يردد المؤرخ الدكتور هشام جعيط بيت شعر عوف بن ملحم الخزاعي، وهو يهم بإشعال سيجارته:
إن الثمانين وبلغتها قد أحوجت سمعي إلى ترجمان
يرد جعيط ابن الثمانين (مواليد تونس عام 1935) على الكثير من الأسئلة بكلمة "لا أدري"، فالتاريخ حمّال خيارات متعددة بالنسبة للعالم العربي والإسلامي، وإن كانت "أية أزمة في التاريخ لا بد أن تنتهي".
يصارحك بأنه أنهى مشروعه الكبير في دراسة السيرة النبوية من ثلاثة أجزاء" مشروع عمره" ولا يعمل على أي مشروع جديد مكتفيا بالقراءة، وأن القليل مما يقرأه يعجبه.
يتحسر على كثير من الأمور، وأولها مصير المدينة العربية التي اهتم بنشأتها التاريخية ودورها الحضاري "مسكينة هي المدينة العربية، مسكينة هي حلب.. الحرب السورية لم ترحم البشر ولا الحجر".
لا ينسى الدكتور هشام دوره كمفكر عربي له الحق في المشاركة العامة، ولا سيما أن العالم الإسلامي في حالة من مخاض وقد نشهد ولادة كيانات طائفية مع وجود نسبة للحظ في التاريخ. هنا حوار مع المفكر والمؤرخ العربي الدكتور هشام جعيط على هامش زيارته إلى الدوحة بدعوة من المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات:
* نبدأ الحديث عن كتابك الأخير في "السيرة النبوية" بأجزائه الثلاثة، الأول "الوحي والقرآن والنبوة" والثاني "تاريخية الدعوة المحمدية في مكة" والثالث "مسيرة محمد في المدينة وانتصار الإسلام".
- هذا الكتاب أخذ مني 20 سنة من العمل تقريباً، من سنة 1990 وحتى سنة 2010، تخللت ذلك كتابات أخرى ككتاب "أزمة الثقافة الإسلامية" وكتاب "تأسيس الغرب الإسلامي" ولكن مجهودي الأساسي كان منصبا عليه، فهو مشروع حياتي.
لم يلق الكتاب حظوة كبيرة من النقاد والمهتمين في التاريخ الإسلامي، أعتبر أنه لم يعد الآن، حتى في الاستشراق، علماء حقيقيون، وقد مات معظم كبار مؤرخينا القدامى، مثل عبد العزيز الدوري وصالح العلي ثم حدثت ثورات الربيع العربي وازداد الاهتمام بكل ما هو سياسي ودخل العالم العربي في اضطراب كبير.
ثم هناك عدد كبير من العلمانيين العرب ينأون عن تاريخ الرسالة وكل ما هو ديني، لكن هذا ليس كتابا دينيا، وفي أوروبا فإن كل ما يخص الرسول ليس محل اهتمام، بل محل سخرية، وهم على العموم لا يقرؤون.
أما الترجمة الإنجليزية فقد أصدرتها ليس للغربيين، وإنما للمسلمين الذين يحسنون الإنجليزية، وهم كثر في الهند وباكستان وإندونيسيا.
* لماذا لم يلق الصدى الذي توقعته، ولا سيما أنك تصف الكتاب بأنه أهم كتاب في السيرة؟
- حتى أكون منصفا، الجزء الأول لقي صدى معقولا، لأنه تكلم عن الوحي والقرآن والنبوة بطريقة نصف تاريخية، نصف فلسفية، وكان كالمدخل العام لتفكيري في مفهوم النبوة ومفهوم الوحي إلى آخره، وهذا راجع إلى كون العرب يهتمون أكثر بالأفكار حول الدين والفلسفة أكثر مما يهتمون بالتاريخ الحقيقي الدقيق.
* هل يمكن أن يكون أحد الأسباب أن هذه الموضوعات صادمة لحساسية المسلمين؟
- أنا لم أمس بالقداسة الدينية أبدا ،لا كمؤرخ ولا كمسلم، فأنا مسلم واعتبرت أن ما كتب من قبل المسلمين والمستشرقين بدءا من القرن التاسع عشر لم يعط الرسول حقه كرجل مؤسس لدين كبير، ولم يعر الاهتمام الكافي للمعاناة وللجهد والعمل الذي قام به في ميدان الفكر والوحي.
* تقصد على صعيد اللاهوت؟
- لا، أقصد الوحي، لأن الوحي معاناة وأزمة نفسية كبيرة، الرسول عانى بسبب الوحي ثم عانى من الاضطهاد وعانى في المدينة من معارضات، ولكنه نجح أخيرا، وهو أمر استثنائي في تاريخ الأديان بالخصوص، لو قارنا ذلك بالمسيحية، الدين الذي بشر به تم الاعتراف به في الجزيرة العربية قبل مماته، ثم تمدد خارجها في زمن خلفائه ثم تكونت إمبراطورية عظيمة لم يسبق لها مثيل.
* ألم تكن نقديا تجاه السيرة النبوية؟
لا، لا كمسلم، ولا كمؤرخ، لأني أعتبر أن على المؤرخ أن يتعاطف مع موضوعه وأن يتفهمه، وهمي الأكبر كان تفهم المسار النبوي في بناء هذا الدين العالمي.
أنا تكونت في أوروبا كمؤرخ ولم أتكون، كمستعرب، دراستي الطويلة في أوروبا كانت تخص تاريخ اليونان والرومان وتاريخ أوروبا، هناك تعلمت الدقة التاريخية، ولم أنس هويتي العربية والإسلامية.
* ألا تعتقد أن سيرة محمد في المرويات التاريخية مليئة أيضا بالأساطير والخرافات!
وهذا ما تصديت له، أنا اعتمدت بالأساس على القرآن كمصدر، لأنه كان مزامنا للدعوة النبوية واعتمدت على السيَر وأقدمها سيرة ابن إسحاق.
لم أغال، كما غالى المستشرقون، باعتبار كل ما نشر في القرن الثاني الهجري، مثل السير النبوية، بعيدا عن الأحداث، وكله غلط، لذا فقد استعملتها، لكن بالنقد التاريخي الصميم الذي هو منهجية يعرفها الإنسان المحترف لعلم التاريخ.
أنكر القرآن الخرافات الموجودة في السيرة وحتى المعجزات، لم يقل إن الرسول أتى بها (إلا إذا شاء الله) ولم يذكر معجزات كمعجزات موسى وعيسى، وأنا أعتبر أن هذه الكتب الصادرة (السير) لترويج قصة النبي للعموم تدخل في الإطار الديني فالإطارات الدينية كلها تقر بخرافات ومعجزات، وذلك أن الأديان خلافا للفلسفات تتجه إلى جماهير كبيرة.
أيضا عندما كتبت هذه السير وذلك في العهد العباسي حيث إمبراطورية كبيرة فيها العدد الكبير من الفرس والأتراك والأعاجم والبربر، وكان الإسلام في تلك الفترة يتصادم مع الأديان القديمة الأخرى الموجودة التي لم ينكرها مثل المسيحية واليهودية التي هي أكثرت من عدد المعجزات، فاعتبر كتاب السير أن للرسول أيضا حظه من المعجزات بإطار التنافس بين الأديان.
* كأنك تحيل ذلك للإسرائيليات؟
لا، ليس فقط الإسرائيليات، المعجزة تدخل في قماش الأديان القديمة، ليس فكرها كفكرنا الآن، عقلانياً.
أود أيضا أن أضيف أن سيرة ابن إسحاق لم تأت بكثير من المعجزات والخوارق.
في الأخير يجب في ما يخص الأمور غير العقلانية أن يهتم بها مؤرخ الأديان كعناصر أتت بها الأديان من جملة ما يدخل في الإطار الديني القديم.
* تحدثت عن صدام الثقافة والحداثة بين أوروبا والإسلام، كأن الأمر استفحل أكثر الآن؟
صحيح، كتبت عن العداوة التي كنّتها أوروبا لمدة طويلة إزاء الإسلام منذ القرون الوسطى، وصولا إلى الحقبة الاستعمارية.
حاليا، العالم الإسلامي في حالة مخاض، ولا ندري كيف ستؤول الأمور، ولكن ليست هذه المرة الأولى التي يحدث فيها في التاريخ مثل هذا الأمر، فالعنف هو من أسس تطور التاريخ ، أوروبا التي كانت في 1900 تعتبر نفسها هي العالم، وكانت هي فعلا العالم من الناحية الحضارية، عرفت حربين عالميتين من أشرس الحروب التي عرفتها الإنسانية، وخصوصا الثانية منها، والأولى والثانية مرتبطتان. أوروبا دمرت ذاتها بذاتها، فهي لم تعد إلا تابعة للولايات المتحدة وأوروبا بعد الحربين ليست كأوروبا القديمة. وهي تسير في طريق الانحطاط.
الآن الطائفية صارت قوية جدا في الشرق الأوسط، ولم تكن كذلك بهذه الدرجة، فمن الممكن أن تتفتت سورية والعراق إلى دويلات طائفية. ألم تر أن داعش لم تهاجم جنوب العراق الذي هو شيعي لأنها هناك ستخسر.
* لأنها تعتبر مناطق السنة حاضنتها؟
طبعا، ولكن أيضا لأن الأميركان اتبعوا سياسة خرقاء في العراق، وأعطوا الحكم لأصدقائهم من الشيعة (أنا لست ضد الشيعة) الذين حكموا بسياسة طائفية.
أعود للسؤال، فالعالم العربي والإسلامي لم يحسن تحديث اقتصاده ومجتمعه، واستيعاب الثورة الصناعية، وأنا لا أرى أن التحديث مناف للهوية الثقافية.
بعد أن كنا في الشرق الأوسط من أسس الحضارة الإنسانية بعد أن جاءت ما يسميها هيغل "ثورة الشرق" أصابنا ما أصابنا من عدم المقدرة على استيعاب الأسس المادية للحضارة الحديثة، ولم يعنا كثيرا الآخر (الغرب) لكن التاريخ نفسه عرف إحباطا وانحطاطا وتقدما، وغير ذلك، لكن في آخر المطاف الأزمات الكبرى تقف يوما ما.
يبقى أن أقول إن رد فعل الإرهاب الإسلامي هو رد فعل الضعفاء والأغبياء.
* والقوى الأميركية؟
القوى الأميركية هي قوى إمبريالية، لم أكن أؤمن بذلك من قبل، هي التي بدأت الحرب الباردة وليس ستالين، رغم أنه كان دكتاتورا قاسيا.
منذ الحرب العالمية الثانية أرادت أميركا السيطرة على العالم، وما زالت تسعى إلى ذلك. الآن الموقف الأميركي (إدارة أوباما) أفضل من زمن بوش بكثير، ولكن الأميركان دائما يريدون التدخل في شؤون غيرهم والسيطرة ويتبعهم، الآن، الفرنسيون بشكل غبي.
لماذا؟
لأن فرنسا لم تعد بلدا قويا عسكريا، فرنسا تريد أن تتدخل وكأنها دولة فرنسا في 1900 وليس الأمر كذلك.
* لكن النهاية غير معروفة.. هل ستكون إيجابية أم سلبية؟
طبعا غير معروفة، الأزمات في بلداننا تبقى أكثر مما تبقى في أوروبا مثلا .. حروبهم تبقى أربع سنين، خمس سنين كذا... نحن تبقى، مثلا في فلسطين 100 سنة ، لكن العالم في تغير والأزمات لا بد أن تقف يوما ما.
* أنت متفائل أم متشائم بمستقبل العالم العربي؟
أقف صامتا أمام هذا السؤال، لا أدري ماذا سيقع!
* إحساسك كمؤرخ؟
على المدى الطويل سيتوحد العالم ويمشي في نفس الطريق، حيث الاتصالات قوية جدا بين البشر، ولم يكن هذا في الماضي.
ثم هناك عنصر من الحظ والصدفة في التاريخ، فبعض الرجال العظام يظهرون وغير متوقعين. مثلا الرسول محمد لم يكن ظهوره متوقعا.
منذ خمسن سنة كان لا يمكن لنا أن نتنبأ بكثير من الأشياء. هل كنا نتنبأ بسقوط الشيوعية؟ هل كنا نتنبأ بصعود الصين إلى هذه الدرجة؟.. إلخ؟
لكن ظهور النبي محمد كان متوقعا؟
هذا حديث خرافة، فما ورد أن كل قبيلة عربية سمت قبل الإسلام محمدا لتوقع ظهور النبي ليس صحيحا.
* هل كنت تتوقع ثورات الربيع العربي؟
يؤسفني أن أقول إنه بعد ثورات الربيع العربي أغلب الدول العربية غير مستعدة للديمقراطية، رغم أنني أدعو وما زلت إلى الديمقراطية وأنا ديمقراطي "هكذا مرت حياتي".
للأسف المجتمعات والطوائف السياسية العربية غير مستعدة للديمقراطية.
* هل تشتغل على مشروع جديد؟
ليس الآن، أقرأ، أطالع، أوسّع معرفتي، وأصارحك بأنني لا أجد في المنشورات العربية ما يغذي عقلي.
إن الثمانين وبلغتها قد أحوجت سمعي إلى ترجمان
يرد جعيط ابن الثمانين (مواليد تونس عام 1935) على الكثير من الأسئلة بكلمة "لا أدري"، فالتاريخ حمّال خيارات متعددة بالنسبة للعالم العربي والإسلامي، وإن كانت "أية أزمة في التاريخ لا بد أن تنتهي".
يصارحك بأنه أنهى مشروعه الكبير في دراسة السيرة النبوية من ثلاثة أجزاء" مشروع عمره" ولا يعمل على أي مشروع جديد مكتفيا بالقراءة، وأن القليل مما يقرأه يعجبه.
يتحسر على كثير من الأمور، وأولها مصير المدينة العربية التي اهتم بنشأتها التاريخية ودورها الحضاري "مسكينة هي المدينة العربية، مسكينة هي حلب.. الحرب السورية لم ترحم البشر ولا الحجر".
لا ينسى الدكتور هشام دوره كمفكر عربي له الحق في المشاركة العامة، ولا سيما أن العالم الإسلامي في حالة من مخاض وقد نشهد ولادة كيانات طائفية مع وجود نسبة للحظ في التاريخ. هنا حوار مع المفكر والمؤرخ العربي الدكتور هشام جعيط على هامش زيارته إلى الدوحة بدعوة من المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات:
* نبدأ الحديث عن كتابك الأخير في "السيرة النبوية" بأجزائه الثلاثة، الأول "الوحي والقرآن والنبوة" والثاني "تاريخية الدعوة المحمدية في مكة" والثالث "مسيرة محمد في المدينة وانتصار الإسلام".
- هذا الكتاب أخذ مني 20 سنة من العمل تقريباً، من سنة 1990 وحتى سنة 2010، تخللت ذلك كتابات أخرى ككتاب "أزمة الثقافة الإسلامية" وكتاب "تأسيس الغرب الإسلامي" ولكن مجهودي الأساسي كان منصبا عليه، فهو مشروع حياتي.
لم يلق الكتاب حظوة كبيرة من النقاد والمهتمين في التاريخ الإسلامي، أعتبر أنه لم يعد الآن، حتى في الاستشراق، علماء حقيقيون، وقد مات معظم كبار مؤرخينا القدامى، مثل عبد العزيز الدوري وصالح العلي ثم حدثت ثورات الربيع العربي وازداد الاهتمام بكل ما هو سياسي ودخل العالم العربي في اضطراب كبير.
ثم هناك عدد كبير من العلمانيين العرب ينأون عن تاريخ الرسالة وكل ما هو ديني، لكن هذا ليس كتابا دينيا، وفي أوروبا فإن كل ما يخص الرسول ليس محل اهتمام، بل محل سخرية، وهم على العموم لا يقرؤون.
أما الترجمة الإنجليزية فقد أصدرتها ليس للغربيين، وإنما للمسلمين الذين يحسنون الإنجليزية، وهم كثر في الهند وباكستان وإندونيسيا.
* لماذا لم يلق الصدى الذي توقعته، ولا سيما أنك تصف الكتاب بأنه أهم كتاب في السيرة؟
- حتى أكون منصفا، الجزء الأول لقي صدى معقولا، لأنه تكلم عن الوحي والقرآن والنبوة بطريقة نصف تاريخية، نصف فلسفية، وكان كالمدخل العام لتفكيري في مفهوم النبوة ومفهوم الوحي إلى آخره، وهذا راجع إلى كون العرب يهتمون أكثر بالأفكار حول الدين والفلسفة أكثر مما يهتمون بالتاريخ الحقيقي الدقيق.
* هل يمكن أن يكون أحد الأسباب أن هذه الموضوعات صادمة لحساسية المسلمين؟
- أنا لم أمس بالقداسة الدينية أبدا ،لا كمؤرخ ولا كمسلم، فأنا مسلم واعتبرت أن ما كتب من قبل المسلمين والمستشرقين بدءا من القرن التاسع عشر لم يعط الرسول حقه كرجل مؤسس لدين كبير، ولم يعر الاهتمام الكافي للمعاناة وللجهد والعمل الذي قام به في ميدان الفكر والوحي.
* تقصد على صعيد اللاهوت؟
- لا، أقصد الوحي، لأن الوحي معاناة وأزمة نفسية كبيرة، الرسول عانى بسبب الوحي ثم عانى من الاضطهاد وعانى في المدينة من معارضات، ولكنه نجح أخيرا، وهو أمر استثنائي في تاريخ الأديان بالخصوص، لو قارنا ذلك بالمسيحية، الدين الذي بشر به تم الاعتراف به في الجزيرة العربية قبل مماته، ثم تمدد خارجها في زمن خلفائه ثم تكونت إمبراطورية عظيمة لم يسبق لها مثيل.
* ألم تكن نقديا تجاه السيرة النبوية؟
لا، لا كمسلم، ولا كمؤرخ، لأني أعتبر أن على المؤرخ أن يتعاطف مع موضوعه وأن يتفهمه، وهمي الأكبر كان تفهم المسار النبوي في بناء هذا الدين العالمي.
أنا تكونت في أوروبا كمؤرخ ولم أتكون، كمستعرب، دراستي الطويلة في أوروبا كانت تخص تاريخ اليونان والرومان وتاريخ أوروبا، هناك تعلمت الدقة التاريخية، ولم أنس هويتي العربية والإسلامية.
* ألا تعتقد أن سيرة محمد في المرويات التاريخية مليئة أيضا بالأساطير والخرافات!
وهذا ما تصديت له، أنا اعتمدت بالأساس على القرآن كمصدر، لأنه كان مزامنا للدعوة النبوية واعتمدت على السيَر وأقدمها سيرة ابن إسحاق.
لم أغال، كما غالى المستشرقون، باعتبار كل ما نشر في القرن الثاني الهجري، مثل السير النبوية، بعيدا عن الأحداث، وكله غلط، لذا فقد استعملتها، لكن بالنقد التاريخي الصميم الذي هو منهجية يعرفها الإنسان المحترف لعلم التاريخ.
أنكر القرآن الخرافات الموجودة في السيرة وحتى المعجزات، لم يقل إن الرسول أتى بها (إلا إذا شاء الله) ولم يذكر معجزات كمعجزات موسى وعيسى، وأنا أعتبر أن هذه الكتب الصادرة (السير) لترويج قصة النبي للعموم تدخل في الإطار الديني فالإطارات الدينية كلها تقر بخرافات ومعجزات، وذلك أن الأديان خلافا للفلسفات تتجه إلى جماهير كبيرة.
أيضا عندما كتبت هذه السير وذلك في العهد العباسي حيث إمبراطورية كبيرة فيها العدد الكبير من الفرس والأتراك والأعاجم والبربر، وكان الإسلام في تلك الفترة يتصادم مع الأديان القديمة الأخرى الموجودة التي لم ينكرها مثل المسيحية واليهودية التي هي أكثرت من عدد المعجزات، فاعتبر كتاب السير أن للرسول أيضا حظه من المعجزات بإطار التنافس بين الأديان.
* كأنك تحيل ذلك للإسرائيليات؟
لا، ليس فقط الإسرائيليات، المعجزة تدخل في قماش الأديان القديمة، ليس فكرها كفكرنا الآن، عقلانياً.
أود أيضا أن أضيف أن سيرة ابن إسحاق لم تأت بكثير من المعجزات والخوارق.
في الأخير يجب في ما يخص الأمور غير العقلانية أن يهتم بها مؤرخ الأديان كعناصر أتت بها الأديان من جملة ما يدخل في الإطار الديني القديم.
* تحدثت عن صدام الثقافة والحداثة بين أوروبا والإسلام، كأن الأمر استفحل أكثر الآن؟
صحيح، كتبت عن العداوة التي كنّتها أوروبا لمدة طويلة إزاء الإسلام منذ القرون الوسطى، وصولا إلى الحقبة الاستعمارية.
حاليا، العالم الإسلامي في حالة مخاض، ولا ندري كيف ستؤول الأمور، ولكن ليست هذه المرة الأولى التي يحدث فيها في التاريخ مثل هذا الأمر، فالعنف هو من أسس تطور التاريخ ، أوروبا التي كانت في 1900 تعتبر نفسها هي العالم، وكانت هي فعلا العالم من الناحية الحضارية، عرفت حربين عالميتين من أشرس الحروب التي عرفتها الإنسانية، وخصوصا الثانية منها، والأولى والثانية مرتبطتان. أوروبا دمرت ذاتها بذاتها، فهي لم تعد إلا تابعة للولايات المتحدة وأوروبا بعد الحربين ليست كأوروبا القديمة. وهي تسير في طريق الانحطاط.
الآن الطائفية صارت قوية جدا في الشرق الأوسط، ولم تكن كذلك بهذه الدرجة، فمن الممكن أن تتفتت سورية والعراق إلى دويلات طائفية. ألم تر أن داعش لم تهاجم جنوب العراق الذي هو شيعي لأنها هناك ستخسر.
* لأنها تعتبر مناطق السنة حاضنتها؟
طبعا، ولكن أيضا لأن الأميركان اتبعوا سياسة خرقاء في العراق، وأعطوا الحكم لأصدقائهم من الشيعة (أنا لست ضد الشيعة) الذين حكموا بسياسة طائفية.
أعود للسؤال، فالعالم العربي والإسلامي لم يحسن تحديث اقتصاده ومجتمعه، واستيعاب الثورة الصناعية، وأنا لا أرى أن التحديث مناف للهوية الثقافية.
بعد أن كنا في الشرق الأوسط من أسس الحضارة الإنسانية بعد أن جاءت ما يسميها هيغل "ثورة الشرق" أصابنا ما أصابنا من عدم المقدرة على استيعاب الأسس المادية للحضارة الحديثة، ولم يعنا كثيرا الآخر (الغرب) لكن التاريخ نفسه عرف إحباطا وانحطاطا وتقدما، وغير ذلك، لكن في آخر المطاف الأزمات الكبرى تقف يوما ما.
يبقى أن أقول إن رد فعل الإرهاب الإسلامي هو رد فعل الضعفاء والأغبياء.
* والقوى الأميركية؟
القوى الأميركية هي قوى إمبريالية، لم أكن أؤمن بذلك من قبل، هي التي بدأت الحرب الباردة وليس ستالين، رغم أنه كان دكتاتورا قاسيا.
منذ الحرب العالمية الثانية أرادت أميركا السيطرة على العالم، وما زالت تسعى إلى ذلك. الآن الموقف الأميركي (إدارة أوباما) أفضل من زمن بوش بكثير، ولكن الأميركان دائما يريدون التدخل في شؤون غيرهم والسيطرة ويتبعهم، الآن، الفرنسيون بشكل غبي.
لماذا؟
لأن فرنسا لم تعد بلدا قويا عسكريا، فرنسا تريد أن تتدخل وكأنها دولة فرنسا في 1900 وليس الأمر كذلك.
* لكن النهاية غير معروفة.. هل ستكون إيجابية أم سلبية؟
طبعا غير معروفة، الأزمات في بلداننا تبقى أكثر مما تبقى في أوروبا مثلا .. حروبهم تبقى أربع سنين، خمس سنين كذا... نحن تبقى، مثلا في فلسطين 100 سنة ، لكن العالم في تغير والأزمات لا بد أن تقف يوما ما.
* أنت متفائل أم متشائم بمستقبل العالم العربي؟
أقف صامتا أمام هذا السؤال، لا أدري ماذا سيقع!
* إحساسك كمؤرخ؟
على المدى الطويل سيتوحد العالم ويمشي في نفس الطريق، حيث الاتصالات قوية جدا بين البشر، ولم يكن هذا في الماضي.
ثم هناك عنصر من الحظ والصدفة في التاريخ، فبعض الرجال العظام يظهرون وغير متوقعين. مثلا الرسول محمد لم يكن ظهوره متوقعا.
منذ خمسن سنة كان لا يمكن لنا أن نتنبأ بكثير من الأشياء. هل كنا نتنبأ بسقوط الشيوعية؟ هل كنا نتنبأ بصعود الصين إلى هذه الدرجة؟.. إلخ؟
لكن ظهور النبي محمد كان متوقعا؟
هذا حديث خرافة، فما ورد أن كل قبيلة عربية سمت قبل الإسلام محمدا لتوقع ظهور النبي ليس صحيحا.
* هل كنت تتوقع ثورات الربيع العربي؟
يؤسفني أن أقول إنه بعد ثورات الربيع العربي أغلب الدول العربية غير مستعدة للديمقراطية، رغم أنني أدعو وما زلت إلى الديمقراطية وأنا ديمقراطي "هكذا مرت حياتي".
للأسف المجتمعات والطوائف السياسية العربية غير مستعدة للديمقراطية.
* هل تشتغل على مشروع جديد؟
ليس الآن، أقرأ، أطالع، أوسّع معرفتي، وأصارحك بأنني لا أجد في المنشورات العربية ما يغذي عقلي.
"ابن إسحاق وحده هو الذي يؤكد بوضوح أن اللقاء بـ"الملك" في حراء كان عن طريق الرؤيا "في النوم"، فيما الآخرون كالطبري وابن سعد يسكتون عن الأمر ولا يدققون صفة اللقاء. لكن الرؤيا صادقة تعبر عن الحقيقة. وهي لا تحتاج إلى تأويل لأنها مرآة للواقع. إن الرؤيا وكل حلم يقعان على صفة الصورة، وليس على صفة التفكير، ويندرج الخطاب في عالم الصور.
وهكذا رأى محمد شخصاً ووقع بينهما حوار شديد، فإظهار القرآن في صورة كتاب، وأخيراً تلاوة النبي للمقطع الأول من سورة العلق. ولئن تجلى الوحي في الرؤيا فلصعوبة العلاقة بين الإنسان والماورائي الذي يتخذ إذاً شكلاً مشخصاً إنسانياً".
(من الجزء الأول في السيرة النبوية : الوحي والقرآن والنبوة)