31 أكتوبر 2017
هل اندلعت حرب 1967؟
لا خلاف بين علماء الاجتماع السياسي الصهاينة على أن "الانتصار" الذي حققته إسرائيل في "حرب" 1967 كان أحد أبرز مركبات البيئة التي ساعدت على تعاظم دور التيار الديني الصهيوني الذي كان، حتى هذه "الحرب"، يلعب دورا ثانويا على هامش المجتمع والسياسة في إسرائيل، فقد ألهبت هزيمة العرب وانكسارهم المدوي في "الحرب" الحماسة الدينية لدى كثير من القطاعات اليهودية في إسرائيل وخارجها، حيث نظر للنصر الساحق على أنه "معجزة إلهية"، تمثل تجسيدا لـ"النبوءات" التي جاءت بها التوراة وبقية مصادر التراث اليهودي. وقد أمنت نتائج الحرب، ولا سيما احتلال أراض عربية تفوق مساحتها أكثر من ثلاثة أضعاف مساحة إسرائيل، الفضاء الواقعي لتطبيق أيديولوجية التيار الديني اليهودي من خلال انطلاق الحركات التي تبنت المشروع الاستيطاني اليهودي في الأراضي المحتلة. وقد أضفت نتائج الحرب، حسب منطق المرجعيات الدينية، ونخب كثيرة مرتبطة بالتيار الديني الصهيوني، صدقية على عقيدة "الخلاص" اليهودي التي "تبشّر" بنزول "المخلص المنتظر" الذي يفترض أن يقود "مملكة" اليهود.
ولم تكن مصادفةً أن أفضت الحرب إلى بلورة الخلفية الفكرية التي أسّست لانطلاق حركات "الهيكل" التي تجاهر حاليا بالتخطيط لتدمير الحرم القدسي الشريف، بزعم أن تدشين الهيكل يعد متطلبا أساسيا لقدوم "المخلص المنتظر"، فقبل أن تنقضي الأيام الأخيرة من عام 67، وضع الحاخام مناحيم شير، أبرز منظري التيار الديني الصهيوني، مؤلفه ذائع الصيت "بحث خالص لطرق الخلاص ودلائله"، حيث جاء في مقدمته: "حرب 67 أعظم حدث في تاريخ الشعب اليهودي، منذ حرب اليهود بقيادة متتياهو الحوشمانئي ضد اليونايين القدماء، فهذه الحرب انطوت على معجزاتٍ كبيرة لا تشبه المعجزات التي حدثت خلال الحروب أخيرا، وهذه الحرب تبشر بقرب مجيء المخلص المنتظر، وهو ما يوجب على اليهود الاستنفار لتعجيل موعد الخلاص".
لكن السؤال المطروح: هل حققت إسرائيل بالفعل عام 67 نصرا يبرّر الحماسة الدينية التي تركت كل هذه الآثار على المجتمع الصهيوني وموازين القوى بين التيارات الفكرية والحزبية الإسرائيلية؟ الجزم بتحقيق إسرائيل نصراً وتكبد العرب هزيمة يستدعي أولا التدليل على أن "حربا" اندلعت بالفعل. فهل شهد يونيو/ حزيران 67 نشوب "حربٍ" بالفعل؟
يترك كاتب هذه السطور الإجابة عن هذا السؤال لمؤرخ عسكري صهيوني كان عقوداً الأكثر ارتباطاً بمؤسسات الحكم في تل أبيب، لكنه استفز، أخيراً، دوائر صنع القرار والنخب السياسية والأمنية في إسرائيل، عندما نسف رواية "النصر المعجزة" في 67. ففي بحث عرضت صحيفة معاريف (27/5) أهم ما جاء فيه، يجزم أوري ميلشطاين الذي أرّخ لكل الحروب الإسرائيلية العربية، بأن ما حدث في يونيو/ حزيران 67 لم يكن "حربا انتهت بنصر، بل مجرّد عملية مطاردة وتعقب قام بها الجيش الإسرائيلي لجيوش عربية فرّت من ساحة المعركة قبل أن تبدأ". وحسب ميلشطاين، فإنه من أصل عشرات الألوية والكتائب الإسرائيلية التي اقتحمت سيناء، فقط كتيبة المظليين (890) بقيادة رفائيل إيتان هي التي خاضت معركةً حقيقية في سيناء، في حين أن بقية الألوية والكتائب كانت "تنتقل بين كثبان سيناء لتعقب فلول الجيش المصري المنسحبة".
وعلى الرغم من تبرّم دوائر الحكم في تل أبيب من رواية ميلشطاين، إلا أن وثائق الحرب التي كشف عنها أخيرا تدلّل على صدق ما استخلصه. ويستدل من بروتوكولات جلسات الحكومة الإسرائيلية عشية الحرب وفي أثنائها، وهي الحرب التي تم رفع السرية عنها الأسبوع الماضي، أن نيّة الجيوش العربية المبيتة للانسحاب من ساحات القتال، قبل أن يبدأ، أغرت حكام إسرائيل بتعديل أهداف الحرب باستمرار، حيث كانت هذه الأهداف أكثر تواضعا عشيّة الحرب وعند بدئها. فحسب إحدى هذه الوثائق، رفض وزير الحرب، موشيه دايان، بإصرار حتى اندلاع "الحرب" ضغوط هيئة أركان الجيش بمهاجمة الجيش السوري في الجولان، خشية أن تؤثر "المعارك" التي يفترض أن تنشب هناك على الجهد الحربي ضد مصر، لكن صوراً جوية التقطتها إسرائيل أظهرت شروع الجيش السوري بالانسحاب من مواقعه في الجولان، بمجرّد بدء الحرب ضد مصر، ما حدا دايان إلى أن يصدر تعليماته لاحتلال الجولان.
يستدلّ مما تقدم أن أنظمة الاستبداد التي قادت الدول التي شاركت في "الحرب" التي لم تكن مسؤولة فقط عن تسليم ما تبقى من فلسطين وسيناء والجولان، والعار الذي لحق بالأمة وأجيالها، بل إن سلوك هذه الأنظمة وأداءها عزّز بيئة التطرّف اليهودي، ومنح قوى اليمين الصهيوني، بشقيه الديني والعلماني، المسوّغات للتدليل على وجاهة برامجها ومواقفها من الصراع ونظرتها الموغلة في عنصريتها تجاه العرب.
من هنا، لم يكن من المستهجن أن تستنفر إسرائيل، ولا سيما تحت قيادتها اليمينية المتطرّفة، لمواجهة ربيع العرب الذي انطلق نهاية العام 2010، والمجاهرة بالسعي لإحباطه من خلال التحالف المعلن والسافر مع قوى الثورة المضادة في العالم العربي.
تنطلق إسرائيل من افتراضٍ مفاده بأن خضوع العالم العربي لأنظمة الاستبداد يقلص فرص انبعاث نهضة تؤثر سلبا على طابع موازين القوى الذي يميل حاليا لصالح إسرائيل بشكل جارف. ولعل ما خلص إليه الباحث الصهيوني، سافي ريخلفسكي، من أن اطمئنان إسرائيل لوجود أنظمة الاستبداد في العالم العربي يعود إلى أن سلوك هذه الأنظمة يحول دون تبلور طبقة وسطى سميكة في العالم العربي، يمكن أن تسهم في انبعاث نهضة تغير بالفعل من موازين القوى القائمة.
حلول الذكرى الخمسين لـ"الحرب"، التي لم تكن، هو مناسبة للإصرار على استكمال ثورات الربيع العربي والتخلص من الاستبداد.
ولم تكن مصادفةً أن أفضت الحرب إلى بلورة الخلفية الفكرية التي أسّست لانطلاق حركات "الهيكل" التي تجاهر حاليا بالتخطيط لتدمير الحرم القدسي الشريف، بزعم أن تدشين الهيكل يعد متطلبا أساسيا لقدوم "المخلص المنتظر"، فقبل أن تنقضي الأيام الأخيرة من عام 67، وضع الحاخام مناحيم شير، أبرز منظري التيار الديني الصهيوني، مؤلفه ذائع الصيت "بحث خالص لطرق الخلاص ودلائله"، حيث جاء في مقدمته: "حرب 67 أعظم حدث في تاريخ الشعب اليهودي، منذ حرب اليهود بقيادة متتياهو الحوشمانئي ضد اليونايين القدماء، فهذه الحرب انطوت على معجزاتٍ كبيرة لا تشبه المعجزات التي حدثت خلال الحروب أخيرا، وهذه الحرب تبشر بقرب مجيء المخلص المنتظر، وهو ما يوجب على اليهود الاستنفار لتعجيل موعد الخلاص".
لكن السؤال المطروح: هل حققت إسرائيل بالفعل عام 67 نصرا يبرّر الحماسة الدينية التي تركت كل هذه الآثار على المجتمع الصهيوني وموازين القوى بين التيارات الفكرية والحزبية الإسرائيلية؟ الجزم بتحقيق إسرائيل نصراً وتكبد العرب هزيمة يستدعي أولا التدليل على أن "حربا" اندلعت بالفعل. فهل شهد يونيو/ حزيران 67 نشوب "حربٍ" بالفعل؟
يترك كاتب هذه السطور الإجابة عن هذا السؤال لمؤرخ عسكري صهيوني كان عقوداً الأكثر ارتباطاً بمؤسسات الحكم في تل أبيب، لكنه استفز، أخيراً، دوائر صنع القرار والنخب السياسية والأمنية في إسرائيل، عندما نسف رواية "النصر المعجزة" في 67. ففي بحث عرضت صحيفة معاريف (27/5) أهم ما جاء فيه، يجزم أوري ميلشطاين الذي أرّخ لكل الحروب الإسرائيلية العربية، بأن ما حدث في يونيو/ حزيران 67 لم يكن "حربا انتهت بنصر، بل مجرّد عملية مطاردة وتعقب قام بها الجيش الإسرائيلي لجيوش عربية فرّت من ساحة المعركة قبل أن تبدأ". وحسب ميلشطاين، فإنه من أصل عشرات الألوية والكتائب الإسرائيلية التي اقتحمت سيناء، فقط كتيبة المظليين (890) بقيادة رفائيل إيتان هي التي خاضت معركةً حقيقية في سيناء، في حين أن بقية الألوية والكتائب كانت "تنتقل بين كثبان سيناء لتعقب فلول الجيش المصري المنسحبة".
وعلى الرغم من تبرّم دوائر الحكم في تل أبيب من رواية ميلشطاين، إلا أن وثائق الحرب التي كشف عنها أخيرا تدلّل على صدق ما استخلصه. ويستدل من بروتوكولات جلسات الحكومة الإسرائيلية عشية الحرب وفي أثنائها، وهي الحرب التي تم رفع السرية عنها الأسبوع الماضي، أن نيّة الجيوش العربية المبيتة للانسحاب من ساحات القتال، قبل أن يبدأ، أغرت حكام إسرائيل بتعديل أهداف الحرب باستمرار، حيث كانت هذه الأهداف أكثر تواضعا عشيّة الحرب وعند بدئها. فحسب إحدى هذه الوثائق، رفض وزير الحرب، موشيه دايان، بإصرار حتى اندلاع "الحرب" ضغوط هيئة أركان الجيش بمهاجمة الجيش السوري في الجولان، خشية أن تؤثر "المعارك" التي يفترض أن تنشب هناك على الجهد الحربي ضد مصر، لكن صوراً جوية التقطتها إسرائيل أظهرت شروع الجيش السوري بالانسحاب من مواقعه في الجولان، بمجرّد بدء الحرب ضد مصر، ما حدا دايان إلى أن يصدر تعليماته لاحتلال الجولان.
يستدلّ مما تقدم أن أنظمة الاستبداد التي قادت الدول التي شاركت في "الحرب" التي لم تكن مسؤولة فقط عن تسليم ما تبقى من فلسطين وسيناء والجولان، والعار الذي لحق بالأمة وأجيالها، بل إن سلوك هذه الأنظمة وأداءها عزّز بيئة التطرّف اليهودي، ومنح قوى اليمين الصهيوني، بشقيه الديني والعلماني، المسوّغات للتدليل على وجاهة برامجها ومواقفها من الصراع ونظرتها الموغلة في عنصريتها تجاه العرب.
من هنا، لم يكن من المستهجن أن تستنفر إسرائيل، ولا سيما تحت قيادتها اليمينية المتطرّفة، لمواجهة ربيع العرب الذي انطلق نهاية العام 2010، والمجاهرة بالسعي لإحباطه من خلال التحالف المعلن والسافر مع قوى الثورة المضادة في العالم العربي.
تنطلق إسرائيل من افتراضٍ مفاده بأن خضوع العالم العربي لأنظمة الاستبداد يقلص فرص انبعاث نهضة تؤثر سلبا على طابع موازين القوى الذي يميل حاليا لصالح إسرائيل بشكل جارف. ولعل ما خلص إليه الباحث الصهيوني، سافي ريخلفسكي، من أن اطمئنان إسرائيل لوجود أنظمة الاستبداد في العالم العربي يعود إلى أن سلوك هذه الأنظمة يحول دون تبلور طبقة وسطى سميكة في العالم العربي، يمكن أن تسهم في انبعاث نهضة تغير بالفعل من موازين القوى القائمة.
حلول الذكرى الخمسين لـ"الحرب"، التي لم تكن، هو مناسبة للإصرار على استكمال ثورات الربيع العربي والتخلص من الاستبداد.