نقد الذات والمصارحة الوطنية لإنقاذ ليبيا
وصل الوضع في ليبيا إلى حالٍ من التردّي والخطورة، بحيث أصبح فيه المواطن الليبي المسالم، ساند الثورة أو لم يساندها، يحلم بيوم من أيام معمر القذافي!
تقع المسؤولية عن هذا الدمار على الذين يمارسون العنف، وتولوا سدة الحكم في أثناء الثورة وبعدها. مستقبل البلاد يعتمد على مساندة العملية الديمقراطية، المتمثلة في مجلس النواب المنتخب من الشعب، وما سيصدر عنه من قرارات وخطوات حازمة، لإنهاء المواجهات المسلحة واستتباب الاستقرار في البلاد. المستقبل يتحدانا، إما أن تكون ليبيا دولة موحدة قوية، تُحترم فيها إرادة شعبها ورغبته في السلام، أو الغرق في وحلٍ قبلي، عقائدي، جهوي، تُهدر فيه الأرواح والموارد؟
الصراع الراهن وعناصره
الصراع المسلح في بنغازي هو بين انقلابيين إسلاميين متشددين، على نمط داعش، وقوات وطنية عسكرية غير قادرة على صدهم. مبادرة "الكرامة" يبدو عليها الفشل، فقد كان ليبيون كثيرون مع "الكرامة"، ولكنهم لم يقبلوا خليفة حفتر، بالنظر إلى تاريخه المريب في حرب تشاد، ويقينهم بأنه يرغب في إقامة نظام عسكري ديكتاتوري. والحقيقة أن بنغازي على وشك السقوط في أيدي متشددي "أنصار الشريعة"، لأن حفتر يفتقد القدرة الحقيقية، من ناحية التخطيط والإمكانات، لتحقيق ما أعلن عنه. وانسحاب قوات الصاعقة من بنغازي، وفقدان ما تسمى قوات إقليم برقة، أي قدرة أو رغبة على مواجهة المتشددين، دليلان على ذلك. والصورة في المنطقة الشرقية باتت جلية، انصهر ما يسمى درع ليبيا في بنغازي في تكوين "أنصار الشريعة"، وسيتم القضاء على عناصره إذا حاولوا استرداد استقلالهم. سيحاول المتطرفون أخذ ما استطاعوا من البلاد، إذا لم تقف الدولة ضدهم. مشروع "أنصار الشريعة" الداعشي واضح، والمصائب التي ستحل بالبلاد نراها، الآن، أمامنا في العراق وسورية. الخيار في المنطقة الشرقية داعش أو دولة ليبيا.
أما عن المنطقة الغربية، فالعملية تخلو من أي فكر سليم، ومبنية على شبه حقائق وشائعات يروّجها أُناس، معظمهم لا يتكلمون إلا باسم مصراته فقط، كأنها خارج السياق الليبي. كما بات جلياً أن قادة المدينة، التي شرَّفت كل الليبيين في جهادها ضد الطليان، وفي مكابدة غزو القذافي وهزيمته، وتخليص ليبيا من نظامه، لا يتحدثون إلا عن مصالحهم، ولديهم استعداد لتدمير وحدة الوطن، ولأن يتحالفوا مع "الإخوان المسلمين" والقتال مع "أنصار الشريعة"، ليقضوا على العملية الديمقراطية، وليعطوا أنفسهم صلاحيات قيادة البلاد.
أي استحقاق اكتسبته مصراته لدور قيادي مميّز في ليبيا بدأ ينهار، حتى قبل اغتيال القذافي. كل ليبيا تعلم أن ثوار هذه المدينة "مشّطوا" طريقهم إلى باب العزيزية، كما مشطوا سرت، وسرقوا ما سرقوا من أموال البلاد، وارتكبوا جرائم حرب وثّقتها مؤسسات حقوق الإنسان الدولية. وهم، في ذلك، مثل باقي الثوار في مناطق أخرى. أخلت مصراته وتاورغاء من سكانها العزّل، وغزت بني وليد بفتوى مشبوهة، وقتل ثوار مصراته أناساً عُزّلاً في غرغور. كما دخلت مصراته في المحاصصة الجهوية، بشكلية المدن الفائزة، ورفضت أن تضم شبابها إلى الجيش الوطني أفراداً، وكانت أول مدينة تحاصر المؤتمر الوطني العام، وقد خنقته عبر كتلة الوفاء، وبالتحالف مع "الإخوان المسلمين"، وبتهديد مَن خالفوهم في الرأي. كما أن دروع مصراته ساهمت في عدم استباب الأمن في البلاد، على الرغم من الدعاية القوية التي تقوم بها حول ذلك.
والآن، يهاجم قادة مصراته العسكريين طرابلس، ويرفضون قيام مجلس النواب المنتخب، زاعمين أن هناك انقلاباً مدبراً من حفتر والزنتان، بمساعدة مصر والإمارات، ليعيد حكم آل القذافي وفلوله. ولكنهم فشلوا في تقديم أدلة مقنعة غير الإشاعات، من نوع: ''إذا أحببت أن تتعلّم الكذب، فقُل ما سمعت، إلخ...". وها هم يقومون بعملية قسورة، بفقدان الشرعية التي عمل بها حفتر مشروع الكرامة. وقد ساهم، بشكل كبير، هوس قادة مصراته في احتكار قيادة ليبيا، وكل ما نتج عن ذلك من عنف، في كسر ظهر الدولة الوليدة. ويشعر المتابع لخطاب مصراته والشحن المعنوي الذي يقوده سياسيوها وإعلاميوها بأنه في كوريا الشمالية، حيث طبول الحرب تدق عالية، وسهام التخوين تصيب كل مَن يخرج عن الصف.
من الناحية الأخرى، هيمنة الزنتان على مواقع حساسة في طرابلس، أيضاً، غير مشروعة. وقد كان موقفها في أثناء حرب الثورة مشوباً بالعنف المفرط والهوس بالغنائم. ويعلم مَن شاهد معارك الزنتان الباسلة ضد جنود القذافي أنهم كانوا يمسحون معسكراته من كل ما فيها من غنائم، قبل التقدم نحو طرابلس. وكما رفض قادة الجمعية الليبية المقاتلة، في سوق الجمعة، مراراً تسليم مطار معيتيقة للدولة، رفضت ميليشيات الزنتان تسليم مطار طرابلس وغيرها من مؤسسات الدولة التي تحكموا فيها، وعاثوا فيها فساداً. كما أن احتفاظهم بسيف القذافي والإصرار على محاكمته هناك، بدلاً من طرابلس، يعدّ امتهاناً لسيادة الدولة، ويثير القلق حيال ميلهم إلى تكوين تحالف مع "أولاد الجد"، بما فيهم العشائر التي ساندت نظام القذافي. وهنا، كان تجنيد كتائب الزنتان مَن بقوا من عناصر كتائب القذافي تصعيداً للتوتر العسكري في ليبيا.
وبشأن تفشي الفساد بين الكيانات الزنتانية، هناك شهادات عديدة قدمت عن تحول مطار طرابلس العالمي بؤرة تهريب للمخدرات والمحظورات والبشر. وتكثر الشهادات عن الفساد الذي يرتكبه عسكر الزنتان، بالاستيلاء على الممتلكات والسطو المسلح، وتغوّلهم على وزارات ومصالح حكومية. ولقد ضاق أهل طرابلس ذرعاً بهيمنة الزنتان وفسادهم، كما سئموا بطش ميليشيات مصراته، وفشلهم في توفير الأمن في العاصمة التي أخلوها من الشرطة. وكان للكتلتين دور كبير في إفشال مشروع.
ثورة بلا ثورة وثورات مضادة
ما رأيناه في حراك فبراير/ شباط 2011، وسانده الشعب الليبي عامة، هو رغبة في ثورة تكون دولة عادلة وحديثة، محل ديكتاتورية القذافي الفاسدة. ولكن، بمراجعة المسار الذي سلكته كتلة مصراته، ومن حالفها من جهويين وإسلاميين، وما قامت به الكتلة الزنتانية وحلفاؤها، وما اختارته باقي الكتل الجهوية والسياسية من المعارضة السابقة من صراع ضار على أموال الدولة ومناصبها، نجد أن ما جرى في ليبيا ليس ثورة، أو ليس ثورةً بعد، لأنه لم يقدم لنا قيماً ثورية جديدة، تناسب الدولة التي ننشدها.
لم يرق العمل السياسي، منذ بداية الثورة، إلى تطلعات الشعب الليبي المعلنة، وبات جلياً أن المخادعة والسرقة والغلبة والكبرياء والعنف اللامحدود، إضافة إلى الاستعمال الانتهازي للدين، هي أخلاقيات تمرد فبراير التي لم تختلف كثيراً عن أخلاقيات نظام القذافي، وكانت أخلاقيات الصراعات الليبية التي انفجرت خلال الحرب العالمية الأولى وبعدها، وخلال الجهاد ضد الاحتلال الطلياني، فحتى، في تلك المحنة، تشرذم الليبيون ووقعوا اتفاقيات صغيرة مع المستعمر، وتقاتلوا وذبحوا بعضهم بعضاً حتى استفرد المستعمر بهم، وهيمن على البلاد.
وبعد ثلاثة أعوام من ثورة 2011، نجد أنفسنا كما كنا قبل مئة عام بعد الحرب العالمية الأولى، نواجه محاولةً أخرى لتدمير البلد الموحّد عبر ثالوث قبلي/ جهوي/ ديني، من الثورات المضادة ضد فكرة ليبيا دولة حديثة موحدة. هذا ما يفعله وما فعله قادةٌ ومَن معهم ومَن ضدهم في صراعهم على صلاحيات غير مشروعة، ونهب سافر لمصادر الدولة، وتدمير لمؤسساتها. وهذا ما يقوم به المتطرفون في شرق البلاد الذين لا يريدون شيئاً اسمه ليبيا أساساً، بل إمارة دينية هلامية، فلا دولة ولا قانون في عهدهم، بعدما حطموا مكونات الدولة من مراكز شرطة ومحاكم، وبعدما اغتالوا قادة الرأي والفكر في البلاد.
السياسة وتمكين إرادة الشعب
الحل النهائي لقيام الدولة الليبية لن يكون بالعنف، ولا بالغلبة، لأن إمكانية انتصار أي من هذه الأطراف المتحاربة، وتسوية الأمر لصالح أي منها، لن يكون سهلاً، فهذه الجماعات المسلحة مثل الكتل القبلية التي تكونت في أثناء الاستعمار الإيطالي، لها أهداف متناقضة، ومن ثم ستكون تحالفاتها هشة. ولكن دوامة العنف قد تأخذ دورها بشكل أكبر، إذا لم يتغيّر وضع الحكومة.
الحل يكمن في مساندة المشروع الوطني الذي تبناه في طبرق مجلس النواب الذي انتخبه الشعب الليبي في يونيو/ حزيران 2014. فليس هناك شرعية لثوار ولا حكماء ولا أعيان ولا قرار ولا سلطة، إلا وتنبثق من هذا الجسد الذي يمثل إرادة الشعب.
من هذا المنطلق، أرى أن على مجلس النواب أن يتخذ عدة قرارات قوية وجريئة، للأخذ بزمام المبادرة، ولتغيير قوانين اللعبة السياسية، من فوضى السلاح والحروب على النفوذ، إلى الحوار والاتفاق على المصلحة العامة للوطن ككل. وعلى مجلس النواب أن يتعلّم من أخطاء المجلس الانتقالي والمؤتمر الوطني، ويحدد الأولويات، ولا يكثر منها، وأن يعطي الحكومة المجال لتنفيذها، ويحدد دوره في القطاع التشريعي، لا التنفيذي، في الدولة.
وفي هذا الصدد، أرى أن أول قرارات المجلس الجديد بوضع نفسه في قمة السلطة التنفيذية قرار خاطئ، وينبغي التراجع عنه. لا يمكن لمجلس مكون من 188 شخصاً تسيير أمور الدولة، فكلٌ سيسعى إلى مصالح منطقته، وكلٌ سيسعى إلى جذب سفينة الدولة في اتجاه مختلف. المجلس الذي يمثل الشعب يعطي صلاحية التنفيذ وقيادة الدولة لشخص وطاقم متجانس لديه صلاحيات محددة، للتعامل مع مستجدات الأمور بمرونة. قيادة الدولة لا بد أن تُمنح لمَن يرى فيهم صلاح البلد.
عملياً، وليبيا في هذا الوضع، حيث الدولة ضعيفة ومؤسسات الحكومة تكاد تنهار، ليست هناك مخاوف من تكوين دكتاتورية جديدة. السلاح في يد الميليشيات، ولديهم من الجند ما يخوّلهم تدمير البلاد، كما يفعلون الآن. هل من المنطقي أن تواجههم الدولة بحكومةٍ لا أسنان لها، ونتوقع منها أن تنجز؟ هذا ما جرى لكل حكومات الثورة، ولا ينبغي أن يتكرر. السلطة الشرعية، تشرع، تراقب، وتقيل الجهاز التنفيذي، ولكن لا تقوده، ولا تتدخل في شؤون الإدارة اليومية.
التعامل مع الصراع العسكري الراهن
على الحكومة مباشرة مفاوضات بين كل المتحاربين في ليبيا، عبر الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية، للسعي إلى وقف إطلاق النار حالاً، وكذلك البدء في الحوار معها، بخصوص الشأن الوطني، بشرط أن يقدموا ولاءهم للدولة الليبية، ومبايعتهم مجلس النواب والحكومة التي تنبثق عنه، كالممثلين الشرعيين الوحيدين للشعب الليبي كله. الحوار بين المتقاتلين سيمنح الشعب فرصة للاستماع لمطالب المتخاصمين، ولمحاولة إيجاد حلول، لما فيه من جدوى ومصداقية، وخصوصاً في قضايا الفساد المالي، منذ بداية الثورة، والهيمنة الجهوية والقبلية على مؤسسات الدولة.
أثار قصف مطار طرابلس الدولي (21 يوليو/2014/الأناضول) |
الوضع العسكري ـ السياسي في ليبيا غير مقبول، وعلى الدولة أن تستمر في تكوين جيش وشرطة وأجهزة أمنية وطنية متكاملة، أينما تيسّر لها ذلك في البلاد، وليكن لهم في تكوين جيش ليبيا عقب الحرب العالمية الثانية في المهجر نموذجاً، وأن تستعين الدولة بكل القدرات المحلية والدولية لذلك.
تفعيل الدولة وتجهيزها بجيش وشرطة وطنيين هي مطالب الشعب الليبي. وهناك إجماع وطني على حل كل الكيانات العسكرية، غير الجيش والشرطة. على الدولة في حوارها مع المتخاصمين، ومع الشعب ومع المجتمع الدولي، وضع تصور لكيفية تحقيق إرادة الشعب في هذا الشأن. وعلى الساسة أن يكونوا واقعيين وصريحين، في ما يمكن القيام به بخصوص حل الهياكل العسكرية، الخارجة عن الحكومة، وقطع مصادر وآليات تمويلها وتسليحها.
على القيادات السياسية استعمال كل الأجهزة الدولية المتاحة لفتح ملفات تحقيق في كل جرائم الحرب في ليبيا التي تشمل قتل المدنيين والاغتيالات، وإهدار ممتلكات البلاد في فترة الثورة إلى الأحداث الراهنة، وأن تقدم هذه المذكرات لمحكمة العدل الدولية، نظراً لعدم قدرة القضاء الليبي على التعامل معها، وأن تستعين الدولة الليبية بالمجتمع الدولي وقرارات مجلس الأمن الخاصة بليبيا، في تفعيل هذه التوصيات، وكذلك في حماية حدود ليبيا ومياهها وأجوائها.
ولن يكون هناك حوار حقيقي بشأن وضع البلاد، من دون دراسة الدور الذي يلعبه الخطاب الديني، المتمثل في دار الإفتاء، والتي باتت منحازة ضد تكوين الدولة الليبية، ووسائل الإعلام التي تؤجج الحرب، وتبث الأكاذيب والفتن، وتناشد في ذلك أجهزةً لا تنتمي للدولة. ينبغي على القيادات السياسية مراجعة دور دار الإفتاء، في أثناء الثورة، والبحث في تغيير قيادتها وتحجيم دورها في الأمور غير السياسية. كما لا بد أن تدرس الدولة إمكانية إقفال الفضائيات التي تروّج للصراع العسكري في ليبيا، ومقاضاتها على ذلك. وترويج القتل ليس مجرد رأي بل عمل إجرامي، وإصدار الفتاوى التي تهدر الدم، وتعطي هذا الحق لغير الدولة، يعدّ مشاركة في القتل أيضاً.
إدارة الدولة واقتصادها
للوضع الأمني دور كبير في تكبيل أجهزة الدولة الليبية، ولكن، هذه، أيضاً، معاقة بأعداد مهولة من موظفين لا يقومون بوظائفهم، ولا سلطة لها عليهم، ولوائح داخلية معقدة، وتراث بيروقراطي خانق. ولكن حاجتنا لتحريك البلد تحتم علينا إعطاء أجهزة الدولة صلاحيات تكفل لها المرونة الكافية، لتقدم الخدمات المرجوّة منها، بممارسة اللامركزية، وإعادة هيكلة الأجهزة، ودمج بعضها، وتحوير آليات تنفيذ مشاريعها. وعلى الحكومة أن تكثف استعمالها المناطق والأجهزة الخاضعة لإمرتها لتسيير باقي شؤون الدولة. هذه التحويرات في أجهزة الدولة لا بد أن تواكبها آليات رقابية منضبطة، للتأكد من تسيير خدمات الدولة، وإخلائها من الفساد بأكبر قدر ممكن.
وسيستمر الليبيون "يتناهشون" على مصادر الدولة، طالما لا زالوا يفتقدون رؤية مستقبلية لاقتصادهم. وقد تبلور الوضع الأمني والسياسي، المتأزم حالياً، نظراً لسياسات اقتصادية فاشلة، في عهد القذافي وخلال الثورة، حيث إن ثروة الدولة ودخلها يضيعان لدفع ثمن مشاريع لا تتحقق، ومرتبات شعبٍ لا يعمل، وجنود لا يدافعون عن الوطن، ووقود ومواد استهلاكية يتم تهريبها خارج البلد، ومنح دراسية لطلبة لا يدرسون. كل هذا الإهدار يتطلب منا التشاور في وضعنا الاقتصادي، وأخذ قرارات جريئة بخصوصها، ولا سيما موضوع الوظائف الحكومية غير المجدية التي تمت فبركتها منذ الثورة، وتميّزت بالمحاصصة والفساد عامة.
نحتاج رؤية اقتصادية حقيقية تتعامل مع الوضع، وتسعى لإيجاد مخرج اقتصادي من الورطة المحيطة بنا. فسرطان الفساد وإدماننا، أفراداً وقبائل ومناطق، على امتصاص دم الدولة، ظهرت نتائجه جلية لنا، حيث قطاع التعليم في كل مراحله شبه فاشل، وشهاداتنا الجامعية تكاد لا "تسوى" الورق الذي تُطبع عليه، وقطاع الصحة المنكوب كاد أن ينهار لولا صمود أخواتنا وإخواننا الفيليبينيين، ولا طعام في محلاتنا لولا إخواننا المصريين، وشوارعنا وشواطئنا التي تتكوم فيها الزبالة كادت تصبح مصدراً لكوارث صحية، لولا إخواننا البنغاليين.
هذا النموذج الاقتصادي لا يمكن أن يستمر، ونراه الآن يكاد يسقط على رؤوسنا. لا بد من رؤية اقتصادية تتعامل مع البطالة المعلنة والمقنّعة في البلاد، ومع فقدان القدرات، ومع تفشي الجرائم المسلحة في البلاد. نعم، لا اقتصاد من دون أمن، ولكن، أيضاً، لن يكون البلد آمناً، إذا لم نر ملامح تغيير في الاقتصاد، يوجه طاقاتنا.