لم تكد تمر عشرة أيام على السماح لمرضى السياحة العلاجية في تركيا بالدخول إلى الأراضي التركية حتى تخطي عددهم الألف مريض، بما يؤكد على مكانة المقصد السياحي التركي بصفة عامة، والعلاجي منه على وجه الخصوص، وهو الأمر المدعوم بجيش من الأطقم الطبية الماهرة، والعديد من المشافي عالمية التجهيزات، بالإضافة إلى انخفاض سعر الليرة التركية أمام الدولار، وهو ما أكسب الخدمة الصحية التركية ميزة سعرية تنافسية مقارنة بنظيراتها في دول العالم المختلفة.
ومن الجدير بالذكر أنه بعد انتشار فيروس كورونا في تركيا، لم يتعرض القطاع الصحي لأزمة مماثلة لتلك التي حدثت في العديد من البلدان الأوروبية المتقدمة، واستطاع القطاع الصحي أن يستوعب أعداد المصابين، وطبقا لتصريحات وزير الصحة التركي، فإنه في ذروة الأزمة لم تتخط نسبة الإشغال في المستشفيات أو في حجرات الرعاية المركزة نسبة 70%، مع ظاهرة تركية فريدة وهي الاهتمام بالمسنين تحت شعار الوفاء.
ففي الوقت الذي اعتمدت فيه بعض الدول الأوروبية بروتكولات الحرب، والتي تعني تقديم علاج الشباب على المسنين، وهو ما تسبب في وفاة أعداد كبيرة منهم، كانت الدولة التركية تقدم خدمات خاصة لهؤلاء في منازلهم، حيث حظرت عليهم الخروج للشوارع كليا، وشكلت فرقا من الشرطة والبلديات لتوصيل احتياجاتهم إلى المنازل، إضافة إلى الدعم العيني السلعي الذي كان يصل إلى باب المنزل دون الحاجة إلى الوقوف في طوابير طويلة مذلة، هذا بخلاف الخدمات الصحية التي تقدم للجميع كما للمسنين وفق نظم التأمين الصحي الشامل للمواطنين الأتراك.
ومن اللافت كذلك أن اهتمام الدولة التركية الصحي في ظل جائحة كورونا كان مجانيا تماما، بداية من توزيع الكمامات الطبية مجانا بالشوارع، أو صرف كميات منها مجانا عبر أقرب صيدلية مجاورة بعد وصول رسالة على الهاتف الجوال، ولم يقف أمر مجانية العلاج عند حدود المواطنين الأتراك، بل تخطاه إلى كل المقيمين على الأراضي التركية أثناء الجائحة، حتي لأولئك الذين انتهى سريان مدة إقامتهم القانونية.
بالطبع فإن نجاح القطاع الصحي التركي سواء على مستوى مواجهة أزمة كورونا، أو على مستوى احتلال مقعد مرموق ضمن قوائم مقاصد السياحة العلاجية في العالم، لم يأت من فراغ، بل عبر رؤية حكومية متكاملة لتنمية القطاع نفذها الحزب الحاكم خلال الأعوام العشرين الماضية، وأنتجت هذه الرؤية كما صرح الرئيس أردوغان تجاوُز أعداد أفراد الأطقم الطبية في تركيا منفردة أعداد مثيلاتها في كل الدول الأوروبية، كما أنتجت العديد من الصروح الطبية التي تتصدر أخبار افتتاحها عناوين الصحف السيارة.
وقد نفذت الحكومة التركية خطة إصلاح القطاع الصحي عبر وضع القطاع على قائمة أولويات الإنفاق الحكومي طيلة العشرين عاما الماضية، حيث زادت مخصصات القطاع من 18.7 مليار ليرة في عام 2002 إلى 116.7 مليار ليرة عام 2016، ثم نحو 188.6 مليار ليرة (32 مليار دولار) في الموازنة العامة للعام الحالي، وبذلك تكون الدولة التركية قد رفعت مخصصات القطاع الصحي في الموازنة العامة للدولة من 11.3% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2002 إلى 17.2% في عام 2020، وبالطبع توجهت الزيادات في هذا الإنفاق نحو المكونات المختلفة للقطاع.
وقد دشنت الدولة التركية نظام التغطية الصحية الشاملة عن طريق ضم جميع المسجَّلين ضمن نظام واحد، وجعلت مؤسسة واحدة فقط هي المسؤولة عن النظام الصحي في البلاد، بما يضمن تقديم خدمات الرعاية الصحية للجميع من خلال حزمة واحدة من المزايا، كما أنشأت الحكومة نظام الضمان الاجتماعي الذي يمكّن الجميع من الحصول على رعاية صحية مجانية أو منخفضة التكلفة، كما أصبح في كل حي مركز طبي خاصّ به، يسمى بمركز الأسرة الصحي، يوفّر الرعاية الطبية المبدئية بالمجان للجميع، لا سيما الأطفال والنساء، وكل ذلك تحت إشراف وزارة الصحة.
وأسهم تبسيط نظام الرعاية الصحية وتكييفه ليلائم احتياجات الأفراد، في تحسُّن النواتج الصحية في مختلف أنحاء البلاد، وطبقا لبيانات البنك الدولي فقد أسهمت التغطية الصحية الشاملة في تحسين النواتج الصحية، وتعزيز الإنصاف في التمويل، وتحسين الحماية المالية، وزيادة رضا المستخدمين، حيث ساعدت التحسينات في زيادة متوسط العمر المتوقع والنواتج الصحية الأخرى، ويقترب متوسط العمر المتوقع عند الولادة حالياً من المتوسط في بلدان منظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي، فالأطفال الأتراك المولودون في عام 2014 يزيد متوسط أعمارهم بواقع 6 سنوات (من 71.9 إلى 77.7 سنة) مقارنةً بالأطفال المولودين في عام 2002.
وتؤكد النظرة السريعة إلى الأحجام الاستيعابية للمجمعات الصحية العملاقة التي أنشاتها الدولة خلال الفترة الماضية، حجم الجهود المبذولة في ذلك، وأين وكيف أنفقت هذه المخصصات، فمن بين هذه المجمعات، مستشفى "بيلكنت" في العاصمة أنقرة الذى افتُتح عام 2019، والذي يُعَدّ أكبر مستشفى في أوروبا والثالث على مستوى العالم، إذ يضمّ 3 آلاف و633 سريراً، و131 غرفة عمليات، إضافة إلى 904 عيادات خارجية، كما يتميز بقدرته اليومية على استقبال 30 ألف مريض و8 آلاف حالة طوارئ، وبه أكبر معمل طبي في البلاد، علاوة على منطقتين لهبوط وإقلاع المروحيات.
والمدينة الطبية العملاقة التى افتتحها أردوغان الشهر الماضى، والكائنة في العاصمة التجارية إسطنبول بمنطقة باشاك شهير، التى تضمّ 6 أبنية أقيمت على مساحة مليون متر مربع، سوف تقدّم خدماتها الطبية لـ23 ألفاً و600 مريض، بعدد أسرة يبلغ 3102 سرير منها 520 للعناية مركزة، و90 غرفة عمليات، و1662 غرفة إقامة.
ولم يتوقف الأمر عند بناء المستشفيات، فقد توسعت الدولة في بناء الجامعات وركزت على تدشين كليات الطب والتمريض، والتى أصبحت مقصدا تعليميا هاما للطلاب من كل دول العالم لاسيما الدول العربية، وساعدت النهضة التعليمية الصحية تركيا على رفع عدد الأطباء لكل 100 ألف شخص من 138 طبيباً عام 2002 إلى 184 عام 2016، ومؤخراً صرّح الرئيس التركي قائلاً: "لدينا جيش طبي ضخم يضمّ 165 ألف طبيب و205 آلاف ممرضة و360 ألف موظف مساند"، وهو عدد يزيد عن اجمالي عددهم في الدول الأوروبية تقريبا طبقا للرئيس.
كما نجحت تركيا في ظل أزمة كورونا وفي خلال أقل من شهرين، في البدء في تصنيع جهاز تنفس صناعي محلي، وبالفعل بدأ إنتاجه التجاري وتم تصدير خمسة آلاف جهاز كمرحلة أولى خلال الشهر الماضي.
النهضة الكبيرة في القطاع الصحي التركي بمكوناته المختلفة، بداية من التعليم، ومرورا بالأبنية، ونهاية بالنظام المؤسسي، تؤكد عمق التخطيط، وإصرار الحكومة على مواجهة وتذليل الصعاب، وهي درس كبير لمن يهمه الأمر من الدول العربية، أن التنمية لا تكون بالشعارات والأغاني الحماسية، ولكن للتنمية عناصر يخطط لها، وتخصص لها الموازنات، وتحتاج إلى البشر وتأهليهم وتقديرهم ماديا ومعنويا، إلى جوار الحجر من مستشفيات ومؤسسات، وبغير ذلك فهي استهلاك للوقت، وضياع للفرص السانحة التي ربما لن تسنح مرة أخرى.