تأمّن هذا الفوز، بفضل سلّة من الوعود بتحقيق "التغيير الحقيقي"، بعد عقد كندي يائس على المستوييْن الوطني والكوني. فدرالياً، ساهمت الحكومات المحافظة التي قادها ستيفين هاربر بتعميق عدم الأمان الاجتماعي بين مختلف فئات المجتمع الكندي، من خلال زيادة نسبة الهجرة وتهميش الشباب على الرغم من الاستقرار الاقتصادي النسبي بفضل أسعار النفط القياسية. أما عالمياً، فقد تخلّت ولاية أوتوا عن دورها التحكيمي ومهماتها الإنسانية، ولجأت إلى القوة والمواجهة وخلق العداء.
انتهى ذلك العقد. اليوم، يتأكد المواطن الكندي أن البرد القارس الذي تشتهر به البلاد، لا يجمّد خياراته السياسية. أن تكون محافظاً، لا يعني أنك يمينيٌ للأبد. وأن تميل بكل ثقلك باتجاه الخيارات الاجتماعية، لا يعني أنّ الليبرالية أضحت عدوّتك الأزلية. هكذا أظهرت الاستراتيجية التي اعتمدها جاستين ترودو لجذب أصوات اليساريين من الحزب الديمقراطي الجديد، ولاحتضان المحافظين التائهين واليائسين، نجاحاً باهراً.
في شوارع مونتريال، وتحديداً بين أوساط طلاب الجامعات، كانت "حمّى" ترودو تطغى على الجميع عشية الانتخابات. تسمع أحد طلاب العلوم السياسية، ذا الميول اليسارية، يتطلع إلى حكومة ليبرالية لكن ليس بأكثرية، "كي يبقى الضغط قائماً على الليبراليين وزعيمهم". أحد الباحثين الشباب في مجال إدارة الأعمال، يشير تحديداً إلى "الإمكانات الهائلة التي يحملها الوعد بإطلاق صناعة جديدة كلياً" في إشارة إلى تشريع الماريغوانا. "يكفي التفكير بهذا الوعد فقط وبالحسابات البيئية التي يحملها لكي يختاره الناخبون"، على حد تعبير الطالب.
ينتمي جاستين ترودو (43 عاماً) إلى عائلة سياسية. هو ابن رئيس الوزراء الراحل بيار ترودو الذي تولّى قيادة البلاد بين عامي 1968 و1979، وبين 1980 و1984. وتماماً كوالده، يتمتع بجاذبية لافتة، وبقدرة على خلق الحركة والتميّز من الركود والرسميات. في مقاطع الفيديو المنتشرة أخيراً، تجد ترودو يرافق والده في زيارات رسمية عدة، تارة يلوّح ببراءة لبابا الفاتيكان السابق، الراحل يوحنا بولس الثاني، وطوراً يصرّ على والده لتعليمه لعبة "اليويو" خلال إحدى الزيارات الخارجية.
قد لا يتمتع ترودو الشاب بحنكة رجل السياسة، وأساساً يُؤخذ عليه أنّه ليس حذقاً وذكياً كما كان والده، وهو ما رأى فيه أحد المعلقين السياسيين "عيباً"، مشيراً إلى أنّ جاستين "يتمتع بذكاء عاطفي"، إلّا أنّ ترودو أثبت أن "براءته" هي ميزة لإعادة الأمل بهدف التغيير.
اقرأ أيضاً: كندا تعتزم سحب مقاتلاتها من التحالف الدولي ضد "داعش"
كان جاستين أستاذ مدرسة. استقرّ لفترة معينة في فانكوفر الواقعة غرب البلاد، بعدما درس الأدب الفرنسي والإنكليزي في جامعة "ماكغيل" في مونتريال على الساحل الشرقي. عمل سابقاً مشرفا أمنيا في إحدى الحانات الليلية ومدربا للتزلج على الثلج. خلال فترة العام الماضي، ساعده فريقه الرشيق (نظراً للدعم القوي في أوساط الشباب) في كسب انتخابات حاسمة وإعادة إحياء حزب كانت سمعته قد هشّمها الفساد والبيروقراطية.
لكن على الرغم من كل هذا النشاط والآمال، يتساءل البعض، عمّا إذا كان بإمكان هذا الشاب إحياء ما تعنيه كندا لأبنائها وما يُمكن أن تحققه عالمياً، وإذا كان بإمكان هذا الشاب النجاح في إدارة البلاد وهو لم يحمل يوماً أي حقيبة وزارية. ويبدو السؤال الأخير واقعياً، إذ إنّ رئيس الوزراء الشاب، حديث العهد في عالم السياسة، ودخل هذا المعترك منذ ثمانية أعوام فقط حين انتُخب نائباً عن إحدى دوائر مونتريال.
بمجرّد إعلان نتائج الانتصار الساحق الذي حققه الليبراليون، الأسبوع الماضي، أصبح جاستين ترودو أشهر من الممثل العالمي جورج كلوني. الإناث والذكور يتحدثون بتطابق غريب عن انجذابهم إلى ذلك الشاب ذي العيون الزرق، الشعر المصفّف كعارض الأزياء والابتسامة الدائمة التي تجعلك تنسى خبث السياسة. هذا في الشكل. أما في المضمون، فالإنجازات رهن تحديات كبيرة. محلياً، تترّقب الطبقة الوسطى بعين النقد كل خطوة وكل إنجاز وستحاسبه على كل شيء (ربما أيضاً على الشيب الذي قد يبدأ يغزو شعره)، من خفض الأعباء الضريبية إلى زيادة الاعتبارات البيئية في السياسة العامّة مروراً بإعادة كندا إلى موقعها القوي كبلد صناعي في مجموعة الدول العشرين، والعمل من أجل السلام والأمان بين الشعوب ولاحتضان اللاجئين والمظلومين.
"كثيرون بينكم، ينتابهم القلق من أنّ كندا خسرت دورها البناء والمتسامح في العالم خلال السنوات العشر الماضية"، قال الزعيم الشاب هذه العبارة في خطاب الانتصار، متوجهاً إلى جمهور عالمي راقب البلد الأميركي الشمالي ينزلق إلى الانحياز غير البناء في العقد الماضي. وتابع بصوت مرهق بعد حملة انتخابية طويلة قاربت الأربعة أشهر، تنقّل خلالها ترودو وفريقه بين المحافظات العشر الممتدة بين المحيطين الأطلسي والهادئ، "لديّ رسالة بسيطة، نيابةً عن 35 مليون كندي، أقول لكم، لقد عدنا".
عاد الليبراليون لتتطلع أمم كثيرة إلى التعاون مع ترودو، من إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما، من خلال مشاريع الطاقة والنفط وصولاً إلى بلدان الشرق الأوسط التي ترغب شعوبها بمراقبة العلم الكندي يرفرف على مراكز المساعدات والإغاثة، وليس مطبوعاً على المقاتلات والذخائر. يرنو أبناء بلاده إلى ذلك الشعور الدافئ، بأن الحكومة قريبة من أبنائها من كلّ الأطياف والأعراق والأديان.
اقرأ أيضاً: النقاب يثير انقساماً قبل الانتخابات في كندا
ولعلّ عنوان المعركة الذي اعتمده المحافظون لخوض الانتخابات، وهو حق النساء بارتداء النقاب خلال مراسم منح الجنسية، هو المثال الأبرز عن تلك الحاجة. فقد تمكّنت الإدارة الكندية من حجب هذا الحق عام 2011. وبنى ستيفن هاربر استراتيجيته الانتخابية على هذه القضية إضافة إلى الترويج أنّ "جاستين غير جاهز" وأنّ "الإرهاب يتربّص في كندا من كلّ حدب وصوب".
للمفارقة، لم يلعب النقاب الدور الحاسم في الانتخابات على الرغم من أنّ دوره كان مهماً، إذ إن 14 في المائة من أبناء كيبك الذين غيّروا موقفهم خلال فترة الانتخابات، فعلوا ذلك بسبب موقف المحافظين من النقاب. والأهمّ، أن القضية الأساسية التي شغلت البلاد أخيراً، هي قصة المنقّبة الباكستانية زنيرة إسحق التي تحدّت قانون حكومة هاربر، وانتزعت حقها بارتداء النقاب خلال قسم يمين الجنسية، بعدما أقرّته محكمة التمييز الفدرالية. كل ذلك يدلّ على أنّ ما فعله المحافظون كان خاطئاً، حتّى سخريتهم من تسريحة شعر جاستين ترودو ارتدّت عليهم، وهو ما ساعد على تحويل كل ما فعله الليبراليون وزعيمهم إلى نجاح.
أما وقد نجح الليبراليون في تدمير الماكينة المحافظة ودفع الناخب السيادي في كيبك إلى دعمهم وإقناع الناخب المحافظ في ألبرتا بالتصويت لزعيم سياسي يَعد بتشريع الماريغوانا، مع كل ما يحمله هذا التحول من تناقض، تبرز أمامهم اليوم التحديات الحقيقية. تبدأ في كيفية تأمين التمويل الصعب لتنفيذ برنامج استثمارات في البنى التحتية بقيمة 60 مليار دولار كندي، وهو ما يستحيل تحقيقه من دون التعاون مع كافة اللاعبين السياسيين والاقتصاديين والنقابيين ومن دون تضحيات وتنازلات في بعض الأماكن، ولا تنتهي بتحقيق فاعلية ملحوظة على مستوى الحكم الفدرالي (خصوصاً في ظلّ المراهقة السياسية لرئيس الوزراء المنتظر)، بعدما اعتمد هاربر استراتيجية الابتعاد عن المحافظات ومنحها حريّة ضريبية واضحة.
تمكّن ترودو من استمالة القلوب والعقول والتطلعات، ووضعيته اليوم تبدو كما كانت حالة أوباما عام 2008. الفارق هو أن القانون الكندي لا يحدّ من عدد الولايات المتتالية لرئيس الوزراء الواحد، ما يعني أن لدى ترودو الوقت الكافي لتحقيق كل ما يعد به، إذا كان النجاح السياسي حليفه.
اقرأ أيضاً: كندا تجرد مواطناً من جنسيته الكندية بعد تخطيطه لاعتداءات