لا يخرج الشاعر نوري الجرّاح (دمشق، 1956) من قصيدته أو عليها، أعني أنه مع انشغاله بوقائع ملموسة من حوله لا يفارقها كما يبدو من تلميحات قليلة نادرة إلى بيت جدّه الدمشقي، يظل في قصيدته، ولا يتسلل إلى شارع أو زاروب يضطرب فيه أناس مختلفو المشارب والاتجاهات، يحدث هذا في آخر مجموعاته الشعرية حاملة العنوان المزدوج "لا حرب في طروادة: كلمات هوميروس الأخيرة" (منشورات المتوسط، إيطاليا، 2019)، بل ويُشعر القارئ، كما فعل في مجموعاته الشعرية السابقة، أنه ليس بحاجة إلى من يخاطبه أو ينادمه أو يكون صوته.
وليس هذا هو الخروج الوحيد على مألوف الخطابات الشعرية، أو أكثريتها، بل يضاف إلى هذا خروج آخر على ما يقوله الشاعر عادة؛ حين يقول ويعني ويفسّر. أو بعبارة أكثر وضوحاً، هو في كلا الحالين لا يخرج على عمل الشاعر؛ أن يرسم ويصوّر ويلوّن، ويوحي قبل كل شيء، وليكن ما يكون، كأن يقال إنه يقيم سوراً حول قصيدته، أو أنه غير معني بمصائر البشر، أو أنه أشبه بنرسيس العاكف على صورته في مياه البحيرة، لأنه يحمي في الحقيقة قصيدته من أن يخترقها ما هو غير شعري، أي ما هو خارج وظيفة الشاعر المشغول بمصائر ومشاغل تتجاوز العابر والمؤقت والزائل إلى ما هو أبدي.
الشاعر ليس صوت أحد، ولكن لا يوجد من لا يستولي عليه الفضول، أو فكرة ما، فيصغي إليه أو يقرأ ما نقشه في الماضي، أو كتبه في الحاضر، محاولاً أن يستضيء بقصيدة أو سطر منها، وليس هناك بالطبع من لا يحاول امتطاء قصيدة الشاعر بهذه الحجة أو تلك لا لتكون ضوءاً بل لتكون مركبة يصل بها إلى شأن خاص به ثم يرميها ويرمي صاحبها حين يصل إلى غايته.
كأن الشاعر يحمي قصيدته من أن يخترقها ما هو غير شعري
الجرّاح في هذه المجموعة شاعر رثاء بامتياز، رثاء خراب طامٍ لا يقول لنا أسبابه تحديداً، ربما لأنه فقد الثقة بما عرض له أو عليه من أسباب، وإنما يوحي بها بصور عنيفة يرسمها ويلوّنها عائدونَ من موتهم في مواكب متخيلة؛ كل شيء حدث، وما يكتب الآن يكتب في زمن لاحق، وأيضاً من غير تحديد، فقد يكون الأمس أو الغد، أو طافياً فوقهما. ويمكن استخلاص الإشارة إلى هذا من ما نستشفه من مكابدات شخصيات واقعية وأسطورية يتقمّصها الشاعر، وكلها مأساوية في حياتها وموتها؛ إيكاروس المحلّق هارباً من سجنه بأجنحة ثبّتها والدهُ - ديدالوس الأسطوري أيضاً - بالشّمع، وعوليس الضائع لمدة عشرين سنة في البحر محاولاً العودة إلى بيته، وباريس الذي يقدم جمال الربّة أفروديت (المرأة الغريبة) على جمال منافساتها، فتكافئه بحب هيلين، وهو الحدث الذي يشعل حرب طروادة، وأخيل صاحب القدمين السريعتين، وبروميثيوس سارق النار السماوية.. إلخ.
وبجوار هذا المناخ اليوناني العابق بشميم الأزهار اليونانية ومآسيها، تتأرج عطور من أساطير شرقية بعيداً بالطبع عن "شميم عرار نجد وريا روضه" أو أي روض قريب منه. هنا جلجامش الهارب من الموت في حضرة سابئة الخمرة سيدوري، وهنا "أليعازر" العائد من الموت، والذي يهيمن صوته على كل طرقات وساحات وبحار وجزر هذه المرثية منذ البداية وحتى النهاية: "أنهض من رقادي/ وأقف في المرآة/ مَنْ دفنني هنا/ وتركني/ في لجةٍ/ بلا بوصلةٍ ولا دليل سوى ذلك الضوء الشاحب/ في شق نافذة؟/ هل أشبه إليعازر؟".
ويواصل الشاعر تقمص هذا الشبح العائد وتمثيل دوره، وليس اتخاذه قناعاً كما يشاع عن هذه التقانة الفنية، ليصلنا عبر عينيه بالخراب، ويتركنا معه وجهاً لوجه من دون دليل، فكل شيء هنا قوامه الإيحاء لا القول ولا الشرح ولا الخروج خارج القصيدة. وبهذا الأسلوب الذي أظنه مبتكراً تتحقق القصيدة، فتتكئ على شعريتها، لا على أحداث وبيانات سياسية تسهّل ركوبها لمن يود امتطاءها، سواء كان ناقداً أو زعيم عصابة.
لا حرب في طروادة، لا بحر ولا مراكب ولا سلالم على الأسوار
ويقرر الشاعر من دون افتعال أنه ليس شبيه إليعازر، وبلفتة بارعة يربط الخيوط بعضها ببعض: "أنا أليعازر الدمشقي/ خرجتُ من باب الفراديس ووجدتُ الجنان تحترق/.. وعلى المنحدرات الشائكة حيث انهمرت الأجساد على الأجساد وسمعتُ الصرخات، تلهث الشمس، وبلسانها المحترق تلحس عظام الهالكين/ الرعدة تدبّ في أوصال الصخور/ الرعدة تقتحم ظهر الجبل/ والحجارة العمياء تساقط على البيوت/ أهذه إرَم؟/ هذا الجبل أهو قاسيون؟".
بمجرد ذكر لقب "الدمشقي" واسم "قاسيون" يربط الشاعر بين ما يبدو خراباً طافياً في الفضاء بالمكان، إلا أنه لا يفصل ولا يطيل في توصيف الأمكنة، ولا يخرج على أسلوب التلميح والإيحاء. فنعرف عن أي أرض يدور الحديث، وعن أي بيت تشرّد المتشرّد بمجرّد قوله: "أرى ظلّي مسجّى/ ووجهي يوم كنت صبياً/ أراه يتلفت/ في زقاق في دمشق".
بهذا الالتفات النادر شعرياً إلى الوطن، بلا ضجيج وعجيج، يتمكن الشاعر من الرحيل والطواف عبر الأزمنة والأمكنة من دون أن يبدو طوافه افتعالاً. صحيح أن تقانة التصوير والإيحاء وإثقال القصيدة بمسارح لا تعد ولا تحصى، يتقمّص ويمثل على خشباتها أدوار أبطال وآلهة، أحياء وموتى، يكادون يتجاورون ولا يتعاقبون، يمكن أن يترك القارئ في متاهة بلا دليل إن لم يكن ذهنه متصلاً كما هو ذهن الشاعر بعشرات وربما بمئات "الوصلات" Links، على شاشة وعيه ومخيّلته، تصل إليه بلمحة بعوالم هؤلاء الذين يتقمّص الشاعر أدوارهم بلا مشقة كما يبدو لأنهم في متناوله، ولكن هل هناك قراءة لا تعتبر مغامرة تستحق الجهد أو المحاولة على الأقل؟
في النصفين الأول والثاني من القرن العشرين، تجوّل شعراء محدثون عرب في عوالم جديدة على غالبية القرّاء، وظل بعضهم مستغرقاً يتذكّر شميم عرار نجد، وديار ميّة أو عبلة.. وما إلى ذلك من روائح ومظاهر وشخصيات، وجادت تلك الجولات بالكثير من "التثاقف" و"التأنق" والقليل من "الشعرية"، فلم تستطع غالبية هؤلاء على الأقل إذابة عناصر الأساطير والقصص والهمسات والقصائد سواء كانت شرقية أو غربية في بوتقة واحدة، أي في سبيكة واحدة، وظلت عناصر متنافرة، أي ظلت تفتقر إلى تجانس هو من صميم الإحساس الشعري.
هنا في هذه المجموعة يختلف الأمر، فالشاعر يقيم بتقانته الشعرية أُلفة بين القارئ وبين ما يراه ويفكر فيه ويستحضره من عوالم تكاد تقترب من التهاويل. ولم أشعر حقيقة وأنا أقرأ أنني غريب تائه في هذا الرحيل بين البلدان والجزر والبحار والأسماء، ولا أن هذه غريبة عني أو تنفر من وجودي.
وحتى حين جاءت "كلمات هوميروس الأخيرة" لتقول لي:
"لا حرب في طروادة/ لا بحر ولا مراكب ولا سلالم على الأسوار/ لا حصان خشبياً ولا جنوداً يختبئون في خشب الحصان/ سأعتذر لكم يا أبطالي الصرعى/ لا حرب في طروادة/ لا دم ولا دموع/ لا أقواس نصر ولا أطواق غار في الرؤوس/ هيلين وحدها كانت تتشمس في حديقة هوميروس/ ولأجل وشاحها القرمزيّ وخدّها الأسيل/ أسلم خياله للريح/ وأصابعه للأوتار".
وحين انتهى إلى القول: "لا حرب في طروادة/ المنشد أسلم قيثارته للريح/ واسترد أصابعه من الأوتار/عودوا إلى بيوتكم/ عانقوا الزوجات الصغيرات وقبّلوا الأطفال/ وتلهوا بخمرة العيد".
لم أجد الأمر غريباً، فأنا أعلم أن إعادة التفكير بالأزمان وأحداثها مجدداً (وهي خاصية شعرية أيضاً) هي من منجزات التطور الثقافي الذي يعيش في ظلاله عالم اليوم، وليس بعيداً عنّا ما كتبه الأرجنتيني/الأوروغوائي إدواردو غاليانو (1940-2015) في كتابه "مرايا: قصص الجميع تقريباً" عن الجندي الإغريقي القتيل على أسوار طروادة: "هل شعر مسبقاً أن هيلين لم تكن في طروادة قط/ وأن شبحها وحده كان هناك؟/ وأن عشر سنوات من المذابح وقعت من أجل عباءة خالية؟".