20 أكتوبر 2024
نهاية الكذب الإسرائيلي
الضجة الكبيرة الدائرة حالياً في إسرائيل، بعد سماح الرقابة العسكرية بنشر تفاصيل الهجوم الإسرائيلي على المفاعل النووي السوري في دير الزور سنة 2007 مثيرة للدهشة والاستغراب. فما نشره حالياً الإعلام الإسرائيلي معروف منذ سنوات، وقد ورد في كتابي مذكرات الرئيس الأميركي الأسبق، جورج بوش، ووزيرة خارجيته كوندوليزا رايس، وأيضاً في كتاب مذكرات إيهود أولمرت الذي كان رئيساً للحكومة في تلك الفترة.
من يتابع الجدل والخلافات الدائرة بين المسؤولين السابقين عن الأجهزة الاستخباراتية الإسرائيلية ومحاولة كل منها أن يعزو إلى نفسه إنجاز الكشف عن وجود المفاعل، فيما تظهر التقارير الجديدة عن العملية وجود تقصير استخباراتي كبير، وأن هذه الأجهزة عرفت عن المفاعل في وقت متأخر، ومصادفة من خلال الحصول على معلومات كانت على حاسوب مسؤول سوري، من يتابع كل هذا الجدل يتكون لديه انطباع كما لو أن هؤلاء المسؤولين يعيشون في فقاعة، منفصلين عن العالم الذي يحيط بهم.
وفي الواقع، لا يعدو ما يعتبره المحللون الإسرائيليون اليوم نهاية حقبة سياسة الغموض، ويعطونه أهمية مبالغا فيها وأبعاداً استراتيجية وأمنية بالغة الأهمية، أن يكون نهاية مرحلة الكذب الإسرائيلي الوقح.
في سبتمبر/ أيلول 2007، وبعد اكتشاف أمر المفاعل السوري الذي يبدو أنه من صنع كوريا الشمالية، قرر رئيس الحكومة الإسرائيلية، إيهود أولمرت، استخدام "عقيدة بيغن" التي ترى أن على إسرائيل منع أي دولة معادية لها من الحصول على تقنية تسمح لها بإنتاج سلاح نووي. لكن أولمرت بخلاف مناحيم بيغن الذي قصف المفاعل النووي العراقي سنة 1981، وأعلن مسؤولية إسرائيل عن ذلك، من دون أن يُعلم حلفاءه الأميركيين مسبقاً بالعملية، قرّر استخدام سياسة الغموض، ونسّق العملية مسبقاً مع الأميركيين، ووضع حلفاء إسرائيل في صورة ما حدث، فور وقوع الهجوم. الأمر الذي أمن له غطاء ودعماً أميركيين، وتواطؤاً دولياً صامتاً.
كان الغرض الأساسي من سياسة الغموض، بحسب الساسة الإسرائيليين، إعطاء نظام بشار
الأسد "هامشاً من الإنكار"، يتيح له عدم الرد، وبالتالي عدم التسبب بتصعيد كبير، يمكن أن يؤدي الى حرب شاملة، لكن الحماسة الإسرائيلية في الدفاع عن إنجازات سياسة الغموض تبدو مضللة، وغير حقيقية، بالمقارنة مع الوقائع الأمنية الحالية في سورية، فأي جدوى فعلية اليوم من حديث إسرائيل عن إنجازات المحافظة على "هامش الإنكار"، في وقت تغيرت فيه تماماً قواعد اللعبة في سورية، وبعد خسارة سلاح الجو الإسرائيلي حرية المناورة، وشن هجمات على سورية كما يشاء، ومن دون أن يعلن عنها. وبعد الاشتباك الذي حدث في مطلع شهر فبراير/ شباط الماضي، عندما أسقطت الدفاعات الجوية السورية طائرة إف -16 إسرائيلية كانت في مهمة هجومية داخل سورية. من ناحية أخرى، لا حقيقة للكلام الإسرائيلي إن سياسة الغموض سنة 2007 هي التي حالت دون التدهور يومذاك إلى حرب شاملة، فالكل يعلم حق العلم أن نظام بشار الأسد يومها، بغض النظر عن قدراته الصاروخية، وقدرته على تدفيع إسرائيل ثمناً مؤلماً، لم يكن يجرؤ على الدخول في مواجهة مع إسرائيل، يمكن أن تتحول إلى حرب جبهوية، وأن الأسلوب المفضل بالنسبة إليه، في تلك الفترة، كان محاربة إسرائيل بالواسطة عبر حزب الله في لبنان، والتنظيمات الفلسطينية في فلكه، وتجنب أي مواجهة عسكرية مباشرة معها. لكن هذا الوضع تبدّل اليوم، وأصبح نظام الأسد أكثر جرأة على تحدي إسرائيل أو الرد عليها. اختلفت التوازنات تماماً اليوم مع الوجود العسكري الروسي والإيراني في سورية، وما يقدمه ذلك من حماية ودعم لنظام الأسد في وجه أي هجوم قد تشنه عليه إسرائيل.
لكن أكثر ما يثير السخرية أن الكشف عن "أسرار" الهجوم على مفاعل دير الزور كشف النزاعات الخفية بين رئيس الحكومة آنذاك، إيهود أولمرت، ووزير دفاعه إيهود باراك الذي شكك في جدوى الهجوم، واعتبر أن أولمرت خطط له خدمة لأهداف سياسية شخصية، منها تعويم زعامته التي كانت تتعرّض لانتقادات حادة من لجنة فينوغراد للتحقيق في إخفاقات حرب لبنان سنة 2006. ومن المفارقات أن سياسة الغموض تحديداً كانت سبباً في عدم استفادة أولمرت من نجاح العملية سياسياً، وأن خلافه مع باراك، والاتهامات بالفساد التي وجهت إليه كانت سبباً في سقوط حكومته، ونهاية مسيرته السياسية بصورة مخزية مع دخوله السجن، ومهدت لوصول بنيامين نتنياهو إلى الحكم، وتحوله إلى الزعيم الأكثر شعبية.
نحاول عبثا البحث عن الفائدة الاستراتيجية من الكشف الإسرائيلي اليوم عن هجومٍ لم يعد سراَ منذ زمن طويل. هل هو رسالة إلى إيران، كما يلمّح محللون، لردعها عن العمل سراً في نشاطات نووية، أم بداية مرحلة أكثر عنفاً في التعامل الإسرائيلي مع النشاطات النووية في المنطقة، أم هو رد غير مباشر على رغبة دول خليجية، مثل السعودية، الحصول على تكنولوجيا نووية مدنية، أم هو تذكير للاعبين الإقليميين في سوريو ونظام بشار الذي استعاد اليوم سيطرته على أكثر من 70% من أراضي سورية من مغبة التفكير باستعادة العمل على مشروعه النووي؟
من يتابع الجدل والخلافات الدائرة بين المسؤولين السابقين عن الأجهزة الاستخباراتية الإسرائيلية ومحاولة كل منها أن يعزو إلى نفسه إنجاز الكشف عن وجود المفاعل، فيما تظهر التقارير الجديدة عن العملية وجود تقصير استخباراتي كبير، وأن هذه الأجهزة عرفت عن المفاعل في وقت متأخر، ومصادفة من خلال الحصول على معلومات كانت على حاسوب مسؤول سوري، من يتابع كل هذا الجدل يتكون لديه انطباع كما لو أن هؤلاء المسؤولين يعيشون في فقاعة، منفصلين عن العالم الذي يحيط بهم.
وفي الواقع، لا يعدو ما يعتبره المحللون الإسرائيليون اليوم نهاية حقبة سياسة الغموض، ويعطونه أهمية مبالغا فيها وأبعاداً استراتيجية وأمنية بالغة الأهمية، أن يكون نهاية مرحلة الكذب الإسرائيلي الوقح.
في سبتمبر/ أيلول 2007، وبعد اكتشاف أمر المفاعل السوري الذي يبدو أنه من صنع كوريا الشمالية، قرر رئيس الحكومة الإسرائيلية، إيهود أولمرت، استخدام "عقيدة بيغن" التي ترى أن على إسرائيل منع أي دولة معادية لها من الحصول على تقنية تسمح لها بإنتاج سلاح نووي. لكن أولمرت بخلاف مناحيم بيغن الذي قصف المفاعل النووي العراقي سنة 1981، وأعلن مسؤولية إسرائيل عن ذلك، من دون أن يُعلم حلفاءه الأميركيين مسبقاً بالعملية، قرّر استخدام سياسة الغموض، ونسّق العملية مسبقاً مع الأميركيين، ووضع حلفاء إسرائيل في صورة ما حدث، فور وقوع الهجوم. الأمر الذي أمن له غطاء ودعماً أميركيين، وتواطؤاً دولياً صامتاً.
كان الغرض الأساسي من سياسة الغموض، بحسب الساسة الإسرائيليين، إعطاء نظام بشار
لكن أكثر ما يثير السخرية أن الكشف عن "أسرار" الهجوم على مفاعل دير الزور كشف النزاعات الخفية بين رئيس الحكومة آنذاك، إيهود أولمرت، ووزير دفاعه إيهود باراك الذي شكك في جدوى الهجوم، واعتبر أن أولمرت خطط له خدمة لأهداف سياسية شخصية، منها تعويم زعامته التي كانت تتعرّض لانتقادات حادة من لجنة فينوغراد للتحقيق في إخفاقات حرب لبنان سنة 2006. ومن المفارقات أن سياسة الغموض تحديداً كانت سبباً في عدم استفادة أولمرت من نجاح العملية سياسياً، وأن خلافه مع باراك، والاتهامات بالفساد التي وجهت إليه كانت سبباً في سقوط حكومته، ونهاية مسيرته السياسية بصورة مخزية مع دخوله السجن، ومهدت لوصول بنيامين نتنياهو إلى الحكم، وتحوله إلى الزعيم الأكثر شعبية.
نحاول عبثا البحث عن الفائدة الاستراتيجية من الكشف الإسرائيلي اليوم عن هجومٍ لم يعد سراَ منذ زمن طويل. هل هو رسالة إلى إيران، كما يلمّح محللون، لردعها عن العمل سراً في نشاطات نووية، أم بداية مرحلة أكثر عنفاً في التعامل الإسرائيلي مع النشاطات النووية في المنطقة، أم هو رد غير مباشر على رغبة دول خليجية، مثل السعودية، الحصول على تكنولوجيا نووية مدنية، أم هو تذكير للاعبين الإقليميين في سوريو ونظام بشار الذي استعاد اليوم سيطرته على أكثر من 70% من أراضي سورية من مغبة التفكير باستعادة العمل على مشروعه النووي؟
مقالات أخرى
06 أكتوبر 2024
21 سبتمبر 2024
06 سبتمبر 2024