"لا توجد طريقة واحدة للقراءة الجيدة"، بهذه العبارة يقدّم الناقد والكاتب وأستاذ الأدب والدراسات الإنسانية بجامعة ييل الأميركية هارولد بلوم (1930 - 2019)، الذي رحل قبل أيام، أهم مفاتيح فهم أعماله بعد رحلة طويلة وضع فيها أكثر من أربعين كتاباً في الأدب والنقد والفكر تضمّنت الكثير من المواقف المثيرة للجدل.
يقدّم بلوم نفسه على أنه صاحب الذاكرة البصرية الغريبة التي مكّنته من قراءة ألف صفحة يومياً عندما كان شاباً، وهي جزئية مهمة لفهم غزارة إنتاج الرجل وموسوعية اطلاعه على المنجز الشعري، لاسيما إنتاجات كبار الشعراء العالميين. لكن القراءة الكثيفة، للشعر، على وجه التحديد، لم تجعل منه شاعراً، أو حتى محاولاً له، معتبراً كتابة الشعر، كالعتبة التي يحرسها الشيطان، إذ إنه لم يجرؤ على كتابة بيت واحد من الشعر طوال حياته.
وعلى الرغم من إصداره كتاب "شكسبير، ابتكار الطبيعة الإنسانية" (1998) الذي حلل فيه مسرحيات شكسبير الثماني والثلاثين كدليل للقراء العاديين ومتخصّصي المسرح على حد سواء، إلا أنه يقول في إحدى مقابلاته: "إنني، كما تعرف، لست باحثاً متبحّراً في شكسبير، ولكنني مجرّد قارئ متحمّس. إن قراءة شكسبير نوع من التدريب في عملية الإدراك الذاتي"، مجادلاً بجرأة بالقول إن فهمنا للطبيعة البشرية ظهر بالكامل تقريباً من شكسبير، وخاصة من هاملت، كما وُجد في هذه الشخصية كامل الوعي الإنساني. لم يكن الكتاب مجرّد نقاش أدبي مثير للجدل والاستفزاز، بل هو كتاب يوفر للقارئ العادي الأدوات اللازمة لفهم أعمال شكسبير من منظور نقدي.
في كتابه "قلق التأثر" الذي تناول فيه سيرة بانورامية جغرافية لأعمال مؤسِّسة في الأدب العالمي، ركّز على قلق الشعراء من أجل التخلص من تأثير الشعراء السابقين، وتمكينهم من خلق طريقتهم ورؤيتهم الفردية الخاصة.
كانت أهم كتبه على الإطلاق "القانون الغربي.. تراث الأدب الغربي" (1973)، والذي تناول فيه ستة وعشرين من كبار الكتّاب بدءاً بدانتي، ومروراً بـ تولستوي وفرجينيا وولف وكافكا، وانتهاءً بصامويل بيكيت، فقد هيّأ هؤلاء الفرصة لفهم "القانون الغربي" على حد وصفه، إذ حاول فيه إبراز القيم الجمالية التي ضمّنت لهم مكانة أساسية على مر العصور.
ويُعرّف بلوم فكرة القانون بأنها السلطة التي تمنح الكاتب مكانة أدبية في الثقافة الغربية والمعيار المرجعي التي تُقاس عليه أية قيمة إبداعية في مجالات الأدب والثقافة، مؤكداً فيه أن المكانة العليا لهؤلاء جاءت بسبب مزايا العمل وليس هوية المؤلف. كما اتصفت أعمال هؤلاء، وفق رأيه، بـ"جودة كنسية، فقيهة وأصيلة". يمكن أن نلاحظ أن القائمة التي يقترحها تقوم على شخصيات معظمها من الذكور، والبيض، ومتمركزة في الغرب.
يجادل صاحب "هاملت، قصيدة لا تنتهي" (2004) بأننا ما زلنا نقرأ أعمال هوميروس اليوم لأنّ أجيالاً من الإغريق القدماء تعرفوا عليه كأعظم روافع قيمهم الجمالية الجماعية، وكرسوه على هذا النحو. وكذلك يُقرأ دانتي بكل هذا التقديس لأن أجيالاً من الإيطاليين شيدت مناهجها الدراسية حول تقدير كتاب "الكوميديا الإلهية". لقد أجبرت هذه الأعمال عموم القراء والدارسين على اعتبارها علامة فارقة ذات قدسية عالية، ثقافياً وجمالياً.
يقول في كتابه: "حاولتُ الدخول إلى صلب الموضوع مباشرةً من خلال طرح السؤال الآتي: ما الذي يجعل من كاتبٍ ما ومن أعماله مرجعاً أو معتمداً أدبياً على مدار التاريخ؟ وكانت الإجابة عن السؤال بعد رحلة البحث الطويلة ببساطة شديدة: الغرائبية، تلك الحالة من الأصالة المهيمنة على كلّ عمل، أصالة لها بصمة واضحة لا يمكن تقليدها، ولا الفكاك من الوقوع في أسرها… لا أرى فرقاً بين الجمال والغرائبية داخل كل نص أدبي عظيم، تاريخ النصوص الكبرى يقفز من غرائبية إلى أخرى، من "الكوميديا الإلهية" لدانتي وصولًا إلى "نهاية اللعبة" لبيكيت... ".
اعتبر بعض النقاد الغربيين، وتحديداً الماركسيين، ما جاء به بلوم على أنه تقييم ثقافي وصبغة تقديسية على أعمال دون أخرى، وهذا ما لا ينكره في كل الأحوال، بل كان يعتقد بأن دراسة الأدب قد تم تسييسها إلى حد لم يعد فيه النقاد مهتمين بالقيمة الجمالية. صاغ إثر ذلك مصطلح "مدرسة الاستياء" في مواجه من وصفهم بـ"النسويين الزائفين والماركسيين الزائفين" الذين جادلوا بأنه "لا يوجد كتاب واحد أفضل من الآخر".
وفي السياق ذاته، يختلف بلوم مع فكرة التعددية الثقافية التي تؤكد الاعتقاد بأن جميع الأعمال الثقافية هي أعمال متساوية. ويعتبر ذلك تناقضاً فادحاً، لعملية إصدار الأحكام الجمالية. إذ لم يكن بالإمكان أبداً أن يواصل دون كيخوته الحياة في القمة، لو جرى النظر إليه ببساطة كنص واحد من بين نصوص أخرى. وذلك لأنه كان أعلى من الأعمال الأخرى التي لا نزال نقرأها اليوم. بدون هذا القانون، لا توجد وسيلة لمعرفة "مع وقتنا القليل، ما يستحق أن يُقرأ".
يورد في خاتمة كتابه "كيف نقرأ ولماذا" (2010): "أمّا وأنني قد بلغتُ التاسعة والستّين، فإنّ الأسئلة المطروحة حول كيف نقرأ ولماذا، هي أساسية الآن بدرجة أكبر مِن أي وقتٍ مضى في سبيل أي عمل ينبغي لنا أن نقومَ به".