هذا الغياب الفادح للسياسة
عرضت قناة الجزيرة الوثائقية فيلما وثائقيا عن السياسي الجزائري، مصالي الحاج (1898-1974)، في سياق مواكبتها الذكرى الثامنة والخمسين لاستقلال الجزائر. وعلى الرغم من أنه يأخذنا إلى سياقات تاريخية بعيدة، تشتبك فيها الأحداث والمواقف وموازين القوى المرتبطة بكفاح الشعب الجزائري من أجل نيل استقلاله، إلا أن الفيلم يعيد إلى الواجهة إحدى أكثر المشكلات استعصاءً في الاجتماع السياسي العربي المعاصر، والتي تتعلق بغياب السياسة، بما هي فن الممكن، كما يقال.
لعب مصالي الحاج، منذ منتصف عشرينيات القرن الماضي، دورا بارزا في الحركة الوطنية الجزائرية. وقد مكّنته إقامته في فرنسا من الاحتكاك بالعمل النقابي والسياسي والإعلامي. فأسّس أحزابا وأصدر صحفا واكتسب خبرة تنظيمية واسعة، أهلته ليصبح رقما أساسيا في معادلة الأزمة الجزائرية إلى حدود نهاية الخمسينيات، قبل أن تنقلب موازين القوى لصالح الخط الثوري الذي مثلته جبهة التحرير الوطني، والذي سرعان ما هيمن على مفاصل الدولة الجزائرية بعد الاستقلال.
لم يكن مصالي الحاج معارضا للكفاح المسلح ضد الاستعمار الفرنسي، كما روّج ذلك مُناوئوه، بل كان يرى أن الظروف لم تكن ناضجة، بما فيه الكفاية، لانطلاق الثورة الجزائرية في نوفمبر/ تشرين الثاني 1954، وأن العمل السياسي السلمي لم يكن قد استنفد إمكاناته في تقريب الجزائر من حلم الاستقلال. واعتقد، بخبرته، أن السياسة يمكن أن تُشكّل خطا موازيا للعمل المسلح. ولأن التاريخ يكتبه المنتصرون، فقد نجح الجناح الثوري الذي قاد الكفاح المسلح، واستلم السلطة بعد استقلال الجزائر (1962)، في إزاحة اسم مصالي الحاج من الذاكرة الوطنية الجزائرية، تخوينا أحيانا، وإقصاء مقصودا أحيانا أخرى.
أفضى إقصاء مصالي الحاج إلى استئثار الجناح الثوري بتدبير تحوّلات الثورة الجزائرية. ولأن السياسة كانت غائبةً في إدارة تناقضات هذا الجناح، لم يكن أمام رفاق السلاح، الذين دبت الصراعات بينهم، إلا العنف لتدبير تباين أولوياتهم في بعض محطات هذه الثورة. وقد نجازف في القول إن تبعات هيمنة هذا الجناح لن تقتصر على مرحلة النضال ضد المستعمر الفرنسي، بل ستمتد سنوات بعد الاستقلال. وحين منحت نهاية الحرب الباردة الجزائرَ فرصة تاريخيةً للقطع مع الاستبداد، والتحول نحو الديمقراطية، لم تكن الثقافة السياسية للنخبة العسكرية الحاكمة تسمح بذلك، بسبب إرث التصلب الفكري والأيديولوجي والسياسي الذي ورثته عن مرحلة الكفاح الوطني. ولم تكن العشرية السوداء، بكل مآسيها، إلا تبدّيا صارخا لهذا التصلب وامتدادا له.
بالطبع، لم تكن الجزائر البلد العربي الوحيد الذي انفرد بهذه الخاصية، فقد احترب القوميون واليساريون والعلمانيون والإسلاميون في أكثر من بلد. ويكاد لا يسلم التاريخ المعاصر لمعظم البلدان العربية من فصول سوداء، كانت شاهدةً على تسيُّد العنف والاغتيال ونبذ الرأي المخالف. ولم تكن مقولات الحوار الوطني، والتعايش، والتوافق والتعدّدية، في الغالب، إلا عناوين بارزة لتدبير الضغوط الخارجية والمآزق الداخلية التي قد يجد هذا النظام أو ذاك نفسه في مواجهتها. وبقدر ما كانت تغيب السياسة، كانت الوثوقيات الفكرية والسياسية تزداد تغوّلا في ظل شيوع ثقافة التخوين، مع ما يعنيه ذلك، بكل أسف، من تجفيفٍ متواترٍ لمنابع النسبية والتعدّدية واحترام الحق في الاختلاف والتنوع.
كشفت ثورات الربيع العربي عن مساحة واسعة من هذا العطب البنيوي الذي يقيم في التركيبة الثقافية والسياسية العربية، فقد عجزت القوى التي فجرت هذه الثورات عن التوافق على برامج سياسية مرحلية، تكون مدخلا لصياغة عقود اجتماعية جديدة، لكن ضعف توطّن قيم الحرية، والتسامح، واحترام الآخر في مداركها حال دون انتقال المجتمعات العربية إلى طوْر التطبيع مع الديمقراطية، مكتفيةً برتوشها الشكلية.
تعدُّ السياسة فضاء عموميا مفتوحا أمام التدافع الاجتماعي والسياسي السلمي، وصياغةِ التسويات والتوافقات التي تُتيح مغالبة التصلب وتعزيز فرص التعايش بين مختلف القوى والمذاهب والتيارات الفكرية والسياسية، بيد أن احتكار النخب الحاكمة هذا الفضاء للحفاظ على مكاسبها التي راكمتها سيظل يُشكّل تربة خصبة لنمو التطرّف الذي لا يتوسل بغير العنف وسيلة وحيدة لتحقيق أهدافه.