هل تبدّد حلم الأمة الواحدة؟
يوم انطلق المشروع القومي العربي، في صيغته الأكثر تبلوراً، مع بدايات القرن العشرين، وتصاعد ليكتمل، صورة ورؤية، عقب الحرب العالمية الثانية، كانت الأفكار التي صاغته قد نبعت من حالة تاريخية، وتداعت من واقع حضاري إنساني جديد تزامن مع/ وواجه التحدي الاستعماري الذي تمثل في حالتين: الغزو فالاحتلال، ومعه ما سيعرف بـ"الغزو الثقافي" الذي استهدف الثقافة العربية في ما لها من جوهر تكوين فكري، واضعاً من الخطط، ومتّبعاً من الأساليب ما يقود الى إشاعة الأفكار والرؤية الثقافية التي تتماهى والوجود الاستعماري، وتحقق بناء الذات لدى المستَعمَر، على هوى ما يضع لها المستعمِر من أساس تكويني.
في مواجهة هذا التوجّه، انفتح العقل العربي على ما سيُعرف بـ"الفكر القومي العربي"، وجرى الحديث عن "الرؤية القومية" لكل من الحاضر والمستقبل، فضلاً عن قراءة الماضي في ضوئها، ليتم ربط شعار "الأمة الواحدة"، بما للأمة من واقع تاريخي.
وأخذ الفكر القومي نفسه بصياغة أطروحاته، فكان الجانب الأكبر منها قد جاء مما سيُعرف بـ"الحلم القومي"، والجانب الآخر من الواقع الذي كان يعيش تحت ضغط قوّتين: القوّة الثورية الجديدة الطامحة في بناء واقع جديد، أساسه "وحدة الأمة"، ومبدؤه التكامل في مستويات الحياة كافة، والقوّة الأخرى "القوة الحاكمة" التي إن كان بعضها قد تخلّص من التبعية المباشرة للاستعمار، فإنه انتهى الى الدكتاتورية السلطوية، حيث تمثّل الحاكم نفسه بما له من عظمة (وإن كان الجانب الأكبر منها وهماً)، فانفرد بالسلطة والنفوذ، فإذا هو أول مَن ستصطدم به تجربة الوحدة من انكسارٍ، شكَّل عامل نكوص لفكرتها، وقاد، بسرعة غير متوقعة، إلى ترسيخ فكرة وواقع "الدولة القطرية" التي ضربت في الصميم فكرة "الأمة القومية".
هذا الواقع نفسه هو ما سيُغلق الأبواب بوجه الفكر التجديدي (سيُعرف في أدبيات سياسية بالفكر الثوري)، ويعطل "العمل القومي"، بما في ذلك العمل الثقافي الذي حاول العاملون المخلصون فيه ضمان حصانته، وحمايته من التصدعات التي أصابت واقع العمل القومي، لنجد، منذ سبعينات القرن العشرين تحديداً، الصراع في الواقع العربي، وقد تحوَّل: فالاستعمار الذي وجد نفسه "مهزوماً" أمام هذه القوة الجديدة، بدأ يفكر بما عليه أن يتخذ من طريق لاستعادة هيمنته، بشكل أوسع وأكبر، على "أمة" أضحت أضعف. وساعد على ذلك، باستجابة إيجابية للمخطط أو بحسن نية، "حكام وطنيون"، و"مثقفون حداثيون"، لم تسلم أطروحاتهم من الشطط والانحراف بلغة الثقافة وتوجهاتها، ومن سياسيين وجدناهم يتراجعون بتراجع التصورات الكبرى للأمة التي لم تعد واقعاً له تاريخه، وإنما أضحت "بيئة" لأفكار ورؤى جديدة، سرعان ما شكلت منطلقاً لـ"تاريخ جديد"، عماده: الروح القطرية، والنزعات الإثنية، والتوجهات الدينية التي ستأخذ صبغة طائفية، تعتمد منطقاً متخلفاً عما للتاريخ من مسارات متقدمة في الحياة والفكر والواقع، وقد عملت جميعها، وبتواصل، منظم أو عفوي، على تمزيق وحدة النسيج المجتمعي، فكيف بوحدة الأمة؟
هذا التفكيك الذي بدأ بـ"اللغة"، ومنها، إلى الانتماءات العرقية والمذهبية، يشكل، اليوم، حالة وضعت الأمة خارج التاريخ، وفتحت الطريق أمام عودة الاستعمار الذي بدأ "مشروعه"، في هذه المرة، لا بـ"التدوين" حبراً على ورق، وإنما بوسائل عملية، وأساليب معدّة سلفاً، إن كانت قد بدأت بالغزو والاحتلال، فهي تتواصل بإعادة تشكيل الواقع على نحو حظيّ بقبول طرفين: الأول الطارئون على هذه الأمة، وجوداً وتاريخاً، من إثنيات وعصائب طائفية، شأنهم في هذا شأن كل أقلية في التاريخ. والطرف الآخر يمثله الأتباع والمنضوون في المشروع الاستعماري، المستجيبون لمصالحهم على حساب مصلحة الوطن. وكانت لذلك نتائجه الفادحة، واقعاً وحالة تاريخية. فما آلت إليه الحال في العراق على أيدي "الجماعات الفرقية" جعلت الوضع المستقبلي للبلد أعقد بكثير وأصعب من "حالة الاحتلال". لقد فجرت هذه "الجماعات" من الخلافات الداخلية ما كان له أن مزّق النسيج الاجتماعي للمجتمع، لتُصبح الصلة الثقافية داخله ضعيفة، أو منبتّة بحكم استجابتها، غير المتوقعة، للتبعية الفرقية، فبدأنا نشهد الواقع الراهن للمجتمع، وقد تحوّل مسرحاً لتصدعات في ما كان له من بنى فكرية، أو حُسبتْ على ما هو فكري، فضلاً
عن حصول انشقاقاتٍ طالت ما كنّا نقول به من "وحدة المكوِّن الاجتماعي"، قادت، بدورها، إلى نزاعاتٍ جعلت منها "المليشيات الشرعية" محرِّكاً لحرب أهلية موقوتة، قد تندلع في أي لحظة، إن لم تكن قد بدأت في تنفيذ "برنامجها".
أمام هذا الوضع، وفي محاولات مواجهة مخاطره، الحاضرة والمستقبلية، سيصبح الغازي الأميركي "منقذاً"، يدعوه السياسي إلى أن "يلعب دوره" في تفكيك "الاحتلال الداخلي"، والحد من سطوة "الاستعمار الوطني"، ويُرحب به رجل الشارع الذي لم يعد يطلب ما هو أبعد من الأمن والأمان، ويسكت عنه المثقف ـ في أفضل ما لهذا المثقف من "حالات" و"مواقف"، لا يدعو كثير منها إلى الاعتزاز.
يُصاحب هذا كله، ويُكرّسه، ما يمكن أن نُطلق عليه تسمية "الخطاب الغرائزي"، وهو خطاب يتوجه الى الإنسان الاجتماعي من طريق إثارة غريزته، بما لها من تكوين قائم على "الدعوة" و"الاستجابة"، لا على "العقل"، وما يعتمد من "موازين معرفية". ولعل الخطير في الأمر هو أن يأخذ هذا التوجه "بُعداً إيمانيّاً"، يتبلور في منطق جمعي، تبرز معه، أو بفعله، حالة تدمير ثقافي منظّم، يتزامن مع إشاعة حالتيْ الطاعة والخضوع وتنميتهما. فنحن لا نحتكم، اليوم، وجوداً وحركة وجود، إلى حالة حضارية، أو ثقافية تاريخية ذات بُعد معرفي، أساسه العقل ومبناه العقلانية، وإنما نحن في الصُّلب من حالة التخلف التي يجري تكريسها: بُعداً اجتماعياً لوجودٍ لا يُراد له الارتقاء والتقدم.
ومع كوننا مجتمعاً يُفترض به أن يتلمس طريقه إلى ما يمكن أن يُقيم عليه وجوده الصحيح والسليم، إذا به مجتمعاً يتعصّب لـ"هويته الطائفية"، ويُوغل في مدّ جذور "العرقية" بمقومات البقاء والاستمرار، حتى أصبحت معها مسألة "الانتماء الوطني"، بالمعنى التاريخي والبعد الشامل لما للوطن من وجود، مجرّد "شكل خارجي"، لا جوهر له ولا حقيقة، بعد أن أصبح الواقع المجتمعي نهب تيارات قاهرةٍ، تشدّه إلى ما من شأنه أن يقتلعه من جذوره التاريخية، وقد اقتلعوا تلك الجذور أصلاً.