نشارة حب... وحرب
منذ بداية الحرب وأنا أتشبث بفكرة الحياة لا الوطن، فالحياة التي تحفنا من كل جانب بحد ذاتها وطن، تشبه إلى حد بعيد وشاحاً تحيكه الجدات بدفء قلوبهن وأيديهن.. يصنعن الماضي والحاضر بحكايات ونحن نعيش الحكاية.
أنا أعيش الحكاية..!
" كل ذرات رمالك.." رددتها سنوات طويلة بلا يقين.. والآن لا أرددها إلا أنها حروف تملأني يقينا، ليست ملك للأمنيات، بل سطور أرصها أرصفة للمجانين أمثالي.
" كل أنداء ظلالك.."
ليست سوى غمامة تطمس أحلامنا بالتراب، فتعود مجدداً لتنمو، جميعها ملكنا، والـ(نا) ضمير المتكلمين للجماعة، كانوا في الماضي (جماعة) لا تفرقهم سوى الأفضلية في الحب لا سواه.
أنا مع وطني.. ولست ضد أحد.
أنا مع قلبي.. ولست ضد أحد.
أقف في وجه المدفع ليس كرهاً فيه إنما كرها في الدموع التي سيتسبب في ذرفها، أجدني أغرق في الفكرة.. أنبذها.. أكرهها.
الحرب تصقلنا، تجعلنا أكثر تمسكاً بالحياة وما نحبه فيها مخافة الفقد النهائي، حيث نعلق في اللازمان واللامكان.
الحرب تمنحنا التدفق كسيلٍ يجرف معه كل أشكال القبح. لنقوم بكل الأشياء التي نحبها، لنعترف أيضاً لمن نحبهم.
حين تستقر قدماك على أرض الغربة، أنت تجرب شعور انبلاجك حال الولادة مجدداً.
ما الخوف إلا بكاء كنا نعبر عنه بسهولة.. نخاف حال الامتلاك وحال الفقد على حد سواء. نمتلك الحياة وكأننا سنفقدها مرة أخرى، وكالعادة، دون سابق إنذار.
أتمنى أحياناً لو أنني طابع بريدي، كل بلدٍ أحط فيه يصبح بلداً لي.. حينها لن أملك قدمين تجرانني إلى الأسفل.. تسمح بنمو جذوري في الأرض، ليست الأرض أرضي، فلماذا لا أعيش بلا وطن..!
هكذا لم أشعر بالغربة حين انتقلت ذات مرة.
كل أرض تحتوي الروح والجسد وطن مكتمل.. نحن لا نفتقد أوطاننا بل ذكرياتنا.. نشعر أن أقدامنا لو عادت سنعاود استحضارها حيّة ترزق كما سكنتنا في الماضي تماماً باللون والطعم والرائحة.
بعضنا يفقد الأرض ليجد موطناً آخر في قلب أحدهم.
القلوب ليست كذبة.
فبعضها أوطان تتسع لرسم خارطة لمن يُحسن الاختيار.
* *
لطالما تحاول الأرض الدوران فلا تجد لدورانها متسعاً، تتنهد وتلفظ همومها غباراً يُشتت المواعيد والأحاديث والأحلام، لكن أصابع القصب تستمر في العزف بهدوء لمن يريد أن يصغي.
لم يصغِ لها أحد!
كان الجميع يركضون، يخبئون قلوبهم عدا قلبي وورقة باهتة غافلت ربيعها لتبادر بالرقص..