في الوقت الذي هاجم فيه رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، خلال خطابه أمام الجمعية العمومية، أمس الأول، كوريا الشمالية، كمقدمة للتدليل على أسباب مطالبة حكومته بإلغاء وتعديل الاتفاق النووي مع إيران، نشرت صحيفة "يديعوت أحرونوت"، أمس الأربعاء، تقريراً مطولاً، قالت فيه إن تل أبيب لم تمانع، إبان حكومة إسحق رابين في العام 1993، إقامة علاقات مع بيونغ يانغ، سعياً لثنيها عن مواصلة بيع صواريخ "سكود" إلى طهران، ودعم المشروع النووي الإيراني، وترويض كوريا الشمالية واحتواء مشروعها الذري.
وبحسب الصحافي الإسرائيلي، ناحوم برنيع، فإنه استمع، خلال مكوثه قبل أسابيع في كوريا الجنوبية، إلى خبراء في شؤون السياسة والحرب من سيول، إلى محاولات لـ"ترويض كوريا الشمالية"، وأنه كان من بينها محاولات إسرائيلية، تضمنت حتى وصول وفد إسرائيلي رسمي إلى بيونغ يانغ عبر الأراضي الصينية. وبحسب "يديعوت أحرونوت"، فقد بدأت القصة كلها من رجل أعمال أميركي، يملك في الصين شركة للتجارة مع كوريا الشمالية، التقى في العام 1992 مع مدير وزارة الخارجية الإسرائيلية وقتها، إيتان بن تسور، وأبلغه أن جهات في الحكم في كوريا الشمالية معنية بالتعاون الاقتصادي مع إسرائيل. وكانت دوافع بيونغ يانغ، بحسب الصحيفة، سياسية واقتصادية، خصوصاً بعد انهيار الاتحاد السوفييتي في تلك الفترة، ما أبقى الولايات المتحدة القوة العظمى الوحيدة في العالم. وكانت كوريا الشمالية على وشك الانهيار اقتصادياً، وكان زعيمها الأب، كيم إيل سونغ، يحتضر، فيما بحث أركان الحكم، في ظل كون الابن الوريث، كيم جونغ إيل، معروفاً في تلك الفترة بعبثه ومجونه، عن طريق لفتح قنوات اتصال مع الغرب وإنقاذ كوريا الشمالية من الانهيار.
في المقابل، كانت الدوافع الإسرائيلية أمنية. فقد كان تقرير وضعه "الموساد" في ذلك العام، أشار إلى أن كوريا الشمالية تبيع لإيران وسورية وليبيا صواريخ "سكود" وتتعاون مع طهران لتطوير مشروعها الذري. ويقول برنيع، في "يديعوت أحرونوت"، إن بن تسور وافق على الاقتراح، وعرض الأمر على وزير الخارجية آنذاك، شمعون بيريز، الذي طلب أولاً إطلاع رابين حتى لا يقوم بإحباط الاتصالات مع بيونغ يانغ. واقترحت كوريا الشمالية، كخطوة أولى، أن توافق إسرائيل على إعادة تشغيل منجم الذهب الكبير في مقاطعة أونسان، الذي كانت أميركا قصفته وعطلته عن العمل خلال حرب الكوريتين. وفي المقابل سافر، في نوفمبر/ تشرين الثاني العام 1992، وفد إسرائيلي رسمي، ضم بن تسور، ومساعده أفي سيطون، وسفيرة إسرائيل الحالية لدى اليابان، روت كهنوف، وعلماء جيولوجيا وعدد من رجال الأعمال، من دون علم من الموساد، الذي اكتشف سفر الوفد الإسرائيلي، بفعل علاقاته التي كان يملكها عبر أطراف أوروبية مع كوريا الشمالية، وهو ما دفع الموساد إلى إيفاد نائب رئيس الجهاز يومها، إفرايم هليفي، إلى بيونغ يانغ.
ويصف برنيع وصول هليفي بأنه أطلق منافسة بين الموساد ورجال وزارة الخارجية الإسرائيلية. وفيما تحدث الكوريون عن المساعدات الاقتصادية والتعاون التجاري، مطالبين، في الوقت ذاته، بقرض بقيمة مليار دولار، كان الطرف الإسرائيلي يصر على الحديث عن وقف بيع السلاح لكل من إيران وسورية وليبيا. وقد حقق الوفد الإسرائيلي تقدماً في المباحثات مع بيونغ يانغ، لكن اللقاء، الذي عقد في التاسع من سبتمبر/ أيلول، في مقر الخارجية الأميركية، وشارك فيه عن الجانب الإسرائيلي بن تسور وهليفي، مقابل أرنولد كانتر وإدوارد جيرجيان، أدى إلى خفض سقف التوقعات الإسرائيلية، وظهور مخاوف من سعي الولايات المتحدة إلى إفشال أي اتفاق مع كوريا الشمالية، حتى بعد أن قال الجانب الإسرائيلي في الجلسة إن بيونغ يانغ تتوقع أن تصل من خلال إسرائيل إلى قلب الولايات المتحدة. وأبلغ الأميركيون الجانب الإسرائيلي أن "أيادينا خاوية"، وليس لدينا ما نعرضه على بيونغ يانغ، ناصحين الطرف الإسرائيلي بالحذر من تفريق الصفوف (للمعسكر الغربي أمام كوريا الشمالية).
لكن، وعلى الرغم من هذا الموقف، واصلت إسرائيل اتصالاتها مع كوريا الشمالية، ودعت مسؤولاً كورياً رفيع المستوى لزيارة تل أبيب، وحُمّل رسالة واضحة بوجوب توقف بيونغ يانغ عن بيع السلاح والتعاون مع طهران. وكانت إسرائيل بدأت تنتظر أن تبلور الإدارة الأميركية الجديدة، بعد انتخاب بيل كلينتون رئيساً، موقفها، الذي اعتقدت أنه سيكون مغايراً لموقف إدارة بوش الأب. وواصلت إسرائيل الاتصالات مع كوريا الشمالية عبر قناتين متوازيتين، لكن من دون التقدم نحو توقيع الاتفاق، قبل الحصول على ضوء أخضر من البيت الأبيض. وفي غضون ذلك، وصلت إلى تل أبيب رسالة رسمية من وزارة خارجية كوريا الشمالية تضمنت دعوة رسمية لوزير الخارجية الإسرائيلي، شمعون بيريز، لزيارة كوريا الشمالية. وكانت التقديرات الإسرائيلية تشير إلى أن بيونغ يانغ ستوافق على فتح ممثلية دبلوماسية لإسرائيل على أراضيها. وعرضت الخارجية الإسرائيلية على شركة رجل الأعمال الإسرائيلي، يوسي ميلمان، تولي مهمة إعادة فتح منجم الذهب، وانضم للأمر رجل الأعمال الإسرائيلي، شاؤول أيزنبيرغ، الذي كان ناشطاً في علاقات اقتصادية مع الصين (وسبق له أن أخذ بطائرته الخاصة الرئيس الإسرائيلي الأسبق، عيزر فايتسمان، في زيارة رسمية إلى الصين).
ووقتها، كانت كوريا الشمالية تهدد بالانسحاب من مباحثات اتفاقية حظر نشر الأسلحة الذرية، وكان وزير الخارجية الأميركي، وارن كريستوفر، يعتقد بإمكانية التوصل إلى حل بالطرق الدبلوماسية، لكنه اقتنع، في الوقت ذاته، بأن من شأن المبادرة الإسرائيلية أن تعرقل المفاوض الأميركي. وقد قدرت الخارجية الإسرائيلية أن من يقف وراء موقف كريستوفر هو الاستخبارات الأميركية بفعل ضغوط من الموساد الإسرائيلي. لكن بيونغ يانغ واصلت الضغط للتوصل إلى تفاهمات مع تل أبيب، ووجهت رسالة رسمية إلى إسرائيل تطالب رابين بتحديد المطالب والشروط الإسرائيلية. ومع أن الكوريين كانوا قد وافقوا على تشكيل لجنة مشتركة للبحث في المطلب الإسرائيلي بوقف بيع السلاح لدول المنطقة، في مقابل أن تضمن إسرائيل قرضاً بقيمة مليار دولار ومشاريع للاستثمار في كوريا الشمالية وأن تعترف بيونغ يانغ بتل أبيب وتطبع العلاقات معها، فإن الولايات المتحدة طالبت، في هذه المرحلة، بوقف الاتصالات الإسرائيلية مع كوريا الشمالية، وأوعزت الحكومة إلى بن تسور أن يبلغ الجانب الكوري بتجميد الاتصالات مؤقتاً. لكن في 24 يونيو/ حزيران، عاد وكيل الخارجية الإسرائيلي بن تسور لعقد لقاء رسمي مع الجنرال تشاو بيغ جينغ، بعد أن كانت كوريا الشمالية أعلنت، في 11 يونيو، إلغاء قرارها السابق بالانسحاب من المفاوضات حول مشروعها النووي، ووافقت على إخضاع منشآتها للتفتيش والمراقبة الدوليين. وقد استمرت المحادثات بين الوفد الكوري والوفد الإسرائيلي، الذي رأسه بن تسور، مدة يومين، تم خلالهما بحث ملفات، مثل وقف بيع السلاح لسورية وإيران وليبيا، وإعادة تشغيل منجم الذهب، وإقامة علاقات دبلوماسية مع إسرائيل وضمان القرض بمبلغ مليار دولار. لكن الولايات المتحدة تدخلت مرة أخرى، واعترضت على مواصلة الاتصالات والمباحثات الإسرائيلية مع كوريا الشمالية، ومنعت عقد لقاء مشترك بين وفد إسرائيلي ووفد من كوريا الشمالية في باريس في أغسطس/ آب 1993.