الإشارات السينمائية الفانتازية لفيلم "عروس النيل" (1963) لفطين عبد الوهاب، تفرض نفسها بإلحاح في الأذهان التي تستسلم للإشارات الفانتازية في واقع غارق في مأساويته، خصوصاً بعد إعلان نيكولاس ريفز عالم المصريات البريطاني، في تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، أن بعثة التنقيب الأثرية، تتوقع بنسبة 90% العثور على حجرة سرية لمقبرة توت عنخ آمون تحتوي على مقبرة الملكة نفرتيتي.
شخصية "هاميس" الرمزية التي استلهمها فطين عبد الوهاب لإحدى عرائس النيل التي أتت من عصر الفراعنة إلى ستينيات القرن الماضي لتعلن اعتراضها، وعزمها إيقاف محاولات الحفر فوق مقابر عرائس النيل، بعدما شكّل هذا إزعاجاً لهن وتشويهاً لقداستهن، تجعلنا نتمادى من منطلق رمزي ومتخيل بحت، في الربط بين التمثال المشوه للملكة نفرتيتى على إحدى بوابات مدينة "سمالوط" المصرية، والأنباء المؤكدة عن الكشف الأثري المنتظر لمقبرة الملكة نفرتيتي، التي ظلّت نائمة بهدوء في حجرة سرية لمقبرة توت عنخ آمون، زوج ابنتها عنخ إس إن با آتون منذ القرن الرابع قبل الميلاد، وعادت إلى النور من جديد في الألفية الثانية بعدما انزعجت من تشويهها، والإساءة لها كمعنى أكثر منها كملكة كانت تعيش في عصر تل العمارنة.
من الممكن أن ننتقل بالمشهد من فانتازيته إلى مشهد آخر قريب من فلسفة صراع القيم، هل يمكن اعتبار إعادة اكتشاف مقبرة نفرتيتي إعادة اكتشاف معان قُبرت لسنوات طويلة، لتعود من جديد فتمارس الصراع مع القيم المناقضة لها، الفنون المتطورة مقابل التشوية، والمقدّس مقابل البخس، والثورة مقابل الرجعية؟
نفرتيتي قادمة من عصر شبيه بعصرنا وهو عصر الثورة، لكنها لم تكن فقط ثورة ضد تعدّد الآلهة، تطورت إلى نزاع ضد كهنة آمون، وتقييد سلطاتهم الدينية وثرائهم الفاحش؛ بل كانت ثورة ألقت بظلالها الواضحة على الحريات والفنون.
تقول جوليا سامسون في كتابها "نفرتيتي الجميلة التي حكمت مصر في ظل ديانة التوحيد"؛ "قد أشرق عصر تل العمارنة على تاريخ الأسرة الثامنة عشرة بحدوث الثورة التي أعلنت التوحيد، وحدوث ثورة في قواعد الفن والأدب وأعطت للناس كامل حريتهم في تنفيذ ما أرادته لهم الحياة، فانطلقوا يكتبون بلغة بسيطة سهلة يفهمها الخاصة والعامة، وانطلق الفنانون يصوّرون الحقائق الواضحة في طبيعة الأشياء، وتحرّروا من القواعد التقليدية الجامدة التي كانت تحكم الفن المصري منذ بداية التاريخ.. وقد بالغ فنانو العمارنة في التطوير والتجديد والتحرّر حتى وصلوا إلى طريقة في التعبير تقارب التعبير الكاريكاتيري أو الرؤية الكاريكاتيرية للموضوع".
وكانت نفرتيتي قد ساهمت بدور كبير في تلك الثورة بجوار أخناتون حتى إن كتب التاريخ ذكرت أن أخناتون في نهاية حياته رضي بالمساومة بينه وبين الكهنة، ورفضت نفرتيتي ذلك، حتى إنها انفصلت عنه، وانعزلت في أحد قصور تل العمارنة.
وكأن إعادة اكتشاف مقبرة نفرتيتي الصامدة على المبدأ، بمثابة تأكيد أن الثورة ليست فقط بمحاربة الكهنة ومساومتهم لاحقاً، بل ربما جاءت نفرتيتي لتسألنا كيف حال الحريات والفنون في ثورتكم الشبيهة بثورتنا؟
تقول سامسون في كتابها "إن نقوش الفراعنة صورت نفرتيتي وهي تقوم بأعمال لا يقوم بها إلا الملوك الفراعنة؛ مثل تصويرها وهي تضرب الأعداء، وهو المنظر التقليدي الذي يصوّر به الملوك في النقوش الفرعونية منذ عهد الملك مينا، كما صُوّرت جبهتها في بعض المناظر تحميها الحية المقدسة وهي رمز خاص بالملوك".
وتقول بعض كتب التاريخ بشكل غير مؤكد أن نفرتيتي هي الملكة التي خلفت زوجها في الحكم باسم "سمنخ كارع"، كما صوّرت النقوش الفرعونية نفرتيتي على جوانب تابوت ابنتها "ماكت آتون" وهو دليل على مكانتها الخاصة، إذ إن صور التوابيت مخصصة للآلهة والعالم الآخر.
بعد إعلان الباحث نيكولاس ريفز عن التأكيدات باحتمالية اكتشاف مقبرة نفرتيتي بنسبة كبيرة، سارعت وزارة الآثار المصرية وقالت في أحد بياناتها إن "من شأن العثور على مقبرة نفرتيتي إنعاش قطاع السياحة الذي تراجع كثيراً منذ الاحتجاجات الشعبية التي أنهت حكم الرئيس الأسبق حسني مبارك عام 2011"، وهي في الحقيقة آمال الوزارة المتوقعة، التي ترمي دائماً إلى النظر للاكتشافات الأثرية بشكل استثماري، كشف جديد سيؤدي إلى مزيد من السائحين الأجانب ثم إلى مزيد من تدفق الأموال والعملة الصعبة.
لن ترمي وزارة الآثار بكل تأكيد إلى إبراز أثر هذا الكشف إن تم توظيفه بشكل صحيح على الوعي المصري، وإبراز هذه الثورة التي نجحت خلال عقدين فقط في تغيير شكل الحريات والفنون في عصر تل العمارنة، والتي تصفها سامسون في كتاب آخر لها بعنوان "العمارنة مدينة أخناتون ونفرتيتي"، بأن هذه الفترة القصيرة ذات طابع خاص "كما لو كانت جزيرة منعزلة وسط تدفق نهر التاريخ المصري الفرعوني الذي استغرق جريانه نحو ثلاثة آلاف من السنين".