذه أن إحدى الوزارات السيادية كانت أيضا من حظ امرأة، فكانت الكلمات التي تريدنا أن نُلْدغ أكثر من مرة، وتمنيات بالتوفيق بعد إعطاء الفرصة.. إلخ.
مساعد الوزير الأميركي، ديفيد شينكر، مثلاً، لم يعارض هذه الحكومة الجديدة. وكمن أضناه الأرق على مصالحنا، أعلن أن بلاده ستتابع "عن كثب" ما إذا كانت الحكومة الجديدة "ملتزمة بمحاربة الفساد وإخراج البلد من أزمته المالية"، فيما دعا المنسق الخاص للأمم المتحدة في لبنان، يان كوبيتش، اللبنانيين إلى "فهم" الهدية هذه، فغرّد: "لا تدعوا الاعتبارات السياسية تطمس إنجازًا إيجابيًا كبيرًا: وجود ست نساء في الحكومة، أي 30%، وامرأة للمرة الأولى نائبة لرئيس الوزراء ووزيرة للدفاع. ساعدوهن على النجاح واحكموا عليهن من خلال نتائجهن". وكأن المطلوب من المسؤولَين أن يلعبا، في هذه اللحظة، أدوار السذج المغفَّلين.. هذا ما يفعله "الانتظار" أحياناً.
كان جمهور مواقع التواصل أول من تحمّس للوزيرات الجديدات. نبشَ في الشبكة، فوجد فيها صوراً "فاضحة"، قال إنها تعود إلى هذه الوزيرة أو تلك. وراح يمارس هوايته المفضلة في
التنمّر: انظروا إلى الخلاعة، والعري، والجمال، والصبا...! هل تليق بوزيرات؟ هل تكون الوزيرة خريجة كباريه؟ إلى ما هنالك من نيران أشعلت الشبكة بكمّ هائل من التعليقات والصور. ما منحَ الوزيرات المعيّنات فرصة لعب أول أدوارهن: نافيات، مستنكرات، لما نال من سمعتهن. فكانت إطلالات "محترمة"، منحتهن صكّ الحصافة والرزانة. هذه الهبّة لم تدم طويلاً. إذ عاد العقل والتمحيص في الوزيرات، وفي آلية تعيينهن، فكتبت أشياء أخرى، تستأهل الانتباه.
أولاً: الرئيس المكلف، المُمَوّه، كان مطلوباً منه أسماء تشبهه، متخفّية، لا تنتمي صراحةً إلى هذا أو ذاك من الأحزاب الحاكمة، الحليفة لحزب الله. ولكن، أيضاً، أن لا تكون مستقلّة، كما يكون المستقلّون. فكان الاختراع المنْبعث مجدّداً: وزراء "محسوبين" على واحد من تلك الأحزاب. أي أن الوزيرة الجديدة، مثل الوزير الجديد، أُسندت إليها الحقيبة بناء على هذه المحسوبية. وبهذه الحالة، لن يكون في مقدورها الخروج عن طاعة من كانت "محسوبةً" عليه. أي أن الفرق بينها وبين "الحزبي" الصريح هو فرق بالدرجة. ستكون أضعف منه، لأنها لا تملك الأقنية الموصِلة إلى مركز قرار الحزب الذي أنعم عليها بمنصب الوزارة. والممارسات السابقة لتلك الأحزاب لا تَشي بغير ذلك. الوزيرة التي من حصّة هذا أو ذاك من الأحزاب كان يمكن أن تكون وزيراً رجلاً، ولا يختلف منطق "المحسوبية" الحاكم لأدائها عن منطق المحسوبية الممْسك بأدائه.
شيء آخر: الحزبان الأقوى الصانعان لهذه الحكومة شبه النسائية، هما من أكثر الأحزاب اللبنانية المعادية لحقوق المرأة اللبنانية، ولما رفعته الثورة من مطالب تخصّ اللبنانيات، فحزب الله معاد للكوتا النسائية بكل جوارحه الأصولية. أعلنها عدة مرّات صراحةً. وهو فوق ذلك حزبٌ رجعي، ديني، مذهبي. عنده المحاكم الشرعية الظالمة للنساء أمرٌ من صميم الشريعة الدينية التي يعتمدها. بل هو تخلّى عن أحد نوابه في البرلمان، نواف الموسوي، بعدما وقف الأخير بشراسة ضد محكمةٍ دينية، وثيقة الصلة بالحزب، هدرت حقوق ابنته بحضانة أطفالها. وهو لم يتكلم، لم يعلق على شريكه الاستراتيجي، جبران باسيل، صاحب الحزب العوني، والرافض كلياً منح الجنسية اللبنانية لأبناء الأمهات اللبنانيات المتزوجات من غير لبنانيين. حاول باسيل أن يراوغ في المسألة بأن يمنحها لأبناء اللبنانيات المتزوجات من غير العرب، سوريين وفلسطينيين، لكسب الوقت ربما، أو لتمييع الموضوع. فيما لم يُعرف عن هذا الشريك العوني اهتماماً خاصا بقوانين الأحوال الشخصية المنظمة لمراحل حياة اللبنانيات المسيحيات. طالما نتكلم عن اختصاصات طائفية - مذهبية....
والحال أن الثورة، بجانبها النسوي والنسائي، انكبّت على هاتين النقطتين بالذات: الجنسية
والأحوال الشخصية. والوزيرات كلهن معْنياتٌ بهاتين النقطتين، طالما أننا نحتفل، مع "المجتمع الدولي"، بإنجاز بلوغهن ثلث الوزارة. ثلث الوزارة يعني أنهن قادرات على فرض أي أجندة، ومنها النقطتان السابقتان، الناضجتان نضوحاً لا يُحتمل. هل تفعلن؟ أم تكون محسوبيتهن على هذا أو ذاك من الأحزاب الحاكمة، ضرورة "براغماتيكية" للتنصّل من مهمة الخوض في هاتين النقطتين؟
شيء من الجواب نجده في سير الوزيرات الجديدات. إنهن بالمصاهرة، أو بالعلاقات "الحميمة" الناظمة لحياة الطبقة الحاكمة، ينتمينَ إلى المجتمع الخلفي، الضامن لاستمرار هذه الطبقة. وهن لا يختلفن، منذ طلّتهن الأولى، في طريقة تقديم أنفسهن، عن الطريقة السائدة وسط هذه الطبقة. واحدة منهن هي زوجة رجل أعمال تلاحقه تهم الفساد، والتعدّي على الأملاك العامة والخاصة، وكاد يوماً أن يصبح وزيراً، لا بل رئيساً للوزراء، ممثلا للطرف عينه، الدائر في فلَك حزب الله. والوزيرة الثانية نالت وظيفتها العليا، وتمتعت برعايته و"غطاء" قطب طائفي، تعلن أنها مدينة له. والثالثة يلاحقها الآن ملف قضائي، ينطوي على تهمة إهدار أموالٍ ممنوحةٍ من الاتحاد الأوروبي. فيما لدى الأخريات شركات أو مكاتب أو جمعيات خاصة، تُعنى بالربح، المادي أو المعنوي، ومزدهرة في زمن الشحّ والركود.. أي أننا أمام نوعيةٍ من النساء لن تشاهدها واقفة أمام الآلة مرة في الأسبوع، لتشحذ من مالها مائة دولار، إلا لالتقاط صورة "التواضع".. فيما تصريحاتهن الأولى تشبه تصريح الرئيس المكلّف الذي سمّاهن. الأولى، زوجة المتَعدّي على الأملاك البحرية، لم يرمشْ لها جفنٌ في أول تصريحاتها، حين قالت: "إن محاربة الفساد واسترداد الأموال المنهوبة هي من أولوياتي". اثنتان ركّزتا على "الشفافية" في العمل. الأخرى التي أكّدت أنها من "صفوف الثوار" أصرّت، في الآن عينه، على القول إن "الحرية يجب أن تكون مسؤولة".
طبعاً، ثمّة من سيتحجّج بـ"الشهادات" الجامعية الثقيلة التي تحملها كل وزيرة، وبالخبرة المهنية،
ناسياً أن النساء في هذا الزمن بتن أقرب نيلاً للشهادات من أي وقت مضى، بل يحملن الشهادات أكثر من الرجال، بحسب إحصاءاتٍ على أنواعها. وتقدير الشهادات بهذا العيار والمعيار يعني أننا ما زلنا نعيش الزمن الذي كانت فيه شهادة المرأة غالية ونادرة. من يتذكّر أولى "الدكتورات"، بعدما كان القياس، أولى حاملات شهادة الابتدائية، ثم المتوسطة..؟
ولكن ثمّة مفارقة تحكم مسار النساء "التعليمي"، إذا جاز التعبير. في الزمن القديم، عندما بدأت تطلع امرأة متعلمةٌ في المحيط، الواسع، أو الضيق، كان يُقال إن "المتعلمة" هذه ستكون خير نبراسٍ للنساء، مدافعة عن حقوقهن البازغة، تشقّ لهن الطريق. وكان يرافق هذا الإطراء انتقاص من قيمة "غير المتعلّمة"، لأنها حتماً تقف إلى جانب الذكور، تحمي نظامهم، وتدافع عن امتيازاتهم. اليوم، تمدّدَ وضع النساء التعليمي، وبات يمكن إيجاد، بين المتعلمات صاحبات الشهادات العليا، من هن مستعدّات للدفاع عن نظام الذكور وامتيازاتهم، أو على الأقل، إغفال حقوق جمهور النساء، حفاظاً على امتيازاتهن.
ومع انقلاب وظيفة المتعلّمات، ينقلب أيضاً، ومرة أخرى، شعار الثورة من أنها، أي الثورة، "أنثى". إذ كما يبدو، ومن البداية مع الحكومة الأنثوية هذه، أن الثورة المضادة، أيضاً وأيضاً، يمكن أن تكون أثنى.
كان جمهور مواقع التواصل أول من تحمّس للوزيرات الجديدات. نبشَ في الشبكة، فوجد فيها صوراً "فاضحة"، قال إنها تعود إلى هذه الوزيرة أو تلك. وراح يمارس هوايته المفضلة في
أولاً: الرئيس المكلف، المُمَوّه، كان مطلوباً منه أسماء تشبهه، متخفّية، لا تنتمي صراحةً إلى هذا أو ذاك من الأحزاب الحاكمة، الحليفة لحزب الله. ولكن، أيضاً، أن لا تكون مستقلّة، كما يكون المستقلّون. فكان الاختراع المنْبعث مجدّداً: وزراء "محسوبين" على واحد من تلك الأحزاب. أي أن الوزيرة الجديدة، مثل الوزير الجديد، أُسندت إليها الحقيبة بناء على هذه المحسوبية. وبهذه الحالة، لن يكون في مقدورها الخروج عن طاعة من كانت "محسوبةً" عليه. أي أن الفرق بينها وبين "الحزبي" الصريح هو فرق بالدرجة. ستكون أضعف منه، لأنها لا تملك الأقنية الموصِلة إلى مركز قرار الحزب الذي أنعم عليها بمنصب الوزارة. والممارسات السابقة لتلك الأحزاب لا تَشي بغير ذلك. الوزيرة التي من حصّة هذا أو ذاك من الأحزاب كان يمكن أن تكون وزيراً رجلاً، ولا يختلف منطق "المحسوبية" الحاكم لأدائها عن منطق المحسوبية الممْسك بأدائه.
شيء آخر: الحزبان الأقوى الصانعان لهذه الحكومة شبه النسائية، هما من أكثر الأحزاب اللبنانية المعادية لحقوق المرأة اللبنانية، ولما رفعته الثورة من مطالب تخصّ اللبنانيات، فحزب الله معاد للكوتا النسائية بكل جوارحه الأصولية. أعلنها عدة مرّات صراحةً. وهو فوق ذلك حزبٌ رجعي، ديني، مذهبي. عنده المحاكم الشرعية الظالمة للنساء أمرٌ من صميم الشريعة الدينية التي يعتمدها. بل هو تخلّى عن أحد نوابه في البرلمان، نواف الموسوي، بعدما وقف الأخير بشراسة ضد محكمةٍ دينية، وثيقة الصلة بالحزب، هدرت حقوق ابنته بحضانة أطفالها. وهو لم يتكلم، لم يعلق على شريكه الاستراتيجي، جبران باسيل، صاحب الحزب العوني، والرافض كلياً منح الجنسية اللبنانية لأبناء الأمهات اللبنانيات المتزوجات من غير لبنانيين. حاول باسيل أن يراوغ في المسألة بأن يمنحها لأبناء اللبنانيات المتزوجات من غير العرب، سوريين وفلسطينيين، لكسب الوقت ربما، أو لتمييع الموضوع. فيما لم يُعرف عن هذا الشريك العوني اهتماماً خاصا بقوانين الأحوال الشخصية المنظمة لمراحل حياة اللبنانيات المسيحيات. طالما نتكلم عن اختصاصات طائفية - مذهبية....
والحال أن الثورة، بجانبها النسوي والنسائي، انكبّت على هاتين النقطتين بالذات: الجنسية
شيء من الجواب نجده في سير الوزيرات الجديدات. إنهن بالمصاهرة، أو بالعلاقات "الحميمة" الناظمة لحياة الطبقة الحاكمة، ينتمينَ إلى المجتمع الخلفي، الضامن لاستمرار هذه الطبقة. وهن لا يختلفن، منذ طلّتهن الأولى، في طريقة تقديم أنفسهن، عن الطريقة السائدة وسط هذه الطبقة. واحدة منهن هي زوجة رجل أعمال تلاحقه تهم الفساد، والتعدّي على الأملاك العامة والخاصة، وكاد يوماً أن يصبح وزيراً، لا بل رئيساً للوزراء، ممثلا للطرف عينه، الدائر في فلَك حزب الله. والوزيرة الثانية نالت وظيفتها العليا، وتمتعت برعايته و"غطاء" قطب طائفي، تعلن أنها مدينة له. والثالثة يلاحقها الآن ملف قضائي، ينطوي على تهمة إهدار أموالٍ ممنوحةٍ من الاتحاد الأوروبي. فيما لدى الأخريات شركات أو مكاتب أو جمعيات خاصة، تُعنى بالربح، المادي أو المعنوي، ومزدهرة في زمن الشحّ والركود.. أي أننا أمام نوعيةٍ من النساء لن تشاهدها واقفة أمام الآلة مرة في الأسبوع، لتشحذ من مالها مائة دولار، إلا لالتقاط صورة "التواضع".. فيما تصريحاتهن الأولى تشبه تصريح الرئيس المكلّف الذي سمّاهن. الأولى، زوجة المتَعدّي على الأملاك البحرية، لم يرمشْ لها جفنٌ في أول تصريحاتها، حين قالت: "إن محاربة الفساد واسترداد الأموال المنهوبة هي من أولوياتي". اثنتان ركّزتا على "الشفافية" في العمل. الأخرى التي أكّدت أنها من "صفوف الثوار" أصرّت، في الآن عينه، على القول إن "الحرية يجب أن تكون مسؤولة".
طبعاً، ثمّة من سيتحجّج بـ"الشهادات" الجامعية الثقيلة التي تحملها كل وزيرة، وبالخبرة المهنية،
ولكن ثمّة مفارقة تحكم مسار النساء "التعليمي"، إذا جاز التعبير. في الزمن القديم، عندما بدأت تطلع امرأة متعلمةٌ في المحيط، الواسع، أو الضيق، كان يُقال إن "المتعلمة" هذه ستكون خير نبراسٍ للنساء، مدافعة عن حقوقهن البازغة، تشقّ لهن الطريق. وكان يرافق هذا الإطراء انتقاص من قيمة "غير المتعلّمة"، لأنها حتماً تقف إلى جانب الذكور، تحمي نظامهم، وتدافع عن امتيازاتهم. اليوم، تمدّدَ وضع النساء التعليمي، وبات يمكن إيجاد، بين المتعلمات صاحبات الشهادات العليا، من هن مستعدّات للدفاع عن نظام الذكور وامتيازاتهم، أو على الأقل، إغفال حقوق جمهور النساء، حفاظاً على امتيازاتهن.
ومع انقلاب وظيفة المتعلّمات، ينقلب أيضاً، ومرة أخرى، شعار الثورة من أنها، أي الثورة، "أنثى". إذ كما يبدو، ومن البداية مع الحكومة الأنثوية هذه، أن الثورة المضادة، أيضاً وأيضاً، يمكن أن تكون أثنى.