في جلسة جمعتني أخيراً برئيس الحكومة التونسية المكلف هشام المشيشي، واستمرت ساعة، يبدو الرجل مُدركاً تماماً لصعوبة المسؤولية التي ألقيت على عاتقه في ظرف حرج تمرّ به البلاد. وقد أشار في سياق حديثه إلى مسألتين: أكد أولاً أنه لا ينوي القيام بثورة، ولا يدعي أنه يحمل معه "مفاتيح الجنة" (الحلّ السحري)، كل ما يسعى إلى تحقيقه هو إيقاف التدهور الذي يهدد البلاد والذي تتسارع وتيرته بنسق مخيف. أمّا الملاحظة الثانية التي سجلها الرجل من خلال مشاوراته الجارية مع كل الأطراف تقريباً، والتي أثارت قلقه، فتتمثّل في أنّ جميع الأحزاب والكتل التي استمع إليها حذّرته من دون استثناء، من إشراك أطراف حزبية أخرى؛ أي أنّ معظم قادة الأحزاب الذين استقبلهم نصحوه بعدم إشراك خصومهم في أي حكومة ائتلافية، واعتبروا ذلك شرطاً لقبول الدخول في حكومته المقبلة. فالخلافات التي عصفت بالأحزاب بعد عشر سنوات من التناحر جعلتها غير قادرة على التعايش داخل حكومة واحدة، وهو ما أوقعه في حيرة شديدة، وجعله يخشى أن يعيد تجربة الحكومات الحزبية السابقة، ويقدم على تكوين فريق قائم على المحاصصة، فيجد نفسه واقعاً في سلسلة من الأزمات التي سرعان ما تنتهي بالفشل والانهيار. ويذكر في هذا السياق، أنّ الحكومة التي قادها إلياس الفخفاخ، حتى لو لم يعصف بها ملف تضارب المصالح، فإنها ما كانت لتكون قادرة على الصمود طويلاً في وجه الخلافات التي كانت تتصاعد بين الأحزاب المكونة لها، إذ كلما حصل خلاف داخل البرلمان انعكس آلياً على العمل الحكومي.
وبصرف النظر عن شخصية المكلف بتشكيل الحكومة، سواء رضي بأن يكون وزيراً أول خاضعاً لرئيس الدولة أو رئيس حكومة فعلياً يتمسّك بكلّ صلاحياته الدستورية، فإنه في الحالتين سيجد نفسه مطحوناً بين مختلف الكيانات الحزبية. ومما يزيد الوضع تعقيداً أنّ الرئيس قيس سعيّد ليس محايداً في هذه المسألة وليس مهيأ لكي يلعب دور الوسيط الإيجابي، إذ إنه أعلن عداءه للأحزاب، وهو يسعى لتهميشها.
الأيام المتبقية أمام المشيشي ستشهد العديد من الضغوط والمناورات، من أجل جره إلى هذا المربع أو ذاك
ويُستبعد أن يتجه المشيشي نحو الاصطدام بالأحزاب، ولا سيما تلك التي تشكل أغلبية نسبية داخل البرلمان. لكنه يعمل في الوقت نفسه على إقناع القادة بأن تكون أحزابهم ممثلة بطريقة غير مباشرة في الحكومة، أي لا تكون موجودة بكوادر حزبية. وقد حاول المشيشي أن يقنع رئيس حركة "النهضة" راشد الغنوشي بذلك عند الاجتماع به عشية انعقاد مجلس شورى الحركة أخيراً. لكن قرار المجلس أكّد تمسّك "النهضة" بحكومة سياسية لها حزام برلماني واسع. وهو الموقف ذاته الذي عبّر عنه حزب "قلب تونس" و"ائتلاف الكرامة". أما "التيار الديمقراطي" وحركة "الشعب"، فقد تمسكا بأن تكون الحكومة ذات صبغة سياسية شريطة إبعاد حركة "النهضة" والدفع بها نحو الانتقال إلى المعارضة.
هكذا يتبيّن أنّ الرغبة في الإمساك بمفاصل السلطة لا تزال تمثّل عقبة أمام صيغة حكومة تكنوقراط مدعومة سياسياً، وأنّ الأيام المتبقية أمام المشيشي ستشهد العديد من الضغوط والمناورات من أجل جره إلى هذا المربع أو ذاك. وإذا ما استمر هذا الحال على ما هو عليه، فإنّ الحكومة المقبلة ستولد ضعيفة. يستبعد أن يتم إسقاطها عند عرضها على التصويت، لكنها ستواجه صعوبات جمة، وستبقى تحت قصف الأحزاب خلال الأشهر المقبلة، في انتظار الوقت المناسب لسحب الثقة منها، وهو ما من شأنه أن يعمّق الأزمة السياسية في البلاد.
لهذا السبب، تتعدد الدعوات من أجل تنظيم حوار وطني تُدعى إليه جميع الأطراف السياسية والاجتماعية من أجل تقييم تجربة الانتقال الديمقراطي، والتوقف عند الأسباب العميقة التي حالت ولا تزال تحول دون تحقيق كل أهداف الثورة. هذا ما نصح به الرئيس السابق للبرلمان محمد الناصر، وهذا ما بدأ يفكر فيه المشيشي، الذي يخشى أن يخطئ الطريق، ويبدأ بداية متعثرة. فالرجل ليس متحمساً لحل البرلمان، والعودة إلى نقطة الصفر، وهو يعتقد أنّ البلاد منهكة، وهي غير قادرة على تنظيم انتخابات سابقة لأوانها. يتمنى أن يراجع البرلمان أداءه، وأن يكون شريكاً معه في تحمل المسؤولية، وأن يساعد في بناء الثقة وحماية المؤسسات.